يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.
البارحة، عند الرابعة والنصف عصراً، صدمتني سيارة كهربائية من النوع الرخيص الذي يملأ شوارع القاهرة. أعتقد أنني أُصبت بـ"شرخٍ" في ركبتي، بسبب اصطدامها بالإسفلت. كان يمكن للسائق التوقف ونقلي إلى المشفى، لكنه هرب وتركني أصرخ بلا صوت لعدم رغبتي في كشفي. كان كلٌّ في سيارته. أنا الوحيد الذي كان يمشي ولكني أيضاً مذنب. ارتفعت أصوات التنبيه من السيارات، لقد تسببتُ في توقّف السير. نزل أحدهم من سيارته، وأمسك بقدمي الأخرى، وجرّني نحو الرصيف، ثم تركني وركب سيارته وفُتح الطريق مرةً أخرى، وعادت الأمور إلى طبيعتها.
أتفهّم موقف السائق الذي أصابني، والسائق الذي جنّبني تهمة تعطيل الطريق. الأول خاف أن يتوقف ويُتّهم بالسكون، والثاني أنقذني من تهمة تعطيل الطريق. كان يمكن أن أُنفى إلى خارج المدينة. تطلب منّا القاهرة مستوى معيّناً من الحركة، لنستحقّ التواجد على أراضيها. قائمة الانتظار للراغبين في دخول الحلبة طويلة. هناك 25 محافظةً أخرى تحاصرنا من كل النواحي، ويرغب أبناؤها في الالتحاق بركب الفرص والمدينة التي لا تتوقف، علّهم ينالون منها نصيباً.
أغلقت القاهرة باب الهجرة إليها من سنوات، وفرضت شروطاً صعبةً على الموجودين داخلها: الحركة الدائمة، عندما تتوقف سيتمّ رميك خارج حدود المحافظة، على طريق السويس أو في أحراش قرى الجيزة. هكذا استيقظ الكثير من السكان قبل عشر سنوات بعد قرار وقف الهجرة. ظنّوا في البداية أنّ العاصمة أُغلقت عليهم، وهم سعداء الحظ، يمكنهم الاسترخاء، فقد خفّت حدّة المنافسة، ولكنهم لم يعرفوا أنّ شروط التواجد لمن هم في الداخل، أصبحت في مستوى آخر. فقدت العاصمة ثلاثة آلاف من أبنائها في موجة التصفية الأولى. فُصل آباء عن ذريتهم، ووجدت أمّهات أنفسهنّ لأول مرة في الفراغ بعيداً عن أبنائهنّ. شكّل هؤلاء المنبوذون والمنبوذات قرى بدائيةً تحاصر القاهرة، وتنتظر لحظة انهيار النظام لكي تعبر الحدود مرةً أخرى، ولكن النظام يبدو وكأنه لا يسقط.
أغلقت القاهرة باب الهجرة إليها من سنوات، وفرضت شروطاً صعبةً على الموجودين داخلها: الحركة الدائمة، عندما تتوقف سيتمّ رميك خارج حدود المحافظة، على طريق السويس أو في أحراش قرى الجيزة
عندما وجدت نفسي على الرصيف، اختبأت تحت سيارة مركونة، لكيلا يراني أحد ويبلغ عنّي. قوات الشرطة تمرّ في كل شارع بشكل دوري، لعزل من ليسوا في حالة حركة. لقد أصبحت المقاهي نشاطاً سرّياً. من كان يتخيّل أنّ القاهرة كلّها لن يتبقّى فيها مقهى علنيّ! زرت في السنوات الماضية مقهى واحداً تحت الأرض، مع صديق ثوري. كان لديّ فضول عنيف لم أستطع كبح جماحه، ولكنها كانت تجربة موتّرةً فلم أكررها. لنعد إلى الحادثة، توقفت قدمي اليمنى عن الحركة، وبرزت عظمة الفخذ إلى الخارج. يبدو أنه كسر مضاعف. أخرجت الهاتف وأتصلت بمنى:
- "تعاليلي بالعربية عند فواز بتاع الفول رجلي اتكسرت".
-منى: "أحّا وإنت إيه اللي ودّاك هناك؟".
-"مش وقته يا منى، رجلي بايظة".
-منى: "طب استخبي لحدّ ما أجيلك أنا في التجمع وهتحرّك، مسافة السكّة".
-"بسرعة يا منى والنبي، أنا عايز أصرخ ومش عارف، وكلّمي الدكتور لطفي قوليله إننا جايين في الطريق".
لولا منى لانكشف أمري. في بعض الأحيان تنقذك هوايات أصدقائك من الهلاك. منى التي تحب الحيوانات أكثر من البشر، أو بشكل ما تحارب الخذلان العاطفي بتلك الكائنات الصمّاء التي لا تفهم الجفاء ولا الهجران، لديها "شلتر" حيوانات ضالة أسسته قبل خمس سنوات بعد محاولات مضنية لإقناع جمعيات حقوق الحيوان في هولندا وإسبانيا وكندا، بأنّ هذا المشروع يستحقّ، وأنّ الحيوانات القاهرية الضالّة تستحق فرصة إنقاذ. قبل يأسها بشهور، وصلها ميل إلى الموافقة على المشروع. كانت الأموال الكثيرة أو ربما المستوى الحقير الذي وصل إليه الجنيه، ما يجعلها تبدو سخيةً. لا أعرف، لم أستخدم عملةً أخرى غير الجنيه، ولم أرَ مدناً خارج مصر. سمّت منى، "الشلتر"، "كون 26"، وأتذكر تعجّبي من الاسم قبل أن توضح لي أنّ هنالك تجربةً باسم "كون 25"، لعالم سلوك حيواني اسمه "جون كالهون"، وضع خلالها فئراناً في بيئة مليئة بالطعام والشراب ليتقصّى أثر الزيادة السكانية العنيفة على سلوك الجرذان، وانتهى الأمر بهلاكهم وعزوفهم عن الإنجاب. قررت هي أن تصنع "كون 26"، لتثبت لنفسها أنها يمكن أن تنشئ بيئةً نقيضةً لتجارب كالهون، تمدّ الحيوانات بالحياة والسعادة بدلاً من البؤس والشقاء. منى رومانسية، ولكنها ليست ساذجةً. "كون 26"، فيه عمّال وطبيب خاص بالحيوانات. أنقذني هذا الطبيب من سجلّات المشافي التي كانت ستثبت أنّي أُصبت، وأنا أمارس فعلاً تمرّدياً. كنت أتمشى دون غاية، وفي مكان غير مخصص للتمشية، وهذه جريمة كبيرة في القاهرة. يجب أن يتحرّك السكان داخل سياراتهم حسب اللائحة التي حدّدها قانون "إغلاق القاهرة".
المادة 33 منه، تنصّ على أنه يُحظَر السير على الأقدام في الشوارع المخصصة للسيارات، ويعاقَب مرتكب ذلك حسب مواد التنظيم الاجتماعي الصادر عن محافظة القاهرة، بالنفي.
لقد أصبحت المقاهي نشاطاً سرّياً. من كان يتخيّل أنّ القاهرة كلّها لن يتبقّى فيها مقهى علنيّ! زرت في السنوات الماضية مقهى واحداً تحت الأرض، مع صديق ثوري. كان لديّ فضول عنيف لم أستطع كبح جماحه، ولكنها كانت تجربة موتّرةً فلم أكررها
التمشية والركض أماكنهما في النوادي الرسمية، ولهذا لن أستطيع تقديم إفادة للمشفى بأني كنت أمارس الرياضة في الفضاء الحرّ. لا وجود للرياضة المستقلّة. يجب أن أكون داخل مجموعة مصرّح لها في مكان مصرّح له. أنقذني طبيب "الشلتر"، من هذا كله، وطلبت منه منى، التكتّم على الأمر، وتجبيس قدمي دون معرفة العمال لأنها لا تثق بهم. على عكس الأنظمة الصارمة، لا تقدّم الرقابة القاهرية مكافآت للوشاة. هناك سلطات مهمتها رصد وتأديب المخالفين، لذلك أنا ممتنّ للسائق الذي سحبني إلى جانب الطريق. كان هذا فعلاً تعاطفياً في القاهرة الجديدة. سأقيم في "الشلتر" لشهر ونصف قبل أن أظهر مرةً أخرى، ولكن هناك عقبات يجب أن أفكّر في تخطّيها، مثل ظهوري في الاجتماع الشهري لحيّ الدقي، وحضوري اختبارات إثبات الكفاءة التي تحدث كل ستة أشهر للمقيمين. إذا لم أظهر في الاجتماع أو الاختبار، سيتم عدّي مطارداً ومتمرداً، وإذا عثروا عليّ سأقدَّم لمحكمة القاهرة التي ستقرر طردي دون نقاش. يجب أن أفكر في حلّ.
خصصت لي منى، غرفةً في مقرّ إقامتها. "الشلتر" عبارة عن قطعة أرض في صحراء التجمع شرقي القاهرة الكبرى، يمكنني رؤية أجهزة الليزر الحمراء منها، لقد انتهى عصر مراقبة الحدود بالجنود، هنالك ليزر سيشقّ جسدك إن فكرت في عبور الحدود بشكل غير رسمي. "الشلتر" فيه بيوت صغيرة لمبيت الكلاب، بينما يُتركون في الهواء الطلق طوال اليوم. وبعد كيلومتر واحد إلى الداخل، هناك بيت من طابقين؛ الطابق الأول يسكنه عاملون مقيمون في المكان، بينما يأتي الطبيب لمهمات محددة ولا يقطن هنا، والطابق الثاني أنشأت منى فيه شقةً لها. ليست المرة الأولى التي أزور فيها الشقة. جئت إلى هنا كثيراً لزيارة منى. لدينا ماضٍ طويل. حاولنا أن نرتبط، ولكن الأمر فشل بشكل ذريع برغم بدايته المبشّرة، وكاد أن يطيح بصداقتنا فقررنا التوقف عن المحاولة العاطفية، وتركنا التواصل الجنسي كما هو. الاقتراب أكثر من اللازم ينشئ أخطاء في "السيستم" لم نتوقع أن تظهر، حتى أنا أصبحت أتكلم مثل سكان القاهرة وحاكمها: "سيستم"، ولكني لم أفكر في الاتصال بأي أحد غيرها عندما أُصبت. أثق بها مثلما أثق بنفسي. تأتي الشرطة مرتين في الشهر للتفتيش داخل "الشلتر" عن أي مخالفات. من حسن حظي أنهم أتوا البارحة. هذا يعطينا خمسة عشر يوماً على الأقل للتفكير في معضلتي. لقد كنت محاصراً داخل محافظة، وأنا الآن محاصر داخل شقة لا تتعدى مساحتها مئةً وعشرين متراً مربعاً.
خصصت لي منى، غرفةً في مقرّ إقامتها. "الشلتر" عبارة عن قطعة أرض في صحراء التجمع شرقي القاهرة الكبرى، يمكنني رؤية أجهزة الليزر الحمراء منها، لقد انتهى عصر مراقبة الحدود بالجنود، هنالك ليزر سيشقّ جسدك إن فكرت في عبور الحدود بشكل غير رسمي
لم تكن القاهرة كذلك، ولكنها تحوّلت بسرعة. كنت أتمنى أن أقول لك إن انقلاباً ما أو مستبداً بالسلطة فعل ذلك، ولكن مصاب القاهرة حدث بعد ثورة، نعم كانت مبشرةً وتحمل الآمال، ونالت كرسي الحكم، وفي غضون سنتين تحوّل الأمر إلى كابوس. في بيان استمر لساعتين، خرج الرئيس الذي كان زعيم الثورة، محمد طغج، ليقول إنّ التاريخ يوضح لنا أنّ محاولات التقليد الأعمى لتجارب الأمم الأخرى تنتهي بمصائب، وإنّ على كل أمّة اختيار مسارها بنفسها بما يتناسب مع تاريخها وظروف سكانها وطبيعتهم، وإننا نعيش في عصر ما بعد المركزية التاريخية. كان للرجل تاريخ سياسي وثقافي، وله قدرة رهيبة في تشكيل المصطلحات والتلاعب بالألفاظ أمام جمهور من الجهلة الذين يفشلون في صياغة جملة بسيطة. لخّص طغج، فلسفة المرحلة القادمة في نقاط عدة:
-مصر لها تاريخ شديد المركزية، وهي شحيحة الموارد، ويجب أن نبني على ذلك وألا نتجاهله.
-يجب أن نصفّي السكان لنصنع نهضةً سريعة التأثير، ويجب أن يمرّ المواطنون عبر نظام تصنيفٍ شديد الحرفية، لتوزيع صاحب كل مهارة في المكان الصحيح.
-يجب على هؤلاء المهرة أن يجتمعوا في مكان واحد، ويعملوا تحت سقف واحد وإدارة مركزية، سيكون ذلك السقف كما كان طوال التاريخ، القاهرة، عاصمة البلاد.
-سيخرج الكثير من العاصمة، وسيدخل الكثير مكانهم لننشئ في النهاية طبقةً ستحمل همّ التقدم على أكتافها.
-التاريخ عبارة عن وضعين: الحركة والسكون. نحن سننتمي إلى الحركة، وسنبغض السكون، ولن ننتظر مقاصل التاريخ لتقصف رقابنا، لأنّ فينا كسولين.
-المحافظات الأخرى ستكون جزءاً من تلك النهضة، ولكن المعايير هناك ستكون أكثر تسامحاً لأننا لن نحكم على الكسولين بالإعدام، نحن سنجتنبهم فحسب.
-كل ستة أشهر ستتمّ إعادة اختبار سكان القاهرة لاختبار كفاءتهم، وهناك اختبار آخر للمحافظات الأخرى بالتزامن لضمّ وافدين جدد.
تحت هذه النقاط، صدر القانون رقم 23 لعام 2035، أي قبل عشرة أعوام. كنت حينها في عامي الأخير في الجامعة، وكنت ساذجاً للغاية. خرجت في مظاهرات لتأييد الرئيس طغج، ورؤيته الثاقبة، أنا ومنى. كنا نستند إلى رؤية تاريخية ترى أنّ الأمم التي تتقدم يجب أن تقتات على دماء جيلَين أو ثلاثة أجيال، وهذا قدر تاريخي لا فكاك منه، ولكن بتلك القوانين الصارمة التي تبدو فاشيةً للوهلة الأولى، يمكننا تجاوز تلك الرؤية التاريخية للمرة الأولى في العالم. نحن نصنع عالماً آخر. هكذا ظننّا.
كانت الحماسة غالبةً على الوجهة، وانتهى الأمر إلى عاصمة مغلقة يحاول سكانها إثبات أنهم في حالة حركة مستمرة، لكي يتّقوا شرّ الطرد
الواقع مقبرة النظريات، هكذا انتهى الحلم إلى كابوس. في الأعوام الأولى، بدا وكأن الرؤية تجني الثمار. الحركة تغزو البلاد، ولكني اكتشفت أنها حركة صورية تفتقد رؤيةً شاملةً. كانت الحماسة غالبةً على الوجهة، وانتهى الأمر إلى عاصمة مغلقة يحاول سكانها إثبات أنهم في حالة حركة مستمرة، لكي يتّقوا شرّ الطرد. ساءت المعنويات، وسيطر الخوف من النفي، وبدلاً من الاجتماع خلف حلم مركزي، أصبح القاهريون متمركزين حول أنفسهم، يحلمون بأنفسهم جالسين في المقاهي كسالى لا يفعلون شيئاً. تخرّجت أنا ومنى من كلية الحاسبات والمعلومات في جامعة حلوان، واجتزنا اختبار الجدارة القاهرية بسهولة، وتم توزيعنا على مركز حلوان للمعلوماتية، حيث حضّروا لنا تمريناً صارماً على أيدي خبراء أجانب لمدة عام على برامج مراقبة الشوارع بالكاميرات الذكية وكتابة "أكواد" تصنيف المواطنين. كان النظام يعتمد على الذكاء الاصطناعي لتقييم المواطنين: مثالي، جيد جداً، جيّد، تحت الاختبار، يوصى بنفيه…
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
حوّا -
منذ يومشي يشيب الراس وين وصل بينا الحال حسبي الله ونعم الوكيل
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل هذه العنجهية فقط لأن هنالك ٦٠ مليون إنسان يطالب بحقه الطبيعي أن يكون سيدا على أرضه كما باقي...
Ahmed Mohammed -
منذ يوميناي هبد من نسوية مافيش منطق رغم انه يبان تحليل منطقي الا ان الكاتبة منحازة لجنسها ولا يمكن تعترف...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياموحدث ما كنا نتوقعه ونتأمل به .. وما كنا نخشاه أيضاً
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامصادم وبكل وقاحة ووحشية. ورسالة الانتحار مشبوهة جدا جدا. عقاب بلا ذنب وذنب بلا فعل ولا ملاحقة الا...
mahmoud fahmy -
منذ أسبوعكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم