شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
سوريون في البرتغال… لن يخدعنا الحنين

سوريون في البرتغال… لن يخدعنا الحنين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والمهاجرون العرب

الأربعاء 5 فبراير 202510:17 ص

في صباح التاسع من كانون الأول/ ديسمبر 2024، ذهبت إلى عملي في العاصمة البرتغالية لشبونة، لكن هذه المرة بمشاعر مختلفة، مشاعر حملت في طياتها مزيجاً من الحماسة والتساؤلات العميقة. فقد استيقظ العالم على خبر سقوط نظام بشار الأسد، الحدث الذي انتظره ملايين السوريين منذ أكثر من 12 عاماً، وهو حدث بدا وكأنه مستحيل حتى اللحظة الأخيرة، لكنه أصبح حقيقةً بالفعل. 

عندما وصلت إلى مكتبي، كنت أترقّب لقاء زملائي السوريين الذين عايشوا سنوات الحرب والقهر واللجوء. ظننت أنني سأراهم يحتفلون أو يتحدثون بحماسة عن مستقبل سوريا بعد زوال النظام الذي أرغمهم على الرحيل، لكنني فوجئت بأنّ المشاعر لم تكن كما توقّعت. لم تكن هناك فرحة عارمة، بل خليط من الدهشة والحذر، وكأنّ ما جرى لا يزال غير قابل للتصديق، أو ربما لأنّ الأسئلة التي بدأت تتدفق في عقولهم كانت أكثر تعقيداً من مجرد سقوط نظام حكم.

العودة أصعب من الرحيل

لم يكن سقوط الأسد مجرد حدث محليّ، بل صاحبته أصداء عالمية، خصوصاً في أوروبا حيث تتواجد جاليات سورية كبيرة حصلت على اللجوء في السنوات الماضية، هرباً من الحرب المستعرة في بلادها. وبينما سارعت بعض الدول الأوروبية، مثل النمسا وبلجيكا والسويد وسويسرا والدنمارك والنرويج، إلى تعليق النظر في طلبات اللجوء للسوريين، اتخذت البرتغال نهجاً مغايراً.

فقد أعلن رئيس الوزراء البرتغالي، لويس مونتينيغرو، أنّ بلاده لن تعيد اللاجئين السوريين إلى بلادهم، كما أنها لن تُعلّق أي طلبات لجوء قيد الدراسة حالياً، موضحاً أنّ البرتغال قد تضطر إلى إعادة النظر في قبول طلبات جديدة في المستقبل إذا ازدادت الضغوط نتيجةً لقرارات الدول الأخرى.

هذا الموقف البرتغالي، الذي اتّسم بالحذر والإنسانية في آنٍ واحد، يعكس واقعاً معقداً؛ فبينما تنظر الدول الأوروبية إلى سقوط النظام كفرصة لإعادة تقييم سياسة اللجوء، ينظر السوريون في الشتات إلى مستقبلهم بقلق أكبر: هل يعني سقوط الأسد أنهم يجب أن يعودوا؟ أو أن التغيير لا يزال غير كافٍ لضمان عودة آمنة لهم؟

ذكريات مشوّهة 

التقى رصيف 22، بعدد من السوريين المقيمين في البرتغال، في محاولة لفهم مشاعرهم تجاه التغيير الذي حصل في سوريا، ومدى استعدادهم للعودة. كان من بينهم وائل علي، شاب سوري يبلغ من العمر 33 عاماً، غادر سوريا قبل نحو تسع سنوات عبر رحلة معقدة وخطرة شملت اليونان وبلجيكا، قبل أن يستقرّ في البرتغال.

يستعيد وائل ذكريات رحلته القاسية قائلاً: "كنت شاباً في الثالثة والعشرين من عمري، عندما غادرت سوريا. لم يكن لديّ أيّ خيار آخر. كنت أعلم أنّ البقاء يعني الانخراط في التجنيد الإجباري، وأرفض تماماً أن أُستخدم في حرب ضد أهلي وأصدقائي. رأيت كيف تمّ الزجّ بشباب مدينتي في خطوط المواجهة الأولى، وكيف عاد كثر منهم جثثاً هامدةً، بينما اختفى آخرون إلى الأبد. اتخذت قراري بالهروب، برغم معارضة أهلي، فذهبت فجراً دون وداع. عندما استيقظوا، وجدوا غرفتي فارغةً، ولم يبقَ فيها سوى بقايا ذكرياتي".

عبر البحر، واجه وائل خطر الموت خلال رحلته إلى اليونان. يتذكر تلك الليلة قائلاً: "كنّا أكثر من أربعين شخصاً في قارب صغير وسط بحر هائج. كدت أفقد حياتي أكثر من مرة، لكننا نجونا. عندما وصلت إلى جزيرة يونانية، شعرت بأنه كُتب لي عمر جديد، لكنني كنت أعلم أن هذه ليست النهاية، بل مجرد بداية رحلة أخرى نحو المجهول".

بعد كل هذا الدمار والخراب، أين هي سوريا التي أعرفها؟ سوريا التي تركتها لم تعد موجودةً. نعم، لي هناك ذكريات وأهل وأصدقاء، لكن لا أستطيع أن أهدم كل ما بنيته في السنوات الأخيرة، وأعود إلى وطن لم أعد أنتمي إليه

بعد أشهر من الانتظار، انتقل وائل إلى بلجيكا، لكنه لم يجد هناك ما كان يبحث عنه. كانت صعوبات الاندماج واللغة والمجتمع أكبر مما يمكن أن أتصوّر، ما دفعه للانتقال إلى البرتغال، حيث حصل على إقامة عمل قانونية، مكّنته من بناء حياة مستقرة. واليوم، بعد تسع سنوات، أصبح قاب قوسين أو أدنى من الحصول على الجنسية البرتغالية، وهو أمر لم يكن ليحلم به عندما غادر سوريا لأول مرة.

لكن، برغم استقراره في البرتغال، لم يكن وائل متحمساً لفكرة العودة إلى سوريا بعد سقوط الأسد. يقول بصوت يحمل مزيجاً من الحنين والخذلان:

"بعد كل هذا الدمار والخراب، أين هي سوريا التي أعرفها؟ سوريا التي تركتها لم تعد موجودةً. نعم، لي هناك ذكريات وأهل وأصدقاء، لكن لا أستطيع أن أهدم كل ما بنيته في السنوات الأخيرة، وأعود إلى وطن لم أعد أنتمي إليه. هناك حاجز كبير بيني وبين سوريا، حاجز يكبر يوماً بعد يوم، حتى أصبح جبلاً لا يمكن زحزحته".

سقوط النظام غير كافٍ

برغم أنّ "وائل" لم يُبدِ رغبة في العودة، إلا أنه يرى أن التغيير الذي حصل في سوريا قد يكون فرصةً للبلاد للخروج من نفق الضياع. يقول: "لو حدث هذا التغيير قبل أن أغادر، ربما كنت سأبقى وأحاول بناء مستقبلي هناك، حتى لو عشت فقيراً أو مريضاً. لكن اليوم، بعد أن قطعت هذه المسافة الكبيرة، لا أستطيع العودة. أتمنى أن تنجح الحكومة الجديدة في إعادة بناء سوريا، لأنّ هناك أناساً ما زالوا يعيشون هناك ويحتاجون إلى فرصة جديدة".

أما أحمد عامر، وهو مهندس سوري يبلغ من العمر 30 عاماً، فكان واحداً من هؤلاء الذين اختاروا طريق الهجرة في وقت مبكر. تخرّج أحمد في سوريا قبل أكثر من سبع سنوات، لكنه أدرك سريعاً أنّ بلاده لم تعد توفّر أيّ مستقبل لأمثاله. يقول بأسف: "لم تكن هناك حياة في سوريا، لم يكن هناك مستقبل. كان انقطاع الكهرباء جزءاً من الحياة اليومية، وكانت الفرص شبه معدومة. حاولت التمسك بالأمل بعد تخرجي، لكنني كنت أعلم في داخلي أنني لا أريد أن أقضي حياتي في هذا الفراغ. لذلك، قررت أن أبحث عن أي فرصة للخروج".

وبالفعل، نجح أحمد في مغادرة سوريا إلى إحدى دول أمريكا الجنوبية التي فتحت باب التأشيرات الإنسانية في تلك الفترة، ما منحه فرصة حياة جديدة. هناك، وجد الأمان الذي افتقده في وطنه، ورأى الأمل الذي لم يكن يراه إلا في الأحلام. وبعد سنوات من العيش في أمريكا الجنوبية، حصل على جنسيتها، وهو ما مكّنه من القدوم إلى البرتغال بتأشيرة البحث عن عمل، وهي إحدى أشهر التأشيرات البرتغالية التي تتيح للمهاجرين البحث عن فرص داخل البلاد بطرق قانونية.

أحمد عامر: أنا لا يهمني إذا كان الحاكم الجديد إسلامياً أو غيره، ما يهمني أن يحكم بالقانون لا بالشريعة وقطع يد السارق، وهذه الأحكام التي لا تتناسب مع الدولة المدنية.

يقول أحمد إنه استطاع خلال أقل من عام، الحصول على فرصة عمل جيدة في إحدى أكبر الشركات البرتغالية، وهو الآن يعمل على بناء مستقبله في أوروبا. أما عن رأيه في العودة إلى سوريا بعد سقوط النظام، فقد كان موقفه حاسماً: "أنا لا يهمني إذا كان الحاكم الجديد إسلامياً أو غيره، ما يهمني أن يحكم بالقانون لا بالشريعة وقطع يد السارق، وهذه الأحكام التي لا تتناسب مع الدولة المدنية. ولن أعود إلى سوريا سوى للزيارة فقط. الشيء الوحيد الذي أفتقده هو الحارة التي وُلدت فيها، حيث لا يزال والداي يعيشان. لكن سوريا كدولة لا أشعر بأيّ حنين إليها. أنا سعيد بما حدث من تغيير، لكن الواقع يقول إنّ سوريا فقدت كل معاني الدولة. لا يوجد قانون، لا يوجد اقتصاد، لا يوجد مجتمع مستقرّ. النظام السابق لم يسقط فقط، بل جرف معه كل شيء، وأعاد سوريا إلى نقطة الصفر. سوريا سيتم تقسيمها ولن تقف على قدميها قبل خمس سنوات من الآن".

في الوقت الذي يرى فيه البعض أنّ العودة إلى سوريا لم تعد خياراً مطروحاً، هناك من لا يزال يحتفظ بأمل العودة، لكن وفق شروط تضمن له الحياة الكريمة والاستقرار. بالنسبة للبعض، لم يكن سقوط النظام وحده كافياً لاتخاذ القرار النهائي، بل إنّ عوامل الأمن، الاقتصاد، والتعليم تظلّ محددات رئيسيةً في اتخاذ هذه الخطوة.

هويّة مجزّأة

نور طارق، 38 عاماً، واحدة من النساء السوريات اللواتي استطعن الاندماج بشكل كامل في المجتمع البرتغالي، بعد أن أصبحت جزءاً من سوق العمل في لشبونة، حيث تعمل في أحد المطاعم الشهيرة. خلال سنواتها في البرتغال، لم تندمج نور وحدها، بل نجح أطفالها أيضاً في التأقلم مع المجتمع البرتغالي، بعد أن التحقوا بالمدارس هناك وتعلّموا اللغة بطلاقة، وسط دعم كامل من الحكومة البرتغالية التي قدمت لهم برامج اندماج شاملة، وهي امتيازات لم يكن بوسعها حتى أن تحلم بها في سوريا.

وبرغم ذلك، لا تخفي نور ارتباطها القوي بوطنها سوريا، وتصف نفسها بأنها "نصف سورية ونصف برتغالية"، إذ حاولت طوال السنوات الماضية الحفاظ على الثقافة السورية داخل منزلها، وزرعها في أبنائها الذين لم يزوروا سوريا ولو مرة واحدة منذ ولادتهم. تقول: "أطفالي يعيشون هنا، ويتحدثون البرتغالية بطلاقة، ويدرسون وفق مناهج أوروبية حديثة، لكنني حرصت على أن أجعلهم يعرفون جذورهم جيداً. يتحدثون العربية في المنزل، يعرفون العادات والتقاليد السورية، ويشاهدون المسلسلات السورية القديمة. لا أريد أن ينفصلوا تماماً عن هويتهم الأصلية، لأنني برغم كل شيء، لا أرى البرتغال بديلاً نهائياً عن وطني".

لن أعود إلا إذا توفّر لي مشروع يضمن الاستقرار الاقتصادي لعائلتي وتعليماً جيداً لأبنائي كما في البرتغال.

لكن ما يميز نور، عن غيرها من السوريين في البرتغال، أنها لا ترفض فكرة العودة إلى سوريا، بل تستعد لزيارتها قريباً للمرة الأولى منذ أكثر من عشر سنوات. تتحدث عن هذه الرحلة بحماسة قائلةً: "لم أزُر سوريا منذ تركتها قبل أكثر من عقد. كنت أعتقد أنني لن أعود أبداً، لكن اليوم، مع هذه التغيّرات، أشعر بأنني بحاجة إلى رؤية بلدي من جديد. أريد أن أزور الحيّ الذي نشأت فيه، أن أرى أهلي وأقاربي، أن أتجول في الشوارع التي تحمل ذكرياتي".

لكن نور لا ترى في العودة مجرد زيارة عاطفية، بل تفكر جدّياً في خيار الاستقرار الدائم في سوريا، بشرط أن تتوفّر لها الظروف المناسبة. توضح قائلةً: "لن أعود فقط من أجل العاطفة والحنين. إذا تمكّنت من فتح مشروع تجاري يضمن لي ولعائلتي الاستقرار الاقتصادي، وإذا وجدت أن أبنائي يمكنهم الحصول على تعليم جيد مثل الذي يتلقّونه هنا في البرتغال، فلن أمتنع عن العودة. أنا لم أقطع علاقتي بوطني، وأعتقد أن سوريا بحاجة إلى كل من يستطيع أن يساهم في إعادة بنائها، لكن لا يمكنني أن أضحّي بمستقبل أبنائي لمجرد العاطفة".



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image