تُعدّ النباتات العطرية واحدةً من المحاصيل المهمة التي تُزرع في مصر، خاصةً في المناطق الصحراوية ومحافظات الصعيد. وعلى الرغم من أهميتها، إلا أن المساحة المزروعة بها لم تتجاوز 110 ألف فدان حتى عام 2019، ولا يزرعها حتى اليوم سوى عدد محدود من المزارعين، إذ تحتاج إلى رعاية وخبرة في مجال زراعتها وتسويقها الذي يتطلب جهوداً ضخمةً، فيما بلغت حجم صادرات مصر منها 200 مليون جنيه حتى عام 2016.
وعلى الرغم من التغيرات المناخية التي يشهدها العالم، إلا أن هذا النوع من المحاصيل يتكيف إلى حد كبير مع ظروف مصر المناخية، ويعدّه خبراء بمثابة منجم ذهب لم يُستغلّ بالشكل الأمثل حتى الآن.
"أهتمّ بزراعة النباتات العطرية منذ عشر سنوات، والزراعة هي مهنتي التي ورثتها أباً عن جد"، يقول عبد النبي دميس (57 عاماً)، وهو مدير عام نقابة الفلاحين في مصر، ويشرح في حديثه إلى رصيف22، حول النباتات التي يزرعها كل عام: مسك الليل، والعود الخليجي، والعود السعودي، والكراوية، والحلبة، والسمسم، والكزبرة، والشبت، وجميعها محاصيل شتوية باستثناء المسك الذي يُزرع في الصيف والشتاء على حد سواء.
تُعدّ النباتات العطرية واحدةً من المحاصيل المهمة التي تُزرع في مصر، خاصةً في المناطق الصحراوية.
التعامل مع التقلبات المناخية
يتابع دميس: "تمتاز النباتات العطرية بجودتها وقلة الفاقد فيها، كما أن عائدها مرتفع مقارنةً بالمحاصيل الأساسية، لكنها تتطلب اهتماماً وخبرةً، ولعل المشكلة الأساسية التي تواجهنا في مصر هي قلة الأسمدة المدعومة، إذ تصرف جمعيات الفلاحين كيسَين من الأسمدة للفدان الواحد، في وقت يحتاج إلى ما بين ثلاثة أكياس وأربعة، مما يدفع الفلاحين لشرائها بأسعار مرتفعة من السوق السوداء".
أما في ما يخص التقلبات المناخية التي تشهدها مصر، وكيفية التعامل معها في أثناء زراعة النباتات العطرية، فيؤكد دميس تغلبه على الأمر باستخدام "الصوب"، أو البيوت البلاستيكية، وهي خيم مصنوعة من مواد شفافة تسمح لأشعة الشمس بالدخول لحماية المحصول من الشتاء والحر وتوفير المناخ الذي يحتاجه هذا النوع من النباتات للنمو بصورة طبيعية، كما يستخدم مبيدات مثبتة لحماية النوار من التطاير بفعل الرياح، ويهتم بتنظيف الحشائش باستمرار، ويكلّف نصف الفدان الذي يزرعه دميس، من 3،500 إلى 4،000 جنيه (بين 188 و215 دولاراً)، فيما يتراوح العائد من 6،000 إلى 7،000 جنيه (ما يعادل 322 إلى 376 دولاراً).
نباتات تحتاج إلى رعاية خاصة
"على الرغم من حصولي على إجازة في الحقوق، إلا أنني واصلت العمل في مهنة أجدادي في الفلاحة، وأحرص على الاعتناء بأرضي وزراعة المزيد من المحاصيل"، يقول أحمد عبد الوهاب، وهو مزارع خمسيني من محافظة المنيا في صعيد مصر.
ويشير في حديثه إلى رصيف22، إلى أنه بدأ قبل خمس سنوات بزراعة محاصيل العطر والكزبرة والكراوية والشيح والريحان على مساحة 15 فداناً، ولكن هذا النوع من المحاصيل يحتاج إلى رعاية ومبيدات خاصة تختلف عن المحاصيل الأخرى، فأي غلطة قد تضيّع المحصول تماماً، كما أنها تحتاج إلى أرض نقية تماماً لا حشائش فيها كي لا يذهب المحصول هباءً نتيجة الحشرات التي تتجمع على الحشائش.
المزارع أحمد عبد الوهاب يتفقد محصول البردقوش - خاص رصيف22
في بداية الأمر، واجه عبد الوهاب صعوبةً في تسويق النباتات الطبية، لكنه بعد ذلك تدارك الأمر وبات له زبائنه الذين يحرصون على شرائها، ويضيف: "إنتاجي كله مقتصر على التوزيع المحلي حالياً، وأتمنى التوسع في زراعة هذا النوع من المحاصيل كونه يمثل رافداً مهماً للاقتصاد في مصر، لكن ذلك يتطلب المزيد من الإجراءات لصالح الفلاحين، مثل القروض الميسرة والمساعدة على إقامة الصوب، كما أن نقص المهندسين الزراعيين في الجمعيات الزراعية يُعدّ عائقاً أمام الفلاحين الذين يعتمدون عليهم للحصول على المعلومات الموثوقة". وتتراوح تكلفة زراعة الفدان هذا العام كما يقول المزارع من 8 إلى 12 ألف جنيه، فيما بلغ العائد نحو 30 ألف جنيه.
قيمة اقتصادية كبيرة
وحول هذه النباتات، يشرح الدكتور عاصم عبد المنعم أحمد، وهو أستاذ مساعد في المعمل المركزي للمناخ الزراعي في مركز البحوث الزراعية: "تُعدّ النباتات الطبية والعطرية ذات قيمة اقتصادية كبيرة، ويزداد الطلب عليها محلياً وعالمياً لما تتميز به من استخدامات متعددة في المجالات الزراعية والدوائية مع استخلاص مواد فعالة قيّمة منها".
ويشير عبد المنعم لرصيف22، إلى العديد من المشكلات التي تواجه هذه المحاصيل في مصر، ومنها تذبذب الإنتاج وضعف الإنتاجية، وعدم توافر المعلومات السوقية، وعدم زراعة الأصناف المطلوبة عالمياً ذات الجودة والإنتاجية المرتفعتين، وضعف الخبرات في مجال تصنيع المنتجات التي تعتمد على النباتات الطبية والعطرية.
ووفقاً للمتحدث، بلغت مساحة النباتات الطبية والعطرية وزهور القطف ومشاتل الزينة في مصر عام 2019، نحو 110.3 ألف فدان، منها نحو 68.5 ألف فدان للزراعات الشتوية، ونحو 40.2 ألف فدان للزراعات الصيفية، ونحو 1،371 فداناً للزراعات النيلية.
بدأ أحمد قبل خمس سنوات بزراعة محاصيل العطر والكزبرة والكراوية والشيح والريحان على مساحة 15 فداناً، ولكن هذا النوع من المحاصيل يحتاج إلى رعاية ومبيدات خاصة تختلف عن المحاصيل الأخرى، فأي غلطة قد تضيّع المحصول، كما أنها تحتاج إلى أرض نقية لا حشائش فيها
ومن الزراعات الشتوية الشيح والبابونج في محافظات بني سويف والفيوم وأسيوط، والكراوية في المنيا وكفر الشيخ، واليانسون في المنيا وأسيوط، والكمون في الغربية والمنيا والوادي الجديد، من الصيفية الكركدية في أسوان والأقصر، والريحان الأخضر في بني سويف والمنيا، والبردقوش في الفيوم والمنيا والوادي الجديد، والحنّاء في أسوان، والياسمين في الغربية، والنعناع البلدي في الفيوم وبنى سويف ومطروح، أما الزراعات النيلية فهي الكركديه والريحان.
وعن العائد الاقتصادي، يشير عبد المنعم إلى أن قيمة صادرات مصر من النباتات العطرية بلغت نحو 200 مليون جنيه عام 2016 (قرابة 11 مليون دولار)، وهي تصدَّر كمواد خام من دون أي قيمة مضافة، وتبلغ نسبة محاصيل الكزبرة والكمون والشمّر نحو 20% من قيمة صادرات كل النباتات العطرية والطبية.
هذا النوع من المحاصيل عليه طلب عالمي إذ يُستخدم في صناعة المكملات الغذائية ومواد التجميل.
وعلى الرغم من عدم إجراء دراسات مناخية على النباتات الطبية والعطرية، لكن الزراعات الصيفية هي محاصيل تتحمل الحرارة المرتفعة، بدليل أنها تُزرع في محافظات أسوان والأقصر ومصر الوسطى حيث درجات الحرارة المرتفعة، أما المحاصيل الشتوية فيرى عبد المنعم سهولة مجابهة مخاطر انخفاض الحرارة وتأثيره السلبي على هذه الزراعات عن طريق تعديل المناخ بواسطة استخدام الزراعات المحمية.
"محتاجة رعاية"
في لقاء مع رصيف22، يشير حسين أبو صدام، وهو نقيب الفلاحين في مصر، إلى زراعة نحو 50 نباتاً عطرياً في البلاد، ومن بينها البردقوش والريحان والنعناع والكراوية والعطر والقرطم، خاصةً في المناطق الصحراوية ومرسى مطروح والصعيد وسيناء، إذ لا تستهلك هذه الأصناف كميات كبيرةً من المياه، ويصدّر ما يتراوح بين 20 و60 في المئة من الإنتاج، وخاصةً الكراوية والكركم والنعناع والأشواجندا.
ويرى أبو صدام أن ضعف الإقبال على زراعة هذه النباتات يعود لحاجتها إلى الرعاية والإرشاد وصعوبة تسويقها، إلى جانب الاهتمام بزراعة المحاصيل الأساسية أكثر من غيرها، ويأتي ذلك على الرغم من أن عائد زراعة بعض النباتات العطرية يفوق غيرها من المحاصيل، لكن تكلفة زراعة بعضها عالية أيضاً كالبنسلين، لذا يحرص قلة من المزارعين على زراعتها.
حسين أبو صدام في أرضه - خاص رصيف22
ويضيف أبو صدام: "لا بد من توفير المبيدات المناسبة الخاصة بزراعة النباتات العطرية، لتقاوم الأمراض والظروف المناخية، مع توفير الإرشاد الزراعي والتسويق المناسب، والتوعية الإعلامية للمزارعين بأهميتها وأنواعها".
من جانبه، يقول الدكتور أحمد فخري، وهو مدير محطة البحوث الزراعية في قنا جنوب مصر، إلى القيمة العالية التي تحملها النباتات العطرية والطبية للإنسان، سواء من الناحية العلاجية الطبية أو النواحي الاقتصادية.
لا بد من العناية بخدمة التربة والعناصر الغذائية والري، وحماية النباتات من الأخطار بإدخال النظم الزراعة المختلطة بالأشجار، سواء بزراعة صفوف من الأشجار حول الحقول كأحزمة واقية أو مصدّات للرياح، أو الزراعة الشرائحية بإدخال أشجار بقولية
ويؤكد فخري لرصيف22، تأثر هذه النباتات بظروف المناخ، إذ إن زيادة غاز ثاني أكسيد الكربون حول النباتات الطبية يؤثر في نموها وإنتاجها للمكونات الفعالة، كما أن تعرضها للإجهادات الحرارية يؤثر في نمو النواتج الثانوية في النبات وجودتها، كما تتأثر الخصائص الفينولوجية للنبات، مثل تفتح البراعم ونمو الأزهار وتفتحها وتساقطها والثمار وتساقط الأوراق في تلك الظروف، هذا إلى جانب زيادة انتشار الآفات والأمراض.
ولمواجهة كل ذلك، ينصح فخري باتّباع الوسائل التي من شأنها أن تزيد من قوة النبات ومحتواه من المكونات الفعالة العلاجية، مثل العناية بخدمة التربة والعناصر الغذائية والري، وحماية النباتات من الأخطار بإدخال النظم الزراعة المختلطة بالأشجار، سواء بزراعة صفوف من الأشجار حول الحقول كأحزمة واقية أو مصدّات للرياح، أو الزراعة الشرائحية بإدخال أشجار بقولية يمكن قصها على ارتفاعات مناسبة، لتوفير الحماية وتوفير العناصر الغذائية للتربة والنبات.
وكنصيحة أخيرة، يقول الخبير الاقتصادي شريف الدمرداش، لرصيف22، إن هذا النوع من المحاصيل عليه طلب عالمي بلا حدود، إذ يُستخدم في صناعة المكملات الغذائية ومواد التجميل، ويضيف: "إذا استطعنا الحصول على نصيب من هذا السوق العالمي، سيكون للأمر عائد اقتصادي كبير للدولة المصرية، نظراً لزيادة الطلب عليه كصادرات". ويطالب بتشجيع القطاع الخاص على زراعة هذه المحاصيل، فهو كفيل بالنهوض بها، خاصةً في حال منح الدولة التسهيلات اللازمة له.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.