شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
نمتُ في القبر وتخيّلتُ طقوس دفني

نمتُ في القبر وتخيّلتُ طقوس دفني

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 12 يونيو 202112:02 م

"بنص الليل والدنيا شتوية وبلا ما يكون معي حدا بدي إعمل هيك؟! إنتَ عن جد عم تحكي أو عم تمزح معي؟!"، قلت للمحلل النفسي، فردّ عليّ: "طبعاً عن جد".

قد يوحي العنوان لكم بأن المحلل النفسي طلب منّي النوم في القبر بعد منتصف الليل. في الحقيقة، ما طلبه أصعب من ذلك بكثير بالنسبة إلي.

فوبيا الموت كانت سبباً جوهرياً في كل ما أعانيه على الصعيد النفسي تقريباً، بما في ذلك الانعكاسات الجسدية المرافقة لها. وبالرغم من معرفة المحلل النفسي العميقة للأمر، اقترح عليّ في إحدى ليالي الشتاء أن أذهب بعد منتصف الليل إلى المقبرة بمفردي وختم كلامه: أنتَ حر بأن تقبل أو ترفض.

حين سمعت ما قاله، أحسستُ بالهلع والقلق، وكل الأفكار المرعبة المتعلقة بالموت بدأت تدور في عقلي، ورافق ذلك ضيق في التنفس ووخز من جهة القلب وبرودة وتنميل في اليدين وتسارع في نبضات القلب. حاولت بمخيلتي الذهاب إلى المقبرة ووصلت على بعد عدة أمتار منها ولم أجرؤ أن أدخلها، كم كنت بائساً ومتألماً لحظتها!

لم أكن خلال التحليل النفسي أتجاهل أي مقترح فيه مواجهة، مهما كان مخيفاً، ولكنني لم أتوقع أن يأتي يوم يجب عليّ فيه الذهاب إلى المقبرة، أنا الذي عشتُ مرحلة الشباب أفكّر كل يوم تقريباً بالموت، وحين أسمع بوفاة شخص ما أعرفه أبقى لعدة أيام خائفاً وقلقاً.

بعد أسبوع من التفكير المرهق ذهبتُ بمفردي بعد منتصف الليل إلى مقبرة ضيعتنا. للمصادفة كان الطقس بارداً ومظلماً والهدوء يعمّ المكان. برودة الطقس زادت من خوفي، فأنا طوال حياتي أتخيل الموت برداً قارساً أبدياً، وأكره شرب الماء البارد في الصيف والجلوس تحت مكيّف الهواء واللعب في الثلج وكل ما شابه ذلك.

خطوت أول خطوة إلى المقبرة وفي رأسي كل ما سمعته من أحاديث وشاهدته من أفلام رعب عن الموتى والمقابر. سمعت حركة خفيفة بين الأعشاب أصابتني بالقشعريرة والهلع. أخذت نفساً عميقاً. شجعت نفسي ثم أشعلت ضوء هاتفي المحمول واتجهت نحو الصوت فهرب شيء ما قدّرت أنه هرة صغيرة أو فأر. شعرت بالارتياح قليلاً، وقلت: يبدو أني خائف لأن في عقلي افتراضات ومخاوف مبالغاً فيها عن المجهول الذي يوجد في المقبرة. اقتربت من القبور، درتُ حولها، ومن بينها قبر أختي وجدي، لمستهما بيديّ... مضت عدة دقائق وبدأ الشعور بالخوف ينخفض.

بينما كنتُ مشغولاً في مراقبة حالتي الداخلية، سمعتُ عند أحد القبور حركة مشابهة لتلك التي سمعتها حين دخلت المقبرة. أشعلت ضوء هاتفي واتجهت نحو مصدر الصوت مفترضاً أنّي سأرى هرة أو فأراً، وحين وصلت لم أرَ أي شيء يبرر مصدر الصوت. لم يكن هناك شيء يخدش الصمت حولي سوى صوت أنفاسي التي بدأت تعلو نتيجة خوفي الشديد.

"بينما كنت أتلفّت بكل الاتجاهات، فجأة تخرج يد من تحت التراب وتمسك قدمي بقوة وتكسرها كي لا أهرب، ثم يُفتح القبر وتخرج منه يَدان تمسكان بي وتجذبانني نحو الداخل..."

وبينما كنت أتلفّت بكل الاتجاهات، فجأة تخرج يد من تحت التراب وتمسك قدمي بقوة وتكسرها كي لا أهرب، ثم يُفتح القبر وتخرج منه يَدان تمسكان بي وتجذبانني نحو الداخل. هذا ما تخيّلت أنه سيحدث في أي لحظة، ونتيجة لذلك ارتفع معدل الخوف وأصبت بخدر في قدميّ لدرجة أنهما لم تعودا تقويان على حملي. جلست على الأرض والهلع والتوتر سيطرا على كامل عقلي. لا أعلم كم بقيت من الوقت حتى استوعبت أنّ ما فكرت فيه لم ولن يحدث. استندت على القبر لأقف وفي داخلي صوتان: الأول يصرخ: اركضْ! والثاني يقول: إنْ هربتَ ستبقى تطاردك الأفكار المرعبة عن الموت مدى الحياة، فبقيت رغم خوفي أتجول في المقبرة لبضع دقائق.

عدتُ إلى المنزل، استرجعت ما حدث أكثر من مرة، وفي كل مرة كنت أشعر بالخوف، في اليوم التالي أحسست بطمأنينة وراحة لم أشعر بهما طوال حياتي. لقد وجّهت عدة ضربات مؤلمة لمخاوفي ولكنني لم أهزمها. وهذا ما جعلني أذهب خلال شهر واحد خمس مرات إلى المقبرة، أتجوّل فيها وأسمع حركات بين الأعشاب وأتخيّل يداً تمسكني، وصوتاً يخرج من القبر قائلاً: "شو عم تعمل هون؟"... وفي كل مرة كنت أشعر بأن الخوف يتلاشى ويتلاشى، لدرجة أنني في المرة الأخيرة جلست مستنداً إلى أحد القبور ودخّنت سيجارة واستمعت لأغنية فيروز "نحنا ودياب الغابات ربينا".

بعد عدة أشهر، أحببت أن أجرّب شيئاً آخر متعلقاً بفوبيا الموت، وبدون أن أخبر المحلل النفسي، اتصلت بشيخ قريتنا وطلبت منه أن يأتي إلى المقبرة، وحين وصل وجدني مستلقياً على مغتسل الموتى، فسألني باستغراب: "ليش نايم عَ المغتسل؟!". قلت: "أريد منك أن تتلو عليّ الكلمات والآيات التي تتلوها حين تقوم بتغسيل الموتى". نظر إلى بدهشة قائلاً: "هل جننت؟! ما الذي حدث لك؟ أتعلم بأن أهالي القرية سمعوا بأنك تتردد ليلاً إلى المقبرة، ويقولون إن هناك شيئاً ما قد مَسَّ عقلك؟". ضحكت وقلت: "أنت تعلم أنني لا أبالي حتى لو قالوا أكثر من ذلك... هيا اعتبرني ميتاً وغسلني"، لكنه رفض وغادر.

"ذهبت خلال شهر واحد خمس مرات إلى المقبرة، أتجوّل فيها وأسمع حركات بين الأعشاب وأتخيّل يداً تمسكني، وصوتاً يخرج من القبر قائلاً: ‘شو عم تعمل هون؟’... وفي كل مرة كنت أشعر بأن الخوف يتلاشى ويتلاشى..."

بقيت مستلقياً على المغتسل ورحت أتخيل كيف يتم تغسيل الميت وتكفينه. خلال ذلك غفوت، وحين استيقظت بدا لي مشهد الغروب والطبيعة من حولي في غاية الجمال، وكأنني لأول مرة أرى ذلك. "هل مُت وعدت من الموت؟!"، قلت لنفسي وفي داخلي كم هائل من الراحة والطمأنينة والشجاعة لمواجهة الموت.

حين توفي جارنا، بدون تردد ذهبت إلى المقبرة قبل أن يأتوا لدفنه. نزلت في القبر المفتوح، واستلقيت على جانبي الأيمن باتجاه القُبلة، قدماي باتجاه الشرق، ورحت أتخيل طقوس دفني من لحظة وضعي في التابوت إلى لحظة مغادرة الجميع المقبرة وبقائي وحيداً تحت التراب.

خرجت من القبر وجلست على بعد عدة أمتار منه منتظراً قدوم الجنازة. أشعلت سيجارة ورحت أتأمل الشكل المستطيل للقبر المفتوح، والتراب المرمي على جانبيه والعمق غير المرئي لي من تلك المسافة. لا أعرف لماذا تراءى لي بأنه يشبه عضو الأنثى، فتساءلت: "ترى أيكون الموت هو رحلة العودة إلى الرحم من المكان ذاته الذي خرجنا منه؟!". أبهجتني الفكرة التي جرّدت القبر من مفهوم المصير الحتمي البائس للإنسان وأعطته معنى آخر. كوكب الأرض قاحل وفقير لولا وجود الأنثى عليه. لا شيء كاملاً على هذا الكوكب مثل أنثى حُبلى، هذا ما كنت أفكر فيه بينما كنت أسمع أصوات التكبير على الجنازة من بعيد.

قد يتساءل البعض لماذا الذهاب إلى المقبرة كان أكثر صعوبة بالنسبة إليّ من النوم على المغتسل وفي القبر؟ ببساطة لأنها كانت مواجهتي الأولى لفوبيا الموت، حين كان في داخلي كم هائل من الافتراضات والمخاوف المبالغ فيها.

هل هذا يعني أنّي لم أعد أخاف من الموت؟ بالطبع أخاف ولكن خوفي لم يعد اضطرابياً بل غريزياً ككل الكائنات التي تملك غريزة البقاء وتسعى للحفاظ على حياتها. هل سأخاف حين أواجه الموت؟ إنْ كنت مدركاً للحظات موتي حتماً سأخاف. إذاً، ما الفائدة من كل ما فعلته؟

الفائدة من كل ذلك ذاتية تخصني، فحياتي تغيّرت نحو الأفضل والأجمل بعد أن تخلّصتُ من فوبيا الموت.

قد يرى البعض أن الذهاب إلى المقبرة يمكن لملايين البشر فعله ببساطة، وأنا أوافقهم الرأي، ولكن حين يكون الشخص لديه أي نوع من الفوبيا، يصبح الأمر شاقاً ومخيفاً للغاية، وما قمت به هو بنفس صعوبة مواجهة صرصور لشخص لديه فوبيا من الحشرات أو أي فوبيا أخرى.

في كل اختبار خضته اكتشفتُ أن خوفي كان مبنياً على ما في داخلي من أفكار مسبقة وافتراضات مستقبلية متعلقة بموضوع الاختبار، بينما على أرض الواقع لم يكن الأمر كذلك، وأن كل أزمة أو موقف حاد تعرضت له ولم أواجهه أصبح له ظل يتبعني ويرهقني وحين واجهت تلك الأزمات والمواقف وسلطت الضوء عليها تلاشت ظلالها.

النوم في القبر كان جولتي الأخيرة مع فوبيا الموت وقد هزمتها بالضربة الفنية القاضية. شيء واحد أزعجني هو فكرة النوم على جانبي الأيمن إلى الأبد، سأترك وصية تقول: أحب النوم على جانبي الأيسر ولا أهتم في أي جهة سيكون وجهي وقدماي.

مضى وقت طويل لم أجلس فيه مع المحلل النفسي لأسباب كثيرة في مقدمتها عدم شعوري بالحاجة لذلك، إضافة إلى أني أصبحت أفهم جزءاً كبيراً من نفسيتي واكتسبتُ مهارات وامتلكت أدوات أستطيع من خلالها التعامل ومعالجة الضغوط والأزمات التي تواجهني. التحليل النفسي غيّرني وغيّر حياتي لتصبح أجمل وأكثر راحة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image