ترتدي عباءتها وخمارها الأسود الطويل، وتتبع صوت العويل والبكاء لتصل إلى بيت المتوفي، تسأل بسرعة عن عمره ومعلومات مقتضبة عنه، ثم تقف منتصبة وسط باحة المنزل وتبدأ في العويل والنواح… تلك هي مهنة النواحة التي لا وقت محدد لها؛ فهي تأتي فجأة كما الموت تماماً.
النواحة أو "المعددة" كما تسمى في بعض الدول العربية، هي المرأة التي تأتي خصيصاً لتعدد خصال الميت بألحان وصوت خاص، تذكر خلالها جميع مزاياه، وما قدمه من خير في حياته بطريقة شعرية، فيها كثير من السجع لتحفز ذويه والحاضرين على البكاء والنحيب.
مهنة النحيب هي ضرب من الرثاء، وقد وجدت منذ قديم الزمان وفي جميع المجتمعات تقريباً، ورغم قلتها اليوم إلا أنها مازالت موجودة في بعض القرى والريف غرب تونس، حيث منهن من يشتغلن بمقابل وأخريات يمارسنها كهواية لا غير.
لطم وعويل
من أهم أدوات عمل الندابة، صوتها، وقدرتها على نظم الكلمات بطريقة شعرية متناسقة ومؤثرة في الآن ذاته، فالنحيب هو طقس من الطقوس الفنية للموت مثل طقوس الأفراح، حتى إن بعضهن يشتغلن كمنشدات في حفلات الزفاف، وسرعان ما يتحولن إلى ندابات فور سماع خبر موت قريب.
ترتدي سالمة (اسم مستعار) 55 عاماً، من محافظة سليانة في تونس، ثوباً أسود رثاً، وتتجه نحو بيت الميت، وحال وصولها تسأل إحدى الحاضرات عن عمره، وبعض المعلومات عنه خلسة، ثم تتوسط الحاضرات، تنزع حجابها وتبدأ باللطم والعويل، ونظم ما تيسر من الأبيات حول مسيرة الرجل، وتعدّد خصاله التي عرفتها منذ دقائق، ولا تعلم حتى إن كانت صحيحة أم لا، لكن مهنتها تحتم عليها فعل ذلك.
تراكم الأحزان يعمي القلوب. توفي والديّ منذ سنوات، لكن بداخلي وجع وغصة في القلب لم تندمل بعد، لذلك أجد متنفساً في الجلوس أمام النواحة والبكاء معها، فهي فرصتي الوحيدة لإفراغ ما بداخلي من كمد"
تتعدد أفعال اللطم وتتنوع من ندابة إلى أخرى، فمنهن من تنثر التراب هنا وهناك، ومنهن من تلطم وجهها وجسدها، وأخرى تمزق ثيابها كتعبير على قوة تأثّرها، ومكانة الميت في العائلة أو المجتمع، وكم يعد موته خسارة فادحة، تتطلّب حزناً كبيراً.
تقول سحر، 22 عاماً، تسكن تونس العاصمة وعاملة في "كول سنتر"، لرصيف22: "عند وفاة جدي صُدمتُ مما تفعله النواحة، فأنا أول مرة أرى بكاء وعويلاً ولطماً بتلك الحدة، الموت حق ويجب أن نتقبل ذلك، ولا داعي لكل تلك الأفعال التي أرجح أنها لغاية ربحية لا أكثر".
أما صديقتها ملاك، 23 عاماً، فتروي ضاحكة كيف أخطأت نواحة في عمر الميت الذي كان مسناً، وهي تعدد خصاله على أنه شاب في العشرينات، ما أثار ضحك الحاضرين حينها.
"عملي ليس سهلاً"
تقول سالمة لرصيف22: "أمارس مهنتي هذه منذ أكثر من 20 عاماً، وفي الحقيقة أنا لا أطلب مقابلاً، لكن لن أقول لا إذا وضعت في جيبي بعض الدنانير كصدقة على روح الميت، فعملي ليس سهلاً كما يعتقد البعض، وقليلات هن من يمتلكن القدرة على تحفيز شخص على البكاء بطريقة فنية، فما أقدمه هو نظم الأشعار".
تجلس سالمة وسط الدار، وتبدأ في النواح والعويل بصوت عال يصدح في الأرجاء، وتبدأ في تعداد خصال الميت ذي الستين سنة، تقول: "مشيت يا حاج كنت سند للفقير والمحتاج... بعدك ضاع الصغير وموتك بكى الكبير"، وكلما علا صوتها علت معه أصوات النحيب والبكاء من أقارب الميت، وحتى من غيرهن من الحاضرات اللاتي يتذكرن أمواتهن في تلك اللحظة، فيجتمعن حول الندابة، ويثنين على ما تقوله، بل يشجعنها على المواصلة، وكأنهن يفرغن شحنات سلبية كانت مدفونة داخلهن، وجاءت الفرصة للتخلص منها عن طريق العويل والبكاء.
"أحزاننا كثيرة، نحن بحاجة إلى الفضفضة".
تقول فاطمة، 50 عاماً، من محافظة سليانة التونسية: "إن المرء بحاجة إلى الفضفضة، فتراكم الأحزان يعمي القلوب. توفي والداي منذ سنوات، لكن بداخلي وجع وغصة في القلب لم تندمل بعد، لذلك أجد متنفساً في الجلوس أمام النواحة والبكاء معها، فهي فرصتي الوحيدة لإفراغ ما بداخلي من كمد".
لا تلطم الندابة وحدها عادة، بل إن ثلة من الحاضرات يساعدنها في ذلك، فيشكلن حلقة حولها، ثم يرددن ما تقوله بصوت عال فيه من النحيب والبكاء الكثير، فكأنها فرقة متناسقة قد تدربت على مقطوعة موسيقية قبل عرضها.
تسكت سالمة لبرهة من الزمن لتستجمع قواها، وتأخذ قسطاً من الراحة، فتأتي لها النسوة بكأس من الماء، وقطعة من السكر لإصلاح ما ضاع من صوتها بسبب كثرة النواح، وتدسّ إحدى قريبات الميت نقوداً في يدها، تخبئها بسرعة داخل جلبابها، وتستأنف نشاطها مجدداً.
عملي ليس سهلاً كما يعتقد البعض، وقليلات هن من يمتلكن القدرة على تحفيز شخص على البكاء بطريقة فنية، فما أقدمه هو نظم الأشعار"
تتذكر سناء 40 عاماً، محامية من تونس العاصمة، النواحة التي كانت صديقة لجدتها، تصفها بالماهرة، وتأثرت بمشاعرها المتناقضة أثناء تأدية مهامها، تقول لرصيف22: "كنت أذهب وأنا صغيرة عند جدتي في القرية، وكانت صديقتها نواحة ماهرة، حتى إني ذهبت معها ذات مرة إلى دار الميت، وأذكر أني بكيت كثيراً، فقد اعتقدت أن الميت قريبها من شدة بكائها عليه، والطريف في الموضوع، أنها كانت تضحك في الطريق ولم تبدأ البكاء إلا عند وصولنا".
وتضيف سناء ضاحكة: "النواحات ممثلات بارعات، حيث لديهن موهبة تغيير المزاج في برهة من الزمن، من الضحك إلى البكاء والعكس، فصديقة فجدتي مثلاً كانت تغني في الأعراس وتلطم على الموتى. تقول إن لكل مقام مقال، وهي تفعل ذلك تطوعاً أو ربما حباً للشهرة، فقد كانت أشهر من نار على علم في قريتها، حيث كانت تلبي دعوة الجميع، تفتخر بصوتها العالي وقدرتها على نظم الأشعار".
وجدت مهنة النواحة، أو المعددة كما يسمونها في مصر، منذ عصور، كما يذكر أنها كانت موجودة أيضاً في بلاد الشام والجزيرة العربية والسودان، وتختلف طرق النواح من ثقافة إلى أخرى، لكن السبب واحد والهدف كذلك، فكلما زاد النواح والنحيب زادت قيمة الميت في نظر الحضور، ما يجعل البعض في تونس يدفعون أموالاً للندابة كلما قل نحيبها كي يحفزونها على المزيد من البكاء والعويل، ربما اعتقاداً منهم أن الميت سيحسّ بما فعلت عائلته من أجله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...