شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"القودة" أو تقديم الكفن... طقس يكرّس اللاعنف بمواجهة الثأر في صعيد مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 10 أبريل 202101:01 م

عادة الأخذ بالثأر واحدة من الظواهر التي لا تختفي بمرور السنوات، ولها جذور عميقة خاصة في صعيد مصر، فتصمّم عائلة القتيل على الأخذ بالثأر من القاتل أو أحد أفراد عائلته، ولا يسقط الأمر بمرور الزمن.

ومنذ سنوات ظهر طقس تقديم الكفن أو "القودة"، حيث يتصل شخص يعرف بـ"قاضي الدم"، بعائلتي القاتل والقتيل للصلح بينهما، وهي محاولات قد تمتد لشهور بل لسنوات، ثم تقام بعدها مراسم تقديم الكفن بهدف إنهاء حالة الثأر بطريقة سلمية.


تاريخ وأسباب وطقوس

بحسب الباحث في التراث الشعبي، محمد شحاتة العمدة، ترجح بداية ظهور الثأر مع دخول القبائل العربية وقت الفتح الإسلامي إلى مصر، لكن العمدة، وهو صعيدي المنشأ، أرجع العادة لمصر الفرعونية وأسطورة إيزيس وأوزوريس، والتي حدث خلالها نزاع بين أوزوريس وأخوه ست الذي قطعه إلى أجزاء، قيل إنها انتشرت في كل أنحاء مصر، فجمعتها زوجته إيزيس، وعندما عادت له الحياة أنجبت منه حورس، وبعدها عرفته على قاتل أبيه، وبدأت رحلته لأخذ الثأر من عمه ست، وبعد نزاعات بينهما تم الصلح.

وبحسب حديث الباحث في التراث، أيمن عثمان، لرصيف22، فقد ظهرت عادة الثأر مع الهجرات العربية إلى مصر، ورجح أن هذه العادة لم تكن موجودة إلى هذا الحين ثم بدأت في الانتشار خلال القرن الماضي.

وتحدث عثمان عن أسباب الثأر، إذ لا تسمح أسرة القتيل بالتفريط في حقه وإلا ضاعت هيبتها بين بقية العائلات، وأوضح أن الصلح يحدث بصعوبة بالغة، وأن المطلوب منه أخذ الثأر يتعرّض لضغوطات، وإن لم يأخذ بالثأر يدعوه الناس باسم أمه، مؤكداً أن مسألة إقناع القاتل بتقديم الكفن صعبة أيضاً.


من طقس تقديم الكفن

من طقس تقديم الكفن - المصدر الكاتب فتحي عبد السميع

وللأخذ بالثأر أخلاقيات، كما يوضح العمدة من خلال قناته على يوتيوب، فعندما يكون القاتل وحيداً لا أخوة له وله أطفال صغار، تنتظر أسرة القتيل حتى يكبر أولاده، ومن ثم يتم أخذ الثأر منه ولو بعد 20 عاماً.

وقديماً، كان الثأر يؤخذ من القاتل بشخصه ولا يمكن أن تتعرض عائلة القتيل لأحد من عائلته، ولكن الأمر أصبح مختلفاً فيما بعد، فتختار عائلة القتيل الشخص الأكثر تأثيراً من عائلة القاتل ويقتلونه، فالأمر تعدى الثأر ليتحول إلى حالة انتقامية شرهة.


تقديم الكفن أو القودة

يشرح محمد العمدة خطوات تقديم الكفن، فالأمر يبدأ بمحكّمين عرفيين يحاولون تقريب وجهات النظر بين الطرفين، فيتحدثون مع أهل القتيل ليقنعوهم بأهمية التصالح والعفو، ويحاولون إقناع أهل القاتل بالاعتراف بالخطأ لمنع سيل الدم.

وأكد العمدة أن الجلسة يحضرها رجال شرطة وقضاة وأحياناً وزراء، لإضفاء الشرعية عليها، وأن عدد أفراد المحكمة العرفية يكون فردياً حتى يتم ترجيح رأي على الآخر عند اختلافهم، مشيراً إلى أن تكلفة الجلسة العرفية يدفعها شخص اسمه "راعي البيت"، وبعد الصلح يأخذ نقوده من أهل القاتل.

الباحث في التراث الشعبي قال إن تقديم الكفن يكون له أشكال عدة، فقد يرتديه القاتل أو يضعه على كتفه، ووقتها يطلب القاضي من الحضور الصمت التام وكأنهم في جنازة، ويطلب مقدّم الكفن الصفح، فيقول له الطرف الآخر: "عفوت عنك"، وبعد ذلك يقفون في صفين ويضعون أيديهم على المصحف ويقسمون بأنهم أصبحوا أخوة وأنه لا نزاع بينهم، ويتم أخذ الضمانات الكاملة بتوقيعهم على وصل أمانة بمبالغ كبيرة في حالة عدم الالتزام، وبعدها يقوم أهل القتيل بعمل عزاء لفقيدهم.

الثأر مثل الحفرة التي قد تتحول إلى قبر مع الوقت.

وفي كتاب "القربان البديل"، يشرح الكاتب والشاعر فتحي عبد السميع مراحل تقديم الكفن، كطقس يرسّخ منهج اللاعنف في التصدي لمشكلة العنف، مؤكداً أن الطقس ليس عشوائياً بل يعتمد الأسلوب العلمي، فكل حالة ثأرية تُدرس بشكل جيد، وهو يقوم بشكل أساسي على إجراءات لا يقبلها الإنسان في الوضع الطبيعي، وتهدف لتطهير القاتل نفسه.

الكاتب صعيدي المنشأ، والذي كان شاهداً بشكل شخصي على طقوس القودة أكثر من مرة، قال في حديث لرصيف22 إنه لا يوجد تاريخ محدد لبداية ظهور تقديم الكفن في الصعيد، وهو طقس يعتمد على الصبر، وعلى وجود قاضٍ يسمى "قاضي الدم"، ويساعد بشكل أساسي "الأجاويد"، وهم شخصيات لها مكانتها الاجتماعية المعتبرة وتساهم في المصالحة الثأرية.

وقدم الكاتب عدداً من الخطوات لتقديم الكفن أو القودة، منها الثابت الذي يحدث مع كل طقس، ومنها ما اختفى منذ سنوات ولا يتم العمل به حالياً، وبعضها يختفي ويظهر مرة أخرى وفقاً لشخصية قاضي الدم.


مهرجان طقسي

من أهم المصطلحات المرتبطة بطقس تقديم الكفن "ردم بؤرة الدم"، ويقصد به إنهاء الخصومة، لأن الثأر مثل الحفرة التي قد تتحول إلى قبر مع الوقت، لذلك تعتمد على أشخاص لديهم قدرة فائقة على الإقناع، يجمعون المعلومات عن العائلتين للتعامل معهما، ويتمتعون بقدر كبير من ضبط النفس، وهم "قضاة الدم" و"الأجاويد".

ولقضاة الدم نوعان، الأول يحرص على المصالحة دون أدنى تدخل من السلطة فتكون فعّالة وتحقق مرادها، والثاني يعتمد على السلطة فيخضع لضغطها وقد يكون تصالحاً رمزياً فقط ولا يحدث على أرض الواقع.

ومثلما يحتاج الثأر إلى إعلان، كذلك التصالح يحتاج إلى مهرجان. يقول فتحي عبد السميع إن المهرجان يكون كبيراً، ويثبت من خلاله أن أهل القتيل قبلوا ليس ضعفاً منهم، ولكن لقدرتهم على العفو بعد أن جاءهم القاتل ذليلاً. وتوزع بطاقات دعوة للمهرجان –مثل دعوات الزفاف- ليس فقط داخل القرية، ولكن تصل للقرى المجاورة، ويحضر قاضي الدم والأجاويد وممثلو السلطة، مثل المحافظ ورجال الشرطة، وشخصيات عامة ذات شأن، وطرفا النزاع.


من طقس تقديم الكفن

من طقس تقديم الكفن - المصدر الكاتب فتحي عبد السميع

التلقين والكفن

في المهرجان، يقوم قاضي الدم بإحضار القاتل ليلقي كلمة على الحضور، ويقول إن العفو شرف وهيبة وحرمة، ويلقّن القاضي القاتلَ الشهادتين، وهو إجراء يتشابه فيه القاتل بالشخص الميت ويربطه بعالم الموتى. ويرتبط الأمر بمصطلح "التفطيم"، ويقصد به انتهاء الشخص من عادة قد تؤدي لدماره.

ويعد حمل الكفن أساسياً في طقس القودة، ويشرح فتحي عبد السميع في كتابه تفاصيل العادة المتغيرة بمرور السنوات: قديماً كان يرتدي حامل الكفن قميصاً أبيض، ويتم لفّه بالكفن ووضعه في نعش والسير به مسافة طويلة، ولكن هذه التفاصيل اندثرت للتخفيف من قساوة الطقس، ويكتفى الآن بحمل الكفن وتقديمه لعائلة القتيل.

والكفن يكون مماثلاً للكفن العادي، ويكتب عليه اسم مقدم القودة وقابلها للإثبات بقبول العفو، ويتم التعامل مع الكفن بطريقتين، فقد تحتفظ به عائلة القتيل، وقد يدفن في الجبانة إشارة إلى موت القاتل ولو رمزياً.

تقديم الكفن طقس يرسّخ منهج اللاعنف في التصدي لمشكلة العنف، وهو ليس عشوائياً بل يعتمد الأسلوب العلمي، فكل حالة ثأرية تُدرس بشكل جيد، ويقوم بشكل أساسي على إجراءات لا يقبلها الإنسان في الوضع الطبيعي، وتهدف لتطهير القاتل نفسه

وبعد التفطيم، يجرّد قاضي الدم القاتل من جلبابه ويلبسه جلباباً أسود مقلوباً، ويكون قصيراً تحت الركبة مباشرة، ما يدل على رغبة القاتل بالتقرّب من عائلة القتيل.

ويحرم على القاتل أثناء القودة ارتداء العمامة لتمييزه عن بقية الحضور والتأكيد على خروجه عن الجماعة ووضعه في دائرة النجاسة، وعندما يُعفى عنه يقوم ولي الدم بلف عمامته. ولا يرتدي القاتل أيضاً حذاءه حتى يتم ثبوت انتقاص هيبته.


بكاء ووقفة

عندما يخرج القاتل لأداء طقس القودة تبدأ النساء بالصراخ والبكاء والعويل وكأنه يُرسل إلى مدفنه، ويُربط شاش على رقبة القاتل ويشده قاضي الدم أمام الحضور، وإن كانت المسافة بعيدة يوصي القاضي أحد الأشخاص بأداء هذه المهمة، وهذا الطقس له دلالتان، إما تشبيه القاتل بالبهيمة أو إثبات هيمنة أهل القتيل عليه.

يحرم على القاتل أثناء القودة ارتداء العمامة لتمييزه عن بقية الحضور والتأكيد على خروجه عن الجماعة ووضعه في دائرة النجاسة، وعندما يُعفى عنه يقوم ولي الدم بلف عمامته. ولا يرتدي القاتل أيضاً حذاءه حتى يتم ثبوت انتقاص هيبته

وعندما يصطحب قاضي الدم القاتل إلى المنصة يقف جميع الحضور، ثم يردد عبارة ليقولها وراءه القاتل: "اقبلوني لوجه الله ورسوله والأجاويد الحضور"، ثم يرد عليه ولي الدم ويقول: "قبلناك لوجه الله ورسوله والأجاويد والحضور".

وبعد قبول القودة، يُقام العزاء من قبل أهل القتيل. وبعد الانتهاء من كافة الطقوس، قد يتم الاتفاق على "التهجير"، وهو فعل تتقرب به عائلة القاتل من أهل القتيل ويهدف لمراعاتهم، ويعني استبدال محل إقامته بمكان آخر خارج حدود المحافظة.


من طقس تقديم الكفن

من طقس تقديم الكفن - المصدر الكاتب فتحي عبد السميع


الفن وقضية الثأر

يرى الباحث أيمن عثمان بأن الأعمال الفنية تناولت قضية الثأر وتقديم الكفن بشكل مجتزئ ولا يعبّر عن الواقع بشكل حقيقي، وهذا ما رأيناه في فيلم "دماء على النيل" لهند رستم وفريد شوقي، ففي الصعيد لا تحمل المرأة السلاح، ولا تأخذ بالثأر، كما أن تسليم الكفن لا يكون في قسم الشرطة.

الباحث محمد العمدة شرح أيضاً دور الفن في تشويه صورة الصعيد، وقال إن السينما والدراما يتعاملان مع الموضوع وكأنه وصمة عار، ويؤججان نيران الثأر والغضب لدى أهل الجنوب، ويظهران المجتمع الصعيدي وكأنه مجتمع دموي، في حين أن عادة الثأر بدأت تنحسر نوعاً ما.



وفي كتاب "القربان البديل"، أوضح فتحي عبد السميع أن الأعمال الفنية التي تحدثت عن الصعيد تستخدم المعلومات الشائعة دون دراسة، وأن عليها الاهتمام بطقس القودة بهدف المصالحة وليس الثأر.

واستشهد الكاتب أيضاً بفيلم "دماء على النيل"، قائلاً إنه لا يعالج قصة الثأر بل يستغلها لتقديم قصة حب غير معتادة ويستهدف الإثارة فقط، كما أن رفع المرأة السلاح لأخذ الثأر أمر غير حقيقي ولا يقبل به الرجل الصعيدي، ولا يمكن أن نقبله حتى لو كان من باب الخيال.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image