الرحيل، المقبرة التي على الجدران
" أيها الموت"... كثيرة هي القصائد التي تبدأ بهذا النداء، كما لو أنها تخاطب ذاك الذي "تعرف البطحاء وطأته"، ومع آخرين كمن يخاطب نهراً، غير أنك وبين يدي المقبرة ستكون في أرض أخرى، وربما في وطن آخر، لا يؤخذ بالدويّ، فمع كل وافد جديد نهاية لمطاف جديد.
أقول نهاية؟
قد لايكون الأمر على هذا النحو، فالمتغير هو "اللقب".
باللغة الإسلامية يتحوّل لقبك من: "الأستاذ، البيك، الأفندي، الماريشال، جحش الصف"، ربما إلى "المرحوم"، وزيادة في الشك "المرحوم بإذنه تعالى".
بالطبع لا أعني هنا الصفات المكتوبة على شواهد القبور، فالصفات التي تعلق على قطع الرخام في المدافن كما يعلق الذباب على قطع الحلوى، هي صفات تختزلك، لتكون "الإنسان ذو البعد الواحد"، وتدخل في مساحة اليقين، ولتتصور معي أن ذاك الشخص "صالح".
هكذا ودون أدنى التباسات، مع أن الحياة علمتنا، وكذلك فيدور دستويفسكي، أن الخير والشر ليسا على تضاد... إنهما "وحدة الأضداد"، ومع شواهد القبور تلك، رسم للنهاية، لـ "آخر المطاف".
لن يكون الأمر على هذا النحو عند المذاهب الباطنية من مثل، الدروز، الإسماعيليين، العلويين، وكذا حال السيخ، وقد تيقنوا أنهم سيخلقون من جديد، ذلك لحكمة تسديد ديونهم التي لم يعثروا على فرصة لتسديدها في دورة حياة واحدة، فالقاعدة الذهبية للمتقمّصين تقول بأن المرء لايمسح أنفه بمنديل ثم يعود إلى مسحه بالمنديل نفسه مرة ثانية، رغم أهمية الخدمة التي يقدمها المنديل. إذن، لابد من : Second chance
كان هذا حال المصريين القدماء، وقد ذهبوا أبعد في فلسفة "المناديل"، ولولا ذلك لما كتبوا على بوابات مقابرهم: "ابتسم، أنت في المستقبل".
لقد اشتغل الفراعنة على بناء قصور أبدية ينعمون فيها بحياة جديدة للفوز بحقول سلام جديدة، وهكذا حين يدخل لصوص المقابر سيعثرون على ملكة إلى جانب الملك وقد تحزّم بخنجره، فيما الملكة مسجاة، مغطاة بكاملها بالذهب، ومرصعة بالأحجار الكريمة، وكانا (الملك وجلالتها) قد استبقا الزمن بآلاف السنين، فجلالته، كما جلالتها، يدركون بالتمام والكمال، أن يوماً ما سيأتي على البشرية، يسطو فيه لصوص المقابر على المقابر ليلتهم الجوعى أقراط الملكة وأذنها معاً، ولهذا بالغوا بالتحذيرات التي لم يسمعها أحد، حتى باتت لعنة الفراعنة تطارد من ينبش قبورهم. اللعنة التي صدّقناها، أقله ما بعد قراءتنا لكتاب أنيس منصور، ذو الورق الردئ واللغة المدهشة.
إنها القصور الأبدية.
يحذرك أصحابها بالقول: "لا تضر منشأة الغير، اقطع الأحجار من المحاجر، وشيّد مقبرتك بما قطعته يدك من أحجار". ثم يضيفون: وإلّا.
وإلاّ ماذا ياصاحب الجلالة؟
وإلاّ سيكون انتقام الآلهة.
هذا بالحرف ماورد في نص من تعاليم الملك خيتي الرابع لابنه مريكارع من الأسرة الفرعونية العاشرة".
أكثر من ذلك، سيتلو صاحب الجلالة بياناً، يجيب عن سؤال "الغلابة"، سؤال يبدأ بـ "من أين لك ذلك؟".
البكاء المهذّب، لا يطال الرجال الأحرار. الحرية في أن تنتحب كما تشاء، وكيفما تشاء، ووقتما تشاء. الانتحاب هو المغامرة الأولى في تاريخ الإنسان، وما من حرية سواه... مجاز في رصيف22
سيجيب عبر نقش ورد في نصوص مقبرة القاضي "حتب مري آخت" في عهد الملك "ني وسر رع" من الأسرة الخامسة، يقول فيه إنه "بناها من أملاكه دون أن يغتصب شيئاً من الآخرين"، وفي مكان ظاهر حيث لم تكن هناك مقبرة أخرى، وأولئك الذين سيدخلون إليها ويمسونها بسوء "سيحاكمون أمام الإله العظيم".
كلام لن يدخل دماغ العم ميرغني، العجوز المصري الذي واكب نهايات الملك فاروق، مروراً بعبد الناصر وضباطه، وأكثرهم شهرة، صلاح سالم، صاحب المآثر الجليلة في السطو على أعناق الممثلات الفاتنات، ومن ضحاياه زهرة الشاشة سعاد حسني، وقد أطلق عليها سندريلا. كما واكب العم ميرغني، السادات وحسني مبارك، ولم تحط أقدامه في مربعات الرئيس السيسي، ذاك الرجل الذي لاتشبه ضحكته سوى تراكتور من ماركة "زيتور" المنقرض مثقوب الاشطمان.
العم ميرغني، لم يعد لديه وقت لسماع "مربعات الملوك"، لا الملك "حتب مري اخت"، ولا من جاء بعده، هو رجل الحشيش المقدّس، تلك النبتة التي يسلطن عليها وهو ينتشي مع غناء خضرا محمد خضر، مرددة كلمات ابن عروس:
الليل مهواش قصير الاّ على اللى ينامه
والشخص مدام فقير ما حد يسمع كلامه.
وحين يصغي الى نجيب سرور، ثمة من يردد بعده:
بلد المنايك بلدنا... والكل يناك فيها
شوف الخريطة تلاقيها... فاتحا رجليها
ربك عملها كدا.. وح تعمل إيه فيها؟
أحوال فردريش هاين
ليس هذا هو حال مقبرة "فردريش هاين"، المقبرة القريبة من سكني في برلين، ففي مقبرة "فردريش هاين" لن تعثر على برديات، ليس لأن الألمان لم يكتشفوا ورق البردي بعد، فـ "الجماعة"، يقدّسون النسيان، وبسبب النسيان لم يكتبوا تاريخهم على ورق البردي، ولولا تلك الميزة (وقد تكون لعنة)، لما نسيوا حربين عالميتين، ومعهما نُسي أودلف هتلر، وجنراله المفضّل هاينرش هملر، أب الهولوكوست، وقد استثمر الجنرال خبراته في مزارع الدجاج، ليشيد من بعدها المحرقة، محرقة طالت اليهود، والشيوعيين، والغجر.
مقبرة "فردريش هاين"، فيها الكثير من الضحك، فعلى سطح القبر قد تعثر على رسومات كاريكاتيرية، ألعاب أطفال، رسومات سوريالية وزجاجات بيرة فارغة، وإلى جانب القبر ستعثر على سيدة تقرأ كتاباً، مستغرقة في مشاركة ما تقرأه للسيد المتوفى، ولاشك بأن السيد يصغي.
وكيف لميت ألا يصغي إلى امرأة نسجها الله لتكون كنزته في ليالي الصقيع البرليني المثقل بالوحدة والوجع؟
لـ "هنريش هاين"، رجل صخرة، لا أعرف على وجه اليقين إن كان هو من اختار مصيره هذا، فمجمل ما كتب على شاهدة قبره وهي "صخرة" LOUCIL.
هو اسم الرجل، بلا لقب ولا عائلة ولا "تحدّر من".
اسم، يعني مجرد "صوت"، دون سيرة شخصية، ومَن مِن البشرية بلا سيرة؟
سيرة سكّير أو قاطع طريق أو نبي أو "أديب"، أو "فنانة لهلوبة" والأفضل "راقصة عامود"؟
مجمل سيرته اسمه " LOUCIL".
وما عليك أيها الزائر سوى أن تفترض سيرته، ثم تكتبها بالممحاة، لأنك وبلا أدنى شك لن تلتقط احتمالاتها، ما يعني أن LOUCIL ليس شخصية "نهائية"، قطعية، يقينية، منجزة.
هو قفزة في مونتاج الفيلم، لا يسمح لك بأن تربط ما قبله بما بعده.
إنه الاحتمال، ومن ثم "الحيرة"، ومن بعدهما الخيال، وقد كفّن اليقين، وماهو "اليقين" سوى التضاد مع الخيال، فلو لم يكن "الله" خيالاً لدفنته البشرية بعد أيام من ولادته، دون ملكة تتمدد إلى جانبه وقد أحاطت عنقها بعقد من سلالة الأحجار الكريمة ، فيما خنجره على صدره، ومن بعدها ليأتي لصوص المقابر ويسطون على خنجره وعقدها.
كل الشواهد لاتساوي شاهدة قبر العم ميرغني، أفترض أنه كتب: "يا من مررت على قبري، انظر أمامك، هنا ترقد عظامي ليتها كانت عظامك". ثم يفرقع خاصرتيه وأصابعه من الضحك... مجاز في رصيف22
إلى جانب صخرة LOUCIL""، مدفن أكثر ثرثرة، إنه قبر" عائلة "فيليكس بيتركوفيتش"، بمحاذاة قبر زوجته "مينا بيتركوفيتش"، ومعهما مدفن لابنتيهما "ليديا" و "وفرنشيسكا".
ولد الأب في 20 فبراير 1855 / مات بـ2 فبراير 1925
ولدت الام في 2 ديسمبر 1860/ ماتت بـ1 ديسمبر 1939
وبمراجعة مُيّسرة، فلابد أن "مينا" كانت سيدة صبورة، حتى أن الصبر منحها فرصة أن تعيش 79 سنة، لتتخلف سنة واحدة عن الحرب العالمية الثانية، التي يتراوح قتلاها مابين 62 مليون إلى 78، حسب تقديرات إحصاء الأحياء للأموات، ما يعني أن الفارق ما بين الرقمين يصل إلى 16 مليون قتيل من حق الإحصائيات عدم التدقيق بعددهم، فالأعداد أرقام، مجرد أرقام. أصوات، كما الأسماء أصوات، الكثير منهم قضى في المحارق الجماعية لينتهي "رماداً"، دون أن يحشروا بفخّارة، يلقى بمحتوياتها في نهر الغانج، كما يفعل الهنود.
ترميد ياسيدي
تقول للهندي: "حرق الجثة". يحتجّ الهندي، هو يسميها "الترميد"، ما يعني تحويلها إلى رماد، الأمر الذي يعترض عليه المسلمون، فحرق الجسد يعني فيما يعنيه، أن حرق الأجساد يتجاهل أن الله سيقيم أجسادنا ويوحدها مع أرواحنا، وحرق الجثة سيعرقل عمل الله، فإذا ماحدث ذلك، فعلى الله إنفاق وقت إضافي في إعادة تركيب الجثة، وقد يستلزم الأمر "قطع تبديل".
في الإسلام تُدفن عارياً، لحكمة أن العراء، هو أقدم الأزياء البشرية، وليس من العقل ولا الصواب افتراض أن جدنا آدم كان يرتدي من منتجات مصمم الأزياء اللبناني إيلي صعب. إيلي الحريص على استخدام الدانتيل لمفردات النساء، دون نسيان الملابس التحتية التي تجعل من جسد المرأة صنبوراً للاشتهاء.
في عصر آدم، اقتصرت الأزياء على ماتنتجه شجرة التوت، فغطت حواء ثمرتها بالتوت، وكذا فعل آدم.
ثمار تغطي ثماراً، وقد خلت فاترينات الأب المؤسس للبشرية (آدم) من حمّالات الأثداء.
أما عن الدفن، ففي بدايات التاريخ البشري، لم يكن البشر يدفنون موتاهم على الإطلاق، بل كان لأسلافنا القدماء طرق أخرى كثيرة لإرسال موتاهم إلى مثواهم الأخير، منها على سبيل المثال، ترك جثثهم في الكهوف، معلقين على الأشجار أو على قمم الجبال، أو إغراقها في البحار، أو إحراقها، والأدهى من ذلك أن البعض كان يشويها ويتناولها (ربما مع كمشة من المخلل والنبيذ).
بدايات التاريخ البشري اقتصرت على دفن المنبوذين، أولئك الذين يسألون أكثر مما يجب، وفيما بعد بدايات التاريخ البشري، أي في العصور اللاحقة (اللاحقة جداً)، كذلك كان للمنبوذين مقابرهم.
منبوذون من طراز فقراء المدن وبائعات الهوى، وعلى هذا بوسع السياح الشغوفين بتقصي مصائر الموتى زيارة مقبرة "كروس بونس" في لندن، والتي يعود تاريخها إلى 1608، إذ لم تسمح التقاليد الكنسية بدفن بائعات الهوى في مقابر المؤمنين، فكانت مقبرة "كروس بونس" مقبرة لبائعات الهوى حصراً، لنساء يمددن سيقانهن فوق ظهر التاريخ، وقد زينت مدافنهن بالشرائط الملونة وبالريش، ثم غادرن رجالاً لا يحلو لهم ذرف الدموع سوى في أحضان المومسات.
المومسات، أعظم منبر للحرية يسعى إليه الرجال، ويقولون وبكل الابتذال: "حديقة هايد بارك اللندنية، منبر للحريات".
عيب هذا الكلام، فالبكاء المهذّب، لا يطال الرجال الأحرار. الحرية في أن تنتحب كما تشاء، وكيفما تشاء، ووقتما تشاء. الانتحاب هو المغامرة الأولى في تاريخ الإنسان، وما من حرية سواه.
انتحاب في حضرة السراويل المزينة بالريش... بالألوان الأرجوانية، سراويل تفوح منها رائحة الممرات، ولسنا على يقين إذا ماكان هؤلاء العاهرات يدفن بريشهن في "كروس بونس".
ربما يدفن عاريات، وربما منقّبات، وقد يحلو للأخوة في "طالبان" تغطية وجوههن بالنقاب حرصاً على استدراجهن إلى حظيرة الله، دون صحن "أرز" يقدّم للمعزين، كما حال موتى المسلمين التائبين، وقد تمتد موائدهم إلى إطعام الأيتام وأبناء السبيل.
هاتوا طبقاً من الأرز
من أجل "الأرز"، الأرز وحده وكسب مواسمه، يحدث في مكان آخر ما لا يحدث في مقبرة "كروس بونس"، فعند شعب جزيرة "التوراجاس" في أرخبيل أندونيسيا، يعيرون انتباهاً أكبر لملابس الموتى، هناك يقيمون طقوس الـ "مانيني": تسحب جثث الموتى. يزال الغبار عنها. يسرحون شعرها. يخبرونها بآخر النكات.
ثم يلبسون هذه الجثث ملابس جديدة ويعيدون دفنها، ومن بعد ذلك يضمنون أن مواسم الأرز ستكون في أحسن حال.
الأرزّ الذي لا تصنع منه البطاطا المقرمشة التي تملأ في أكياس بلاستك، وقد كان رائدها الأمريكي فريدرك باور، وكان أطلق على منتجه تسمية "برنجلز".
فريدرك هذا، وامتثالاً لإيمانه بعبقرية فكرته، أوصى أن تحرق جثته بعد موته، وتدفن في علبة "برنجلز".
لقد نفذ أولاده وصيته بالفعل ودفنوه في علبة بطاطس مقرمشة، كما لو أن كلٌّ يُدفن في إنجازه، وثمة من يثبت إنجازه على شاهدة قبره. على شاهدة طارق بن زياد كُتب "هذا طارق بن زياد... جاءه الطارق قائلاً: أنا الموت، ولم يزد".
ـ على شاهدة نابليون بونابرت كُتب "هنا أغمد نابليون سيفه".
أما فيكتور هوغو فقد نقشت على ضريحه هذه الكلمات "ينسى الموت أنه الموت فيطرح منجله بين قصائده الخالدة مستغفراً، وينشد له البعض منها فيطرب كل من في القبور".
ماذا ستكتب ليزا على شاهدة ضريحها؟
ربما تكتب "إنه ناعم وحريري، مثيرة للغاية وزلقة للغاية، دلل نفسك وارخي يديك".
قد تضيف: "ألعاب الأصابع، الفرنسية، التدليك، منوعات".
كل الشواهد لاتساوي شاهدة قبر العم ميرغني، أفترض أنه كتب: "يا من مررت على قبري، انظر أمامك، هنا ترقد عظامي ليتها كانت عظامك". ثم يفرقع خاصرتيه وأصابعه من الضحك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...