شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
بماذا فكّر بشار الأسد أثناء هروبه؟ 

بماذا فكّر بشار الأسد أثناء هروبه؟ 

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن وحرية التعبير

السبت 8 فبراير 202512:45 م

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.  

ينتعل السيد الرئيس حذاءه، يباشر "عمله" ليباشره شقيقه ماهر: "لقد دخل الإرهابيون حلب"، يكمل خطواته إلى مكتبه وهو لا يشعر بحذائه تحت قدميه، يشعر بالقصر يدور حوله، يأخذ حبتين من ظرف "البنزوديازبين" المهدئ للقلق، يشرب الماء من زجاجة مختومة، يغط في نومٍ عميق ورأسه على طاولة مكتبه. يوقظه ماهر مجدداً: "لقد أصبحوا على أبواب مدينة حماة"، ينظر إلى أخيه ووجهه منتفخ من النوم، وعليه آثار الأقلام والأوراق والتقارير والكتب التي كان وجهه نائماً عليها.

يقف وينظر إلى صورة أبيه المعلقة على الحائط، ليأتيه خيال والده: "افعل ما فعلته أنا في حماة". ينظر الابن ملتبساً يتقمص كاريزما أبيه، ويوجه أمراً للضباط الكبار: "قاتلوا حتى الموت، سأبعث بكل الدعم... الدعم قادم". كان الخوف يأكله، يعرف في قرارة نفسه أنه ضعيف، ولولا الوفاة المفاجئة لأخيه باسل لكان مجرد أخٍ هامشيّ للرئيس، يحاول لفت انتباه الحاضرين في اجتماعات العائلة، لذا حاول تغطية خوفه تحت طبقات من البطش والتعذيب والتنكيل، مع رشّة من البساطة والمنطقية السطحية، حتى يكسب البسطاء من الناس.

تحبين باسل أكثر مني

رفض الروس إرسال الدعم، لكنه أبلغ من حوله أنّ الدعم في طريقه إلى دمشق، لأنه لو أبلغهم ذلك لهربوا وأحدثوا فوضى قد تمنعه من الهرب. نظر إلى الكرسي نظرة الوداع الأخيرة، هاجمته كل تلك الذكريات؛ لقاءاته بكل زعماء العالم وهم يتوسّمون خيراً به. "لماذا حصل كل هذا؟": يخاطب نفسه ويشرد في صورة العائلة، ثم يوقظه رنين الهاتف، يستفيق: "عليّ أن أسرع... لا وقت للوقوف على الأطلال". يتصبب عرقاً ويركض، ليداهمه خيال أمه: "ابق مكانك، قاتل حتى الرمق الأخير ... لا تهرب كالنساء". ينفجر في وجهها: "كنتِ تحبين باسل أكثر مني، لذا ابتعدي عن طريقي". يأتي خيال الأب القائد يهدئ من روع زوجته ووريث الحكم يركض أمامها: "اتركيه يا أنيسة، لم يكن يوماً أهلاً لذلك". يسمع بشار صوت أبيه وكلامه، يعود مسرعاً إلى الغرفة، يمسك بصورة العائلة، يطرحها أرضاً ويكسّرها بعنف وقهر وغلّ، ليهرع نحوه أحد الحراس: "سيدي الرئيس، سيدي الرئيس... السيارة تنتظر في الخارج".

يسمع بشار صوت أبيه وكلامه، يعود مسرعاً إلى الغرفة، يمسك بصورة العائلة، يطرحها أرضاً ويكسّرها بعنف وقهر وغلّ، ليهرع نحوه أحد الحراس: "سيدي الرئيس، سيدي الرئيس... السيارة تنتظر في الخارج"

يندفع الرئيس إلى علبة المحارم، يمسح دموعه، يأخذ حبة "بنزوديازبين" المهدئة للقلق، يشرب من زجاجة الماء رشفتين، يأخذ بعض الأوراق على عجل، ويسرع نحو السيارة التي تقله نحو حميميم. ينظر من زجاج السيارة وهو يرى القطعات العسكرية يسودها الإحباط، ومحاولات الضباط والقيادات رفع معنويات الجنود المنهارة. كانت عبارة واحدة تطن في أذنه تجعله يبكي: "تبكي كالنساء على حكم لم تحافظ عليه كالرجال"، على وقع مشاهد لقاءاته في الأشهر الأخيرة والنصح الذي تلقاه من قيادات عربية وأجنبية، ينظر إلى الشوارع كئيبة خالية، ثم يتساءل في نفسه: "لا يوجد من يصفق لي ويهتف باسمي، لماذا؟ أين هم؟ أين ذهبوا؟"، لا جواب في الأفق، فقد خرج هذه المرة دون علم أحد، حتى السائق الشخصي كان يعتقد أنه ذاهب إلى ريف اللاذقية لتفقد المواقع العسكرية هناك، ثم أخبره أنه سيمر إلى حميميم في البداية، فأوصله مدخل المطار حيث كانت سيارة أخرى تنتظره. نزل الرئيس من السيارة الأولى وطلب من سائقه الانتظار بضع دقائق في انتظار الأوامر، وعندما صعد الرئيس في السيارة الثانية، نزل منها عنصر مسلح، أطلق النار على السائق المنتظر وذهب الاثنان إلى داخل المطار.

لحظة الحقيقة 

أخبر الرئيس العنصر الثاني أنه سيأخذه معه إلى موسكو، فهو بحاجة إلى من يحميه هناك. تيبس العنصر في مكانه حين علم أنّ الرئيس يهرب الآن. تفجّر دماغه وهو يتذكر إخوته الثلاثة الذين "استُشهدوا" دفاعاً عن دمشق. بات لا يرى سوى دماءهم تسيل هدراً على الطريق، وخطر بباله أن يسحب مسدسه ويقتل الرئيس، ولكنه تمسك ببصيص الأمل في الهرب معه إلى روسيا، هناك قد يقدر على إعالة أمه المكلومة، بدل البقاء هنا فريسة سهلة للحكم القادم.

وقفت السيارة الثانية عند مدرج الطائرة التي ستقلع إلى موسكو، ترجّل الرئيس منها بعد أن أخبر السائق أن يلحق به بعد خمس دقائق. التفّ الرئيس من خلف السيارة، وأضحى وراء السائق، الذي كان يفتح قفل هاتفه ويبعث رسالة لأمه ليعرف كم حبة من الدواء بقيت في العلبة، ليحسب عدد الأيام المتبقية ليبدأ رحلة تأمينه من جديد، أرخى نفسه إلى الخلف قليلاً، نظر إلى مرآة السيارة الخارجية، فرأى الرئيس يحمل مسدساً، ثم لم يرَ شيئاً سوى السواد، وفي لحظة دخول الرصاصة إلى رأسه، عرف الحقيقة، وودّ لو كان يستطيع التراجع عن مسيرة حياته، وعلى الأقل كان يمني النفس أن يخبر الآخرين بما حدث، ودارت في تلك اللحظات الكثيفة تساؤلات: "لماذا تكون لحظة الإدراك هي ذاتها لحظة فوات الأوان؟".

مسدس الطقم وكاتم "الكرافة"

عاد السواد والهدوء إلى بقايا وعي السائق المقتول، ثم سمع صوت أمه توصيه بعلبة الدواء كيلا ينساها كعادته، وبعدها ساد الصمت، بعد ثوان أصبح يرى مشهداً من الأعلى يشبه تصوير الدرون؛ الرئيس يضع مسدسه في الجيب الداخلي لطقمه الأنيق، ويفصل كاتم الصوت عن المسدس، ويخبئ الكاتم في جيب سري على الوجه الخلفي لكرافته الفاخرة، يصعد درج الطائرة مسرعاً، يسمع حديثاً باللغة الروسية بين عسكري على باب الطائرة والرئيس، يتعالى صوت النقاش ليصبح صراخاً غير مفهوم، ينتهي بتفتيش الرئيس وتسليم جميع قطع الأسلحة المخبأة في ثيابه.

عرف الحقيقة، وودّ لو كان يستطيع التراجع عن مسيرة حياته، وعلى الأقل كان يمني النفس أن يخبر الآخرين بما حدث، ودارت في تلك اللحظات الكثيفة تساؤلات: "لماذا تكون لحظة الإدراك هي ذاتها لحظة فوات الأوان؟"

يجلس الرئيس منهاراً في مقعد بجانب الشباك، يحاول لملمة ذاته ريثما يصل إلى موسكو للقاء أولاده وزوجته، يبدأ تأثير "البنزوديازبين" ويغلب عليه النعاس، وهو لا يرى سوى صورة أمه وهي تنهره وصوت أبيه حين كان ينصح ويجهز باسل للحكم متجاهلاً ابنه الطبيب المستقبلي، ثم ينام بفعل المهدئ.

العلاج النفسي مع الديكتاتور 

يستيقظ بعد ساعات على وقع المطبات الهوائية، يصرخ بخادمه الشخصي فلا يجيبه. ينظر حوله: "إنها طائرة!"، يأخذ بضع ثوان ليتذكر ما حدث، يتمنى لو كان حلماً؛ "إنه حلم بكل تأكيد، فأنا سأبقى للأبد مثل والدي". يحاول النوم مرة أخرى عله يستفيق ليكون ما حدث مجرد كابوس كالعادة، عله يستيقظ فيجد نفسه في سريره الأبيض الوثير، يتناول التاب ويشغل عليه مقاطع جمعها له مستشاروه لحشود تهتف: "بالروح بالدم..."، نصحه بها المعالج النفسي بعد معرفته أنّ العلاج النفسي غير ممكن مع الديكتاتور، وهذا ما توصل إليه الطبيب النفسي كذلك، التأكيد في كل مرة أنه على أتم الصحة الجسدية والنفسية، والمشكلة هي في الناس والمجتمع والعرب والغرب والعالم كله.

"تباً إنه ليس مناماً": يصرخ بصمت، ثم تذكر كيف كان يأتي بخدمه حين كان صغيراً يطلب منهم أشياءً صعبة، مثل تغيير سياق مسلسل يحضره، أو إعادة تجميع كأسه المفضل الذي كُسر لقطع صغيرة، ومن بعد ذلك، يستذكر جلسات الاجتماع مع ضباطه ومستشاريه بعد كل هزيمة أو تراجع عسكري، مطالباً إياهم بالنصر أو أنه سيقيلهم أو يقتلهم: "جيبولي النصر من تحت الأرض، مهما كانت الخسائر والتكاليف"، وكان يتحقق ذلك في أغلب الحالات. كان يشعر أنه يمتلك العالم، وأنه قادر على تحقيق المستحيل، وحرف مسار الكرة الأرضية، يتمنى اليوم لو يستطيع إعادة عقارب الساعة إلى الخلف، ثم التصرف بشكل مختلف: "تُرى أين أخطأتُ؟ وما هي الخطوة الناقصة"، يتساءل في سره بضع ثوان، ثم يجاوب نفسه: "لم أخطئ في شيء، لربما كان يجب عليّ إبادتهم منذ البداية، ربما لما كنت وصلتُ لهذه الطائرة". يفكر بضع ثوان: "ربما هي خطيئة والدي في الثمانينيات، فقد أبقى منهم من هجموا عليّ الآن، كان بإمكانه إبادتهم حينها، دون أن يدري أحد!" يصمت برهة ثم يضيف: "وهي خطيئة أمي أيضاً، لم تصر على والدي بما فيه الكفاية، ولم تنصحني بذلك، كانت تكتفي بالتهكم بي!".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image