شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"حُرمت من النوم وفكرت في الذهاب إلى طبيب نفسي"... كيف نستطيع توديع موتانا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 16 مايو 202201:01 م

"عندما دخلت إلى الغرفة لتقبيل أختي، شعرت بأنني سأموت. نسيت لدقائق مشاعر حزني لرحيلها، وحاولت التحكم في ركبتيّ المهزوزتين من الخوف والترقب والذعر. طاردتني الكوابيس لفترة طويلة ولم أكن أحب أن يكون هذا آخر لقاء لنا". هذا ما حكته لي صديقتي، وفي كل مرة كانت تسرد تفاصيل مؤلمةً عن مشهد وداع شقيقتها الذي أُجبرت عليه.

نفقد حبيباً كل يوم، فالموت جزء من حياتنا، ولكن تختلف قدراتنا على مواجهة الفقد والتعامل معه. قد يقدر أحدنا على وداع قريب له، وآخر لا يستطيع ذلك. قد يجسر الابن على حضور مشهد غسل والده، أو والدته، وقد يسقط الآخر فاقداً وعيه.

هذه اللحظات التي نعيشها أحياناً برغبة منا أو يدفعنا الآخرون نحوها، تسبب للبعض أزمات نفسيةً كبيرةً وقد يستمر العلاج منها لشهور. فكيف نتعامل مع هذه المواقف؟ وما الرأي النفسي في ذلك؟

رغبات شخصية

"كنت شديدة التعلق بعمي، وموته كان صدمةً لي. وقتها صممت على الدخول عليه لتوديعه وتقبيله، ومنعتني والدتي لأن سني كان 17 عاماً، وخافت عليّ، ولكن بعد دخولي في وصلة بكاء مستمرة رضخت لطلبي. لا أنسى هذا اليوم أبداً. لم يكن كعمي الذي أحبه، فالموت ترك بصمته على كل ملامحه. عاندت نفسي واقتربت منه وقبلته في جبهته فشعرت بقبضة من جليد تمسك قلبي. خفت جداً. بكيت لفراقه ولكن ظل المشهد في عقلي لشهور وسنوات". قالت علياء عزت، (23 سنةً)، وهي من محافظة الإسكندرية، لرصيف22.

نسيت لدقائق مشاعر حزني لرحيل أختي، وحاولت التحكم في ركبتيّ المهزوزتين من الخوف والترقب والذعر.

حكاية علياء مع هذا اليوم لم تنتهِ ببساطة. تضيف شارحةً: "لفترة طويلة حُرمت من النوم وكنت أخاف من أي شيء. لدي إحساس بأن الموت تجسد في صورة شخص سيأتي ليأخذني. كنت أخاف من الذهاب إلى الحمام وحدي، وكانت أمي تأتي معي باستمرار. فكّر والدي في أن أذهب إلى طبيب نفسي ولكني رفضت، واستعنت بقراءة القرآن الكريم فترةً طويلةً لأتخلص من الخوف".

قصة مؤلمة عاشتها أيضاً سعيدة خضر (35 سنةً)، عندما رحلت والدتها وكانت قد أوصتها أن تحضر غُسلها ولا تترك أحداً غريباً يدخل عليها. تقول السيدة المقيمة في محافظة كفر الشيخ لرصيف22: "حضرت يوم غسل أمي، وكان الألم يسيطر علي وقتها، ولم أظن أن الموقف سيؤثر علي بعد ذلك. مر اليوم ولكني بعد ذلك فوجئت بأني أرى المشهد نفسه في أثناء نومي. كنت أستيقظ من النوم وأنا أصرخ وأبكي، مندهشةً من تكرار المشهد في عقلي باستمرار".

سعيدة أضافت: "بعد شهرين ذهبت إلى طبيب نفسي، وأخبرني بأنني لست بالقوة التي تجعلني أواجه موقفاً كهذا، ووصف لي أدويةً ومهدئات، وبعد شهرين آخرين بدأت حالتي بالتحسن".

لفترة طويلة حُرمت من النوم وكنت أخاف من أي شيء. لدي إحساس بأن الموت تجسد في صورة شخص سيأتي ليأخذني. كنت أخاف من الذهاب إلى الحمام وحدي، وكانت أمي تأتي معي باستمرار

بدوره يتحدث ممدوح (41 عاماً)، وهو من كفر الشيخ أيضاً، عن تجربة مشابهة. "أن تكون الأخ الأكبر ليس سهلاً. عندما مرض أبي ودخل المستشفى كنت أرافقه ليل نهار، وبقيت معه لمدة أسبوعين. يوم وفاته عادت أمي إلى البيت مع أخوتي وبقيت أنا. رأيت لحظاته الأخيرة، وشاهدت وجهه وجسده. كنت أعرف أنه يرحل، بكيت وخفت. التماسك في هذه المواقف ليس سهلاً. هذا المشهد يتكرر أمام عيني طوال الوقت. مرت ثماني سنوات ولا أنساه أبداً. عانيت في الأسابيع الأولى من قلة النوم وضيق في التنفس باستمرار، واستعنت بطبيب نفسي من دون علم أحد وانتهى الأمر بعد فترة".

مواقف يجب تجنبها

تحدثت الأخصائية النفسية شيماء العيسوي، إلى رصيف22، عن هذه المشكلة وقالت: "مواجهة هذه المواقف ليست بالأمر السهل، وبالأخص لو كانت لدينا مشاعر قوية تجاه الأشخاص الذين فقدناهم، وطبعاً قد يواجه الإنسان هذه المواقف برغبته ظناً منه أنه قادر عليها، ولكنه بعد ذلك يجد أن الموقف كان أكبر منه، وأنه سبب له مشكلات نفسيةً كبيرةً قد تستمر معه لسنوات طويلة، وتالياً يجب على الإنسان أولاً أن يعرف إن كان قادراً حقاً على مواجهة هذه المواقف أم لا".

العيسوي أضافت: "الشخص الذي يجبَر على هذا الموقف من دون رغبته يكون الموضوع أسوأ بالنسبة إليه طبعاً. ومن الأمراض التي قد يواجهها الإنسان بسبب ذلك الاكتئاب والوسواس القهري، ويستمر العلاج لفترات طويلة، فالحزن على الميت فقط لا يسبب ذلك، ولكن وضعنا في مواقف لا نتحملها. ولذلك لا ننصح بمواجهة هذه المواقف بل الأصح أن نتجنبها قدر الإمكان".

الأمر الواقع

وفي حين يظن بعض الأشخاص أنهم قادرون على توديع أحبتهم، تفرض الظروف على آخرين أن يواجهوا هذه المواقف من دون رغبة منهم.

داليا سيد (32 سنةً) من محافظة البحيرة، تقول لرصيف22: "كانت حماتي مريضةً، وكنت أهتم بها من وقت إلى آخر وخاصةً أنها كانت تعيش في البيت نفسه الذي أعيش فيه. وفي ليلة وفاتها اشتد مرضها، وأسرع زوجي ليحضر لها الطبيب الذي يتابع حالتها، وتركني معها أنا وابنتي ذات السبع سنوات".

وتحكي داليا تفاصيل هذا اليوم: "لم أكن أعرف أنها اللحظات الأخيرة لها، ووقتها توقف عقلي عن التفكير إلى درجة أنني لم أفكر أنه يجب أن تغادر ابنتي الغرفة. نادتني والدة زوجي ولفظت أنفاسها الأخيرة وهي تحتضنني وتوصيني بابنتها الكبرى المريضة. وقتها شعرت بأن قلبي مات وأنني جثة أتحرك فقط. كانت صدمةً قويةً بالنسبة إليّ استمرت معي فترةً طويلةً وذهبت إلى طبيب نفسي".

"كنت أخاف طوال الوقت، وأشعر بأن الموت سيأتي في أي لحظة لي أو لزوجي أو لأولادي. أخبرني الطبيب بأنني أعاني من رهاب الموت. كنت أمنع ابني ذا العشر سنوات من الخروج من البيت خوفاً عليه. والأصعب أن ابنتي الصغيرة تأثرت كثيراً بما رأته، وقال الطبيب إن هذا الأمر ممكن أن يسبب لها صدمةً أكبر عندما تكبر في العمر. مرّ عامان وهي أفضل حالاً الآن، وأتمنى ألا تصبح حالتها النفسية أسوأ في المستقبل". شرحت داليا مضيفةً.

شعرت بأن قلبي مات وأنني جثة أتحرك فقط.

الشاب العشريني محمد سعيد، وهو من محافظة الجيزة، لم ينسَ يوماً شقيقه فتحي الذي رحل إثر حادث أدى إلى احتراق سيارته قبل عام، وقال لرصيف22: "الحادث كان صدمةً كبيرةً لي ولكل الأسرة. مات أخي الكبير متأثراً بجراحه. وقتها لم أكن أعرف التفاصيل ولم أتخيل أنه تحول إلى جثة محترقة. وصل إلى البيت وبدأت أسمع هذه الكلمات: ألن تودع شقيقك؟ ألن ترى فتحي لآخر مرة؟".

محمد أضاف: "الحقيقة أنني لم أفكر في الرفض، ولكني دُفعت دفعاً إلى هذا الموقف، وبالرغم من أن عمي خرج من الغرفة منهاراً وطلب مني ألا أدخل، دخلت، ومهما قلت لن أستطيع أن أنسى هذه اللحظات يوماً مهما حييت. لم يكن أخي، كان بقايا منه، ولم أكن أحب أن أراه على هذه الصورة، وهو أيضاً لم يكن يحب أن يراه أحد هكذا".

يشير محمد إلى أن النوم تركه لأيام طويلة، وكان يتقيأ باستمرار، ولا يجرؤ على البوح لأحد بما يشعر، حتى نصحته صديقة بزيارة طبيب مختص وذهب إليه وساعده. يقول في نهاية حديثه: "لا أنصح أحداً بخوض هذه التجربة. من الممكن ألا نكون قادرين على المواجهة. يجب أن نضع في حسباننا أيضاً مبدأ الستر وتجنب الألم، مثلما نفكر في الأشياء الأخرى التي تزيدنا بؤساً وشقاء".

"رأيتها وهي تموت"

"في عصر أحد الأيام، سمعت صراخاً من الجيران يأتي من المنزل المجاور. أسرعت لأرى ما يحدث ووجدت جارتي وكأنها تموت. كانت تضع يديها على صدرها، وتتألم وتجري في كل مكان ويحاول الجميع مساعدتها من دون فائدة. تعرضت لأزمة قلبية ورحلت. رأيتها وهي تموت. الأمر ليس سهلاً، وخروج الروح أمر صعب للغاية. انهرت من البكاء لفترة طويلة". هذا ما حكته أمل سالم (45 سنةً) من محافظة كفر الشيخ، لرصيف22.

قد يواجه الإنسان هذه المواقف برغبته ظناً منه أنه قادر عليها، ولكنه بعد ذلك يجد أن الموقف كان أكبر منه، وأنه سبب له مشكلات نفسيةً كبيرةً قد تستمر معه لسنوات طويلة، وتالياً يجب على الإنسان أولاً أن يعرف إن كان قادراً حقاً على مواجهة هذه المواقف أم لا

وأكملت أمل: "كنت أراها وأنا نائمة. الكوابيس لم تنتهِ، ولكن لم أفكر في الذهاب إلى طبيب، فهذه الأمور ليست معتادةً في قريتنا. أتوا لي بشيخ قرأ لي القرآن وعملوا لي ‘طاسة الخضة’ ،واستمريت لفترة أقرأ القرآن. كان الناس يقولون عني: ‘راكبها جن’. تحسنت حالتي بعد فترة ولكن لم أنسَ شكل جارتي الراحلة أبداً".

فوبيا الموت

تؤكد الأخصائية شيماء العيسوي، أن هناك بعض الأشخاص يعانون من فوبيا الموت بشكل عام، وهؤلاء يكونون أكثر تأثراً بهذه المواقف، وقد يكون الشخص طبيعياً تماماً، ويصاب بها عند تعرضه لموقف صعب يهز تركيبه النفسي بشكل قوي.

وأما عن مواجهة الأطفال لموقف مشابه، فقالت إن هذا الأمر خطير جداً وقد يسبب أزمات نفسيةً على المدى البعيد، ولذلك يجب على الأم والأب وقتها أن يعرضوا الابن أو الابنة على طبيب نفسي متخصص ليطمئنوا إلى أن ما رأوه لن يؤثر عليهم لاحقاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard