تُمثل القاهرة حالة نموذجية لكيفية هيمنة السوق على التخطيط الحضري، حيث لم تعد عملية بناء المدينة تستجيب لحاجات سكانها الفعلية، بل باتت محكومة بمعادلات الربح والخسارة. خلال العقود الأخيرة، لم يكن التوسع العمراني عشوائياً أو مجرّد استجابة لنمو سكاني متزايد، بل كان نتيجة توجيه واعٍ للموارد والمشروعات نحو طبقات محدّدة، على حساب البنية التقليدية للمدينة. لم يكن الهدف تحسين حياة المواطنين كافة، بل إعادة إنتاج الفضاء الحضري بحيث يخدم مصالح رأس المال والاستثمارات العقارية، تاركاً الطبقات الفقيرة والعاملة في مواجهة دائمة مع واقع حضري متدهور.
عبر هذه السياسات، باتت القاهرة تعاني ثنائية حادة بين المركز والهامش، ليس فقط من حيث الخدمات والبنية التحتية، بل حتى على مستوى إمكانية الوصول إلى المدينة ذاتها، ففي الوقت الذي تُهمل فيه الأحياء الشعبية، وتعاني تآكل الخدمات الأساسية، نجد صعوداً ممنهجاً لـ"جزر عمرانية" مغلقة، معزولة عن محيطها، حيث تصمّم المدن داخل المدن، كما هو الحال في الكومباوندات والمشروعات العقارية الموجهة للنخب الاقتصادية.
على نطاق أوسع، يُمكن اعتبار العاصمة الإدارية الجديدة تتويجاً لهذه الرؤية، فهي ليست مجرد مشروع عمراني ضخم، بل أداة لإعادة توزيع مراكز النفوذ داخل المدينة. بدلاً من تطوير القاهرة نفسها، تم تبنّي خيار نقل مركز الحكم والاقتصاد إلى مساحة جديدة، مصمّمة منذ البداية لتكون خالية من العشوائيات، ومفصولة عن الطبقات الأفقر، ما يعمّق الإقصاء الاجتماعي، ويعيد إنتاج المدينة ككيان خاضع لمنطق الخصخصة والاستثمار العقاري، لا كمساحة حياة مشتركة.
في هذا السياق، يطرح ديفيد هارفي في "مدن متمردة" فكرة "الحق في المدينة"، باعتباره ليس مجرد حقّ في السكن أو التنقل داخلها، بل حقّ في تشكيلها وإنتاجها وفقاً لحاجات جميع ساكنيها، وليس فقط وفقاً لمتطلبات السوق. من هذه الزاوية، تصبح القاهرة نموذجاً واضحاً لمدينة تحوّلت من فضاء اجتماعي إلى سلعة عقارية، خاضعة للعرض والطلب، حيث لا يملك الفقراء سوى خيار التأقلم مع التهميش، أو النضال لاستعادة مكانهم في المدينة.
باتت القاهرة تعاني ثنائية حادة بين المركز والهامش، ليس فقط من حيث الخدمات والبنية التحتية، بل حتى على مستوى إمكانية الوصول إلى المدينة ذاتها
من "تحسين القاهرة" إلى إقصاء سكانها
لم يكن "التطوير الحضري" في القاهرة يوماً مجرد مسألة تحسين للبنية التحتية أو رفع جودة الحياة، بل كان امتداداً لنهج اقتصادي يخضع المدينة لمنطق السوق بدلاً من تلبية حاجات سكانها. الخطاب الرسمي لهذه المشاريع يروّج لفكرة التحديث والتطوير، لكنه يخفي وراءه عملية منهجية لإعادة توزيع الفضاء الحضري، حيث يتم تصفية المناطق الشعبية واستبدالها بأحياء تخدم رأس المال والاستثمار العقاري.
التاريخ الحديث للعاصمة يكشف أن هذه التغييرات لم تكن مجرد استجابة عفوية للنمو العمراني، بل كانت جزءاً من استراتيجية اقتصادية تهدف إلى إزاحة الفقراء من المركز، وخلق مساحات حصرية للنخب، سواء داخل المدينة عبر انتشار مشروعات الكومباوندات، أو خارجها عبر مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، الذي يعيد رسم خريطة السلطة في مصر.
في العقود الأخيرة، أصبح السكن في القاهرة أكثر من مجرد مأوى، بل بات أداة لخلق عزلة طبقية منظمة. نشأت ظاهرة الكومباوندات كاستجابة لرغبة النخب الاقتصادية في الانفصال عن النسيج الحضري التقليدي، فظهرت مجتمعات مسوّرة تتمتع بخدماتها الخاصة، بعيداً عن الفوضى والازدحام الذي تعاني منه بقية المدينة.
لم تعد القاهرة مدينة واحدة، بل تحولت إلى شبكة من الجزر السكنية المعزولة، حيث تُبنى المشروعات الفاخرة خلف أسوار عالية، تحرسها فرق أمنية، وتُصمّم بحيث تكون مستقلة تماماً عن المدينة. سكان هذه الكومباوندات لا يحتاجون إلى المدينة الخارجية إلا نادراً، إذ توفر لهم مجتمعاتهم كل ما يحتاجونه من مدارس ومستشفيات ومراكز تسوق، وحتى شبكات طرق منفصلة، ما يعزّز تآكل مفهوم المجال العام وتحويل المدينة إلى كيان مجزّأ طبقياً.
هذا التوسع في المجتمعات المغلقة لم يكن مجرد نتيجة لتحولات اقتصادية، بل جاء مدعوماً بانسحاب الدولة من مسؤولياتها تجاه الأحياء الفقيرة، حيث تُوَجَّه الاستثمارات نحو الإسكان الفاخر، في حين تبقى البنية التحتية العامة في حالة انهيار مستمر. وبهذا، لم تعد الدولة الفاعل الأساسي في التخطيط الحضري، بل أصبح المطوّرون العقاريون هم الذين يحدّدون شكل المدينة وفقاً لحسابات الربح، فيما يظل سكان المناطق الشعبية عالقين بين تدهور الخدمات وغياب البدائل الحقيقية.
إذا كان صعود الكومباوندات قد أدى إلى إعادة توزيع السكان داخل القاهرة، فإن مشروع العاصمة الإدارية يمثل محاولة أكثر جذرية لإعادة رسم خريطة النفوذ السياسي والاقتصادي في مصر. لم يكن المشروع مجرد استجابة للازدحام السكاني أو البنية التحتية المتهالكة، بل كان إعلاناً بأن المدينة القديمة لم تعد تصلح كمركز للحكم، وأن النخب تحتاج إلى فضاء جديد، أكثر انضباطاً، وأكثر انعزالاً عن المدينة الحقيقية.
لم يكن نقل العاصمة مجرد توسع جغرافي، بل كان إجراءً سياسياً لإعادة تشكيل العلاقة بين السلطة والمجتمع، حيث يتم فصل النخبة الحاكمة عن الطبقات الفقيرة فيزيائياً، ما يعزّز شعور المواطنين بأنهم خارج معادلة التنمية. وبينما تُنفق مليارات الجنيهات على إنشاء مقرات حكومية حديثة، تظل المناطق الأكثر احتياجاً، مثل الدويقة وإمبابة وعزبة الهجانة، على هامش المشهد، بلا بنية تحتية لائقة أو خطط تطوير حقيقية، ما يزيد من الهوة بين المدينة الرسمية والمدينة الفعلية.
تعكس هذه الرؤية اعتقاداً بأن الحل لا يكمن في إصلاح القاهرة القديمة، بل في بناء مدن جديدة تماماً، مصممة منذ البداية وفقاً لمعايير السوق لا لمتطلبات العدالة الاجتماعية. بذلك، تتحول القاهرة إلى مدينة مزدوجة: الأولى تعاني من التدهور والعشوائية بسبب إهمال الدولة، والثانية مخططة ومنظمة لكنها مغلقة على نخبها، وفي هذا المشهد، يجد المواطن العادي نفسه عالقاً بين مدينتين، في بلد أصبح فيه العمران أداة للإقصاء أكثر منه وسيلة للتنمية.
تتحول القاهرة إلى مدينة مزدوجة: الأولى تعاني من التدهور والعشوائية بسبب إهمال الدولة، والثانية مخططة ومنظمة لكنها مغلقة على نخبها
من يملك حق الحركة داخل المدينة؟
إذا كان السكن قد أصبح وسيلة للفصل الاجتماعي، فإن المواصلات تمثل أداة أخرى لإعادة تشكيل المدينة وفقاً لمنطق الامتيازات الطبقية، فالقدرة على التنقل داخل القاهرة ليست مجرد مسألة لوجستية، بل تعكس من يملك الحق في الوصول إلى الفرص والموارد، ومن يُترك لمواجهة عوائق مستمرة في حياته اليومية.
تعاني شبكة النقل في القاهرة من أزمة مزدوجة: ازدحام خانق، وبنية تحتية غير كافية، حيث لم تعد وسائل المواصلات العامة قادرة على استيعاب العدد الهائل من المستخدمين. بدلاً من الاستثمار في تحسين هذه الشبكة لصالح الغالبية العظمى من السكان، توجه الدولة جزءاً كبيراً من ميزانية النقل نحو مشاريع مثل المونوريل، وهو نظام يستهدف أساساً ربط العاصمة الإدارية والمدن الجديدة بمناطق النخبة الاقتصادية، أكثر من كونه حلاً عاماً للأزمة المرورية. في هذه الرؤية، لا تُعامل المواصلات كحق مدني أساسي، بل كمرفق حصري يُعاد تصميمه لخدمة فئات محددة، تاركاً سكان الأحياء الفقيرة والأطراف في مواجهة يومية مع مشقة التنقل.
في ظل غياب حلول رسمية فعالة، يلجأ الملايين إلى وسائل نقل غير رسمية مثل الميكروباص والتوك توك، التي نشأت بوصفها استجابة تلقائية لفراغ الدولة في تنظيم المواصلات العامة. هذه الوسائل، رغم فوضويتها، تظل شريان حياة رئيسي للمهمشين، حيث توفر لهم بدائل ميسورة التكلفة، وإن كانت على حساب الأمان والتنظيم. لكن الدولة، بدلاً من تطوير هذه الأنظمة أو إدماجها في التخطيط الحضري، تتعامل معها كظواهر عشوائية ينبغي تقليصها، دون تقديم بدائل حقيقية، ما يجعل أزمة التنقل في المدينة انعكاساً آخر لصراع أوسع على من يملك "حق المدينة" ومن يُقصى من مراكزها الحيوية.
هل يمكن استعادة المدينة؟
القاهرة، كما يوضح تحليل ديفيد هارفي، ليست مجرد تجمع حضري ضخم، بل فضاء يتشكل وفقاً لصراع مستمر على السلطة والموارد. ما يحدث في المدينة ليس نتيجة تطور طبيعي، بل هو إعادة هندسة ممنهجة لنمط الحياة، حيث تتحول المساحات العامة إلى سلع، والتنقل إلى امتياز، والسكن إلى أداة للتمييز الطبقي. إذا استمرت هذه السياسات العمرانية بنفس النهج، فإن المدينة ستصبح أكثر انقساماً، بين طبقة تتحرك بحرية داخل جزر مغلقة، تمتلك شبكات نقلها وبنيتها التحتية الخاصة، وبين أغلبية محاصرة في مساحات غير مؤهلة للحياة، تعاني من التهميش وقلة الموارد.
لكن، وكما أثبتت التجارب في مدن أخرى، فإن الصراع على "الحق في المدينة" لا يبقى نظرياً أو أكاديمياً، بل يتجسّد في أشكال مختلفة من المقاومة اليومية. سواء من خلال الحركات الاجتماعية التي تطالب بحقوق السكن والتنقل، أو عبر أنماط التنظيم الذاتي التي يبتكرها سكان المناطق الشعبية لمواجهة إهمال الدولة، فإن القاهرة لم تكن يوماً فضاء خاضعاً بالكامل للسلطة. فالسؤال الحقيقي ليس ما إذا كانت المدينة ستبقى على هذا الحال، بل ما إذا كان سكانها سيقبلون بهذه المعادلة، أم أنهم سيعيدون فرض حضورهم داخل المشهد الحضري، ليطالبوا بمدينة تُبنى لصالحهم، لا ضدهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ 3 ساعاتمقال رائع..
مستخدم مجهول -
منذ يومينالحبة الحمراء أيديولوجية يقتنع بها بعض من النساء والرجال على حد السواء، وبرافو على هذا الشرح الجميل
Hani El-Moustafa -
منذ 3 أياممقال أكثر من رائع واحصائيات وتحليلات شديدة الأهمية والذكاء. من أجمل وأهم ما قرأت.
حوّا -
منذ أسبوعشي يشيب الراس وين وصل بينا الحال حسبي الله ونعم الوكيل
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل هذه العنجهية فقط لأن هنالك ٦٠ مليون إنسان يطالب بحقه الطبيعي أن يكون سيدا على أرضه كما باقي...
Ahmed Mohammed -
منذ أسبوعاي هبد من نسوية مافيش منطق رغم انه يبان تحليل منطقي الا ان الكاتبة منحازة لجنسها ولا يمكن تعترف...