تحكي لوحة "الوردة الحمرا" في المسلسل السوري "بقعة ضوء"، عن رجل يمتلك محلاً لبيع الزهور، وعن كيفية استقباله وترحيبه بزبائنه في يوم عيد الحبّ، والذي تُظهره اللوحة يوماً حميمياً وماطراً وممتلئاً بالشخصيات التي ترتدي الملابس الحمراء الزاهية احتفاءً به.
على طول مشاهد اللوحة، يظهر الرجل في تعامله مع زبائنه الذين يقصدونه ليشتروا الزهور والهدايا لأحبائهم في منتهى اللباقة واللطف، حتى إنّه يحاول الإصلاح وإزاحة الخلاف بين زبائنه وأحبائهم في أكثر من مرة.
يَظهر الرجل أمام زبائنه العاشقين والعاشقات كأنّه كيوبيد الحبّ، يُلقي سهام كلماته اللطيفة والجميلة ليوفّق بين قلوبهم ويزيدها حبّاً وعشقاً، ويقول عن جمالية المناسبة أمام أحد الزبائن: "القلوب لازم تفرح أكتر وتدقّ أكتر، ولما بتدقّ القلوب أكتر بصير كل شي أحلى، وجهنا أحلى، روحنا أحلى، الحياة بعيونا أحلى".
تكون عيون الرجل كأنّها كرنفال احتفالي موجّه طوال اليوم للعاشقين والعاشقات الذين يزورونه، تحييهم وتقول لهم في كلّ رمشة منها: "وسلامٌ على العاشقين، قلعةُ الجمال الأخيرة، ومشروع الحبّ المضاد لكلّ خطابات الكراهية التي تجتاح العالم".
تبقى عيونه كذلك، حتى تلك اللحظة التي يعود فيها إلى منزله، يفتح الباب ويشاهد ابنته تَحمل بين يديها وردة حمراء، تتأمّلها وتشمّها، فتتحوّل عيونه وتتبدّل، من عيون ملؤها الأبوية والحنوّ إلى عيون مليئة بكلّ أشكال الغضب.
يقترب من ابنته، ويقول لها بصوت غاضب ومرتجف: "وردة حمرا، حاملة بإيدك وردة حمرا، ولك ليكون عشقانة، ولك أنا بنتي في بيتي تكون عشقانة، ولك أنا بدبحك، بشختك علبلوعة شخت، ولك شو مفكرة حالك، وردة حمرا بقلب بيتي وعشقانة، يخرب بيتك".
تنتهي اللوحة بمشهد الرجل وهو يضرب ابنته ويوقعها على الأرض، ثمّ يمرّ من فوقها ويدوس بحذائه على الوردة الحمراء التي ما زالت بين يديها، وتجيء اللوحة كمن يُخبر عن معضلة الحبّ في ذهنية رجال ذكوريين، يحبون الحبّ، طالما أنّه لم يقترب ولم يمسّ بناتهم.
ما تحمله القُبلة من دلالات عِشقية هو أكبر كثيراً مما تتضمنه من دلالات جنسية وشهوانية، لأنّها بوقوعها بين العاشقيْن على الشفاه إنّما تأتي بمعنى القبول والتساوي
هل السينما النظيفة ضدّ الحبّ؟
شاهدتُ مؤخراً فيلم "الهوى سلطان"، ولفتتني القبلة التي حدثت في الفيلم بين البطلين سارة (منة شلبي) وعلي (أِحمد داود)، فهي قبلة لها سياقها الدرامي الضروري والمحدّد الذي يكشف عن المشاعر الحقيقية للبطلين تجاه بعضهما، وقد جاءت بعد سنوات طويلة، غيّبت فيها القبلة عن السينما، تحت دواعي ضرورة وجود ما يُسمى بـ "السينما النظيفة" الخالية من القُبَل.
تذكّرتُ مقالاً كنتُ قد كتبته حول "القبلة... ما بين كفتيْ الشعور العشقي والفعل الجنسي"، وادعيتُ فيه بأنّ ما تحمله القُبلة من دلالات عِشقية هو أكبر كثيراً مما تتضمنه من دلالات جنسية وشهوانية، لأنّها بوقوعها بين العاشقيْن على الشفاه إنّما تأتي بمعنى القبول والتساوي، فالقبلة التي يطبعها المحبّ على فمّ محبوبه تجيء كطلب يُقدّمه المحبّ ويحتاج أن ينال قبولاً تاماً من المحبوب، فهي الفعل الذي يتساوى فيه المحبّ مع محبوبه الذي يصبح هو الآخر بدوره محبّاً.
سألتُ نفسي عن مدى المخاتلة اللغوية التي يحتويها مفهوم "السينما النظيفة"، فهذه السينما تُبيح عرض كافة أشكال اللمسات الإيحائية بين الشخصيات، باستثناء القبلة، وكأنّها بمنعها تحارب الحبّ، وتمنع أجمل الطرق التعبيرية عنه بين العاشقين، تلك التي قال عنها عبد الحليم حافظ: "لسا شفايفي شايلة سلامك، شايلة أمارة حبّك ليا".
الأغاني العربية وتصويرات المرأة العاشقة
تقول السيدة فيروز في مقطع من أغنية "بكتب اسمك يا حبيبي": "وهديتني وردة فرجيتا لصحابي خبيتا بكتابي زرعتا علمخدة"، وتقول ماجدة الرومي في مقطع من أغنية "اقبلني هيك": "قلبي أكتر من وردة حمرا، أكتر من موعد غرام".
يجيء المقطع الأوّل ليصوّر الحبّ الذي يتملّك قلب المرأة العربية كتهمة جاهزة، والوردة التي قد تُهدى لها كشيء يجب حجبه ومواراته عن الأعين حتى لا تراه، فتأخذ عليها هذا العشق وتحاسبها عليه، أما المقطع الثاني فيأتي ليخبر الرجل أنّ المرأة والفتاة أكثر نضجاً وحكمة من أن تشغلها أشياء تافهة كالوردة الحمراء التي تُقدّم لها في المناسبات، أو مواعيد الغرام التي يُخطِّط لها معها فتعيش حالة من الزهو الرومانسي الخالي من الواقعية.
أفكّر كلّما استمعت إلى هذا المقطعين في هامشية الوردة الحمراء، في وجودها، في هامش العلاقة العاطفية، كتفصيل ثانوي، وأقول في نفسي: ربّما أكثر مظاهر اللاواقعية في العلاقة بين الرجل والمرأة أن يعتقد الرجل بهامشية الوردة الحمراء، أو أن يظنّ اللفتات الرومانسية هي شيء تافه وتفصيل ثانوي بالنسبة للمرأة.
يلفتني مقطع ثالث من أغنية "وقّف يا أسمر"، تقول فيه السيدة فيروز: "قال لما بتلمحك بين الشباب بتحسّ برعشة لذيذة واضطراب"، وهو مقطع يجيء ليصوّر رجفة امتلاء حواس المرأة عندما تحبّ؛ قلبها الذي يرجف عندما يكتشف كم كان فارغاً قبل الحبّ، عينها التي تتأمّل حبيبها ترجف عندما تكتشف كم من الحسنِ ضاع عليها قبلَ اكتشاف تفاصيل من تحبّ، أنفها الذي يشمّ رائحة حبيبها يرجف عندما يكتشف أنّ رائحته هي كلّ ما يحتاجه، لينسف مئة رائحة كانت تُعشّش فيه وتصوّر نفسها كما لو كانت رائحة الحبّ، جلدها الذي يتحسّس حبيبها يرجف عندما تنتابه قشعريرة يعرف منها معنى الملامسة التي تأتي كما لو كانت قُبلة بين مسامتيْن، ترسوان على جِلدها وجلدِ من تحبّ، عقلها الذي يدرك حبيبها يرجف عندما يعي أنّ فكرته وحدها تكفي كموضوع للأنس وفحوى للمؤانسة.
ربّما أكثر مظاهر اللاواقعية في العلاقة بين الرجل والمرأة أن يعتقد الرجل بهامشية الوردة الحمراء، أو أن يظنّ اللفتات الرومانسية هي شيء تافه وتفصيل ثانوي بالنسبة للمرأة
يصوّر المقطع رجفة امتلاء حواس المرأة بالحبّ، عندما تذهبُ في رحلتها التواقة لاكتشاف حبيبها، في كلّ جزء وتفصيلة، في كلّ حركة وسكنة، في كلّ صوت وتنهيدة، وهي رجفة تملأ حواسها برغبة متناقضة، تجعلها تحبّ حبيبها وتخشاه، تريده وتتحاشاه، وكأنّه مكتوب على المرأة العربية إن أحبّت أن تحبّ بصمت، وألا تكون المبادرة بإعلان هذا الحبّ حتى لو ملأ قلبها وحواسها، أو كما قالت السيدة في مقطع آخر من الأغنية، مكتوبٌ عليها أن تستحي أن تصارحه وتخاف من اللوم الذي يلحقها من هذه المصارحة "بتستحي تقلّك وبتخاف الملام".
حبيبي وردتي القاتلة
في تعريفي للوردة دائماً ما أتذكّر ريلكه؛ ذلك الشاعر الذي قتلته وردة، أفكّر في قصته التي تحكي بأنّه خرج مرة إلى حديقة مقره في سويسرا لكي يقطف بعضاً من ورودها، ولم يكترث لجرح أصابه من إحدى أشواكها، حيثُ إنّ ذلك الجرح جاء مترافقاً مع ظهور بوادر مرض اللوكيميا لديه الذي لم يكترث له أيضاً.
أفكّر في ذلك الجرح الذي خلَّفته الوردة في يد ريلكه وكان إيذاناً بموته، أفكّر في قوة الوردة، في أشواكها الرقيقة التي تبرز في حكاية ريلكه كقوة تقتل، يرد إلى ذهني مقطع أغنية محمد عبد الوهاب الذي يقول فيه: "علشان الشوك اللي في الورد بحبّ الورد"، يقوله وكأنّه يُعلنُ –بعيداً عن التأويلات المجازية- بأنّه لولا قوة الوردة لما أحبّها، لولا احتمالات وخزات الأشواك التي من الممكن أن تُصيبه منها لما وضعها في قائمة تفضيلاته. يُدندن عبد الوهاب في رأسي "علشان الشوك اللي في الورد بحبّ الورد"، أدندن معه وأستحضركَ، أنتَ الذي تحضر أمامي في لبوس الوردة، رقيقاً ومحاطاً بالشوك من كلّ ناحية، وكأنّك في حضورك الأخاذ هذا تريدُ مني أن أكون بلامبالاة ريلكه، فأحبّك وأقتحمك، دون أدنى اكتراث باحتمالات وخزاتك القاتلة، أو كأنّك تريد مني أن أستبدلكَ به، فأجعلكَ بطلَ كلّ مقدماتي المفاهيمية عن الوردة، وأفتتحُ نصي هذا بقولي: "في تعريفي للوردة دائماً ما أتذكّرك، أنتَ يا وردتي القاتلة!".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Batoul Zalzale -
منذ يومأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ يومتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ يومغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...
ماجد حسن -
منذ 4 أياميقول إيريك فروم: الحبُّ فعلٌ من أفعال الإيمان، فمن كان قليلَ الإيمان، كان أيضًا قليل الحب..
Toge Mahran -
منذ أسبوعاكتر مقال حبيته وأثر فيا جدا♥️
Tayma Shrit -
منذ أسبوعكوميديا سوداء تليق بمكانة ذاك المجرم، شكرا على هذا الخيال!