جُمع للفرنسيّ جاك دريدا عدد من النصوص بعنوان " كتاب النحيب"، الذي "يرثي" فيه على مراحل مختلفة أصدقاءه المفكرين الذين رحلوا قبله، فالصداقة من وجهة نظره، استعداد دائم للخسارة، وحذّر من النحيب بوصفه تقديساً للراحل، وتوقعاً دائماً بأن أحداً سيسبق الآخر، خصوصاً بين الأصدقاء، أولئك الذين لابدّ أن يذكر واحد منهم الآخر حين رحيله، وكأنّ "معرفة" أحدهم، ليست إلا تمريناً على مرثيته، كون النجاة مصير واحد منهما لا محال. لكن خطورة هذا الرثاء أو النحيب تكمن في أنه قد يتحول إلى "التهام لحم الميت"، أو إلى "هوس نرجسي باحتواء الآخر في الذات".
بعد شهرين من وفاة جاك دريدا عام 2004، أصدر شون غاستون كتاب "النحيب المستحيل لجاك دريدا"، محاولاً الإجابة عن سؤال دريدا كيف ننتحب؟ الذي حذر من استحالة تفادي النحيب، ولتجنبّ كل ما حذّر منه دريدا رصد في الكتاب مفهوم الفجوة- écart، الذي يتردد في نصوص دريدا، أو النقطة التي يبدأ عندها التباعد، وفي حالة النحيب هي لحظة رحيل أحدهم وبقاء الآخرين.
هذا التباعد أو الفجوة، يُملأ عادة بصيغة تستبدل الصديق بأيقونة، وتاريخ "جديد" للميت يُكتب "الآن" بصيغة "الماضي"، ويتحول النحيب إلى استعراض للذات، ومصادرة لـ"حاضر" الميت الذي اختبره، فالرغبة العمياء بالنجاة والخوف على الأنا، هو ما يدفع إلى "التهام" ما لا يمكن للميت تكوينه، أي أناه، واستعراض اختلافها، عوضاً عن استعراض "صداقتها" مع الأنا.
حالة النحيب هي لحظة رحيل أحدهم وبقاء الآخرين مما يخلق فجوة بيننا وبينهم فيتحول النحيب إلى استعراض للذات، مدفوعاً بالرغبة العمياء بالنجاة والخوف على الأنا
فردانيّة الموت والهيمنة الدينيّة على ما بعد الحياة
ينتشر حالياً في بعض دول العالم ما يسمّى بالعزاء الإنسانويّ، طقس لايكيّ تضمنه الدولة، يتم فيه توديع الميت والانتحاب عليه بعيداً عن طقوس المؤسسة الدينيّة، وذلك لجعل "حياته" مركز الحدث ومحط اهتمام من حوله، خارج السياق الديني وحكاياته المرسومة مسبقاً، تلك التي تصادر "أنا" الميت وحياته، من أجل إدخاله في "رحمة الله" والمتخيل الديني للموت.
يحرر العزاء الإنسانويّ النحيب من الممارسة الدينيّة، تلك اللاشخصيّة، والتي يتم الإشراف عليها من قبل رجال الدين، لا نحاول هنا ذمّ الطقس الديني، مهما كان أصله، لكنه في الحالة الإنسانويّة أو اللايكيّة، يعيد للميت فردانيته، ويجعل من حوله أقرب إليه لا أقرب إلى الله، سواء عبر الشعر أو الموسيقا أو الأدب أو الخيار الذي يراه من هم حوله مناسباً، خصوصاً أن الطقس الدينيّ يفرض حتى على عدم المؤمنين به سلسلة من الحركات التي يحاول عبرها القائمون على المؤسسة الدينيّة إدخال الميت إما في جموع المغضوب عليهم، أو أولئك الذين لا بد تشملهم رحمة "الله"، ليتحول إلى طقس يخصّ الأحياء، الناجين الذين لا بدّ لهم أن "يعتبروا" من الرحيل، لا أن "يحتفلوا" بحياة من رحل وما تبنّاه من رموز وأفكار.
الأهمّ، أن الطقس التقليدي للعزاء، يركز على الحياة ما بعد الموت، على مصير الميت المجهول، ويتحرك الطقس بوصفه تمهيداً لحياة أشدّ غنى من تلك التي شهدها الميت، بل ونفياً لقيمتها أمام ما ينتظره. حكايات جاهزة تستبدل الشخصي بحكاية عن مصير الجميع، خصوصاً أن المؤسسة الدينيّة والعزاء المرتبط بها يصادران الحق بالوداع من قبل الأشد قرباً من الميت، أولئك الذين يريدون الاحتفال بحياته، تلك التي انتهت، واختبروها، تلك التي تذكرهم به وربما بحقيقته.
يختزن الطقس الدينيّ أيضاً قيماً ربما رفضها الميت أو من على وشك الموت، ألم يهزاً مورسو في الغريب لألبير كامو من الكاهن ومن "الاعتراف" قبل الإعدام؟ وهنا تظهر هيمنة المؤسسة الدينيّة، هي تنفي أصوات من عرفوا الميت واختبروا الحياة معه، على حساب، صوت دينيّ، أحادي، يرى أن كل الموتى متشابهون، وكلهم نهاية تحت "رحمة" الخالق إن وجد.
ينفي الطقس الديني أثناء حدوثة فردانيّة الموت، وأثره الذي يخص من "عرفوا" الميت، ويحوله إلى نحيب جماعيّ يخصّ العامّة، المحكومة بأخلاق مؤسساتيّة تُهيمن على الموت، قد لا ينسجم معها الميت. هناك سلطة تمارس على كيفية "الرحيل" ومن يستحقه، و هذا ما يظهر بصورتين، إما ساخرة، حين نقرأ نعوات "شيوعيّ تغمّده الله برحمته"، أو بصورة شديدة العنف والمأساويّة ، وهي الحرمان التام من طقس الدفن والحداد، كما في حالات المعتقلين في سوريا أو المصابين بالأوبئة في الولايات المتحدة. السلطة بكل أشكالها تتملك الجسد الميّت بوصفه موضوعة سياسيّة، وتتحكم بأسلوب "رحيله" و"إخفائه"، ولاحقاً "الحداد" عليه.
نقتبس من دريدا حذره حين الانتحاب على الراحلين، والحرص في كل مرة على عدم مصادرتـ"ـه"، سواء من قبل المؤسسة الدينيّة وطقوسها أو من قبل أنفسنا نحن، والوعي بأن "الآخر" في داخلنا، مختلف دوماً عن "الآخر الذي رحل"
من نعرفه ليس من مات
الشكل الديني التقليديّ للنحيب سياسي بامتياز، هو علاقة بين الميت ومن حوله، سواء عرفوه أو لم يعرفوه، بل قد يصل إلى تحديد من يُنفى من الفضاء العام، أو يعلق النحيب عليه بسبب الاختلاف. وهذا ما نراه في الحالات الإشكاليّة، أسماء الأسد في وثائقي بثه التلفزيون الروسي، تقدم صورة لمن يستحقون النحيب حسب تعبير ليزا ويدين، الجنود النظاميون والمواطنون "الأشراف" هم الأحق بالنحيب. تقف إلى جانب أهلهم، وتصنف العالم إلى أصدقاء كلنا نتأثر لفقدانهم، وأعداء، لا حداد لأجلهم، لا يستحقون الحداد، تخفى جثثهم ويمنع من حولهم من النحيب العلنيّ.
في قضية سارة حجازي، الناشطة المصرية التي أنهت حياتها بنفسها، النحيب هنا سياسي، صراع في الفضاء العام على استحقاقها إياه،فالنظام الأخلاقي الرسميّ والنحيب المرتبط به، يصنف من هم حول الميت، ويلزم المتورطين في العلن بإعلان موقفهم، ذاك الذي لا علاقة له بالميت وحياته، بل بالأخلاق نفسها والمؤسسات وراءها
على النقيض، كما في قضية سارة حجازي، الناشطة المصرية التي أنهت حياتها بنفسها، النحيب هنا سياسي، صراع في الفضاء العام على استحقاقها إياه، الممارسة التي تخص من هم حولها أولاً ثم الجميع لاحقاً تحولت إلى موضوعة سياسيّة. فالنظام الأخلاقي الرسميّ والنحيب المرتبط به، يصنف من هم حول الميت، ويلزم المتورطين في العلن بإعلان موقفهم، ذاك الذي لا علاقة له بالميت وحياته، بل بالأخلاق نفسها والمؤسسات وراءها. وهنا نعود لمفهوم الفجوة، رحيل أي شخص، صديق كان أو غريب، هو فجوة تخلق صراعاً بين ذاك الرسمي والجمعي والطقوسيّ الذي يمثله السائد، وبين الفردي والشخصي الذي يخص أولئك، الذين إن حاول البعض استذكار هم، تم وسمهم بالأعداء.
الحرمان من النحيب والحداد العلنيّ، والهجوم المفرط في أخلاقيته وعدوانيته على المنتحبين، يفترض أن الميت عدو لفئة من الناس، وأن حياته لم تكن تستحق أن تعاش بالأصل، والأهم أن هذا الهجوم يفترض أيضاً أن المنتحبين أعداء أي حياتهم مهددة، هم ليسوا منفيين فقط من المخطط المثالي للـ"الموت"، بل من ممارسة الحياة نفسها. وهنا يظهر "النحيب" كفعل مقاومة، تمارسه الفئة الأقل ظهوراً، المحرومة من حقها بالتضامن والمهددة أخلاقياً وربماً مادياً إن هي أظهرته، ولا نقصد بالتضامن ذاك المشترك بين الجميع، بل ذاك الشخصي والمحدد الذي تميزت به حياة من رحل.
تهديد النحيب يعني الحرمان من الشخص الذي رحل وبقي فقط داخلنا. حياته أصبحت سلسلة من الحكايات التي يمتلكها من يعرفهم ومن لا يعرفهم، ليتحول الأمر إلى صراع مع المؤسسات والأخلاق التي تهدد من قرر تذكّره. لنرى أنفسنا أمام صراع لأجل ذواتنا، النحيب العلنيّ جزء من الحفاظ على مكونات الأنا، وعلى "صداقتها"، وحقها بالدفاع عن هذه الصداقة ضد من نصبوا أنفسهم أعداء. فالنحيب مداواة لفقدان الأنا التي رأت نفسها في الآخر الذي رحل، في الصديق والندّ، على أساس التآخي، في حين أن العداوة، تنزع الشخصيّة عن النحيب، وتحوله إلى صراع ضد منظومة وقيم ومؤسسة لنرى أنفسنا، كمنتحبين أعداء للسلطة، لا فقط للأفراد.
لكن، كيف ننتحب و"نقاوم" دون أن نأكل لحم ذاك الذي رحل؟ هل نكرر آخر كلماته؟، هل نصارع الأخلاق السائدة التي نفت "صديقنا" وهددت حياته؟ هل نكتب بصيغة "المضارع" أم "الماضي" ؟، أي هل نبني حياة، لمن رحل، مختلفة عن تلك التي "عاشها"؟، خصوصاً أن ما ننطقه أو نكتبه علناً، ليس للميت، بل لأنفسنا، لأقراننا و المختلفين عنّا، ودائماً لمن رأوا فينا أعداء؟ نقتبس من دريدا حذره حين الانتحاب على الراحلين، والحرص في كل مرة على عدم مصادرتـ"ـه"، سواء من قبل المؤسسة الدينيّة وطقوسها أو من قبل أنفسنا نحن، والوعي بأن "الآخر" في داخلنا، مختلف دوماً عن "الآخر الذي رحل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...