بعد ليلة باردة تليق بشتاء 2015، خرج عبد العظيم، وهو صياد في محافظة الفيوم شمال الصعيد، فجراً، ليرتاد مركبه في بحيرة قارون ويمارس عمله اليومي في صيد الأسماك، إلا أنه فوجئ برفقة زملائه من الصيادين بمياه سوداء تغطي البحيرة وتشبه مياه الصرف الصحي.
على شاطئ البحيرة التي تقع 50 كيلومتراً غرب النيل، وجد الصيادون آنذاك كميات من الكائنات البحرية والأسماك نافقةً، بسبب تلوث المياه نتيجة إلقاء أدوات الصيد والمخلفات فيها، ويقول عبد العظيم: "بعض الأسماك على الشاطئ كانت مُلتفةً بشباك الصيد وهي نافقة".
حال تلك الأسماك يمتد إلى نحو 20 ألف نوع من الكائنات البحرية في سواحل مصر، والتي باتت مُهددةً بالنفوق والانقراض نتيجة تخلص صيادين بطرق غير أمنة من أدوات الصيد (الشباك)، والتي تغوص في الأعماق وتلتف على الكائنات البحرية وتؤدي إلى نفوقها.
بعض الأسماك على الشاطئ كانت مُلتفةً بشباك الصيد وهي نافقة.
يوضح عبد العظيم الذي يعمل في مهنة الصيد منذ عقود، أن الأزمة في القانون المصري الذي يمنع الصيد بأي شيء سوى الشباك التي تُعدّ مؤذيةً، مضيفاً في حديثه إلى رصيف22: "البندقية مخصصة للسياح فقط في صيد السمك، وفي دول العالم يتم عمل بطولات لعملية الصيد بالبندقية، لذلك نطالب بفك الحظر عنها واستخدامها، لأنها لا تضر بالبيئة وآمنة".
وتختلف أدوات الصيد البحري، ومنها السنارة وكذلك شبكة الصيد، وهي متنوعة من حيث شكلها وحجمها، فقديماً كانت تُصنع من خيوط رفيعة ومتينة، أما اليوم فتُصنع من النايلون، ومنها الرماح ومنها الرماح العادية أو الرماح ثلاثية الشعب، ويشير صياد الفيوم إلى أن الشباك تكون مصنوعةً من الرصاص، وبعضها يكون ذا فتحات ضيقة، حين يعلق به أي كائن بحري يتأذى ويختنق أو ينفق.
الحياة البحرية في خطر
بكري أبو الحسن، نقيب الصيادين في السويس، يوضح أن شباك الصيد هي واحدة من الأدوات الرئيسية في الصيد التي لا يستطيع الصياد الاستغناء عنها، وتنقسم إلى أنواع، منها شباك ذات غزل بفتحات كبيرة لصيد الأسماك الكبيرة، وهناك شباك بفتحات ضيقة.
وتكمن الأزمة في السفن التي تغرق بالكامل وفيها معدات الصيد والشباك، بحسب أبو الحسن، الذي يضيف لرصيف22: "هذه الشباك تعلق في مراكب أخرى فيلقيها أصحابها في قاع البحار والمحيطات، وتلتف على الكائنات البحرية الضخمة وتؤذيها، وتجرف الأمواج تلك الشباك إلى البر الذي تتواجد فيه الكائنات البحرية الصغيرة وتلتف عليها وتظل عالقةً حتى تختنق أو تنفق وتموت".
ويؤكد أن شباك الصيد والتعامل غير السليم معها أو التخلص غير الآمن منها، تمثل خطراً داهماً على الكائنات البحرية في قاع البحر، مرجعاً السبب إلى وجود كائنات بحرية نادرة كثيرة غير السمك، مثل السلاحف وأسماك القرش والحيتان التي يخنقها ويجرفها الشبك ذو الغزل القوي بفعل التيارات البحرية، ويصيبها إصابات بالغةً تؤدي إلى نفوقها.
وحالياً، يتخلص كثيرون من الصيادين من الشبك القديم بشكل غير آمن عبر إلقائه في قاع البحر، وهو أحد العوامل التي جعلت الصيد بالشباك خطيراً على الكائنات البحرية النادرة، وفقاً لنقيب الصيادين.
الجر بالشباك لا يفرّق بين السمك والكائنات البحرية التي تختنق به وتنفق، إلى جانب عدم وجود طرق للتخلص الآمن من شباك الصيد، فتُلقى على أعماق 1000 متر حيث بيت الكائنات النادرة، لذلك تُعدّ شباك الصيد من أكبر المشكلات التي تضر بالبيئة البحرية
وقائع قاسية على الكائنات البحرية
في حزيران/ يونيو من العام 2020، أفرجت صحيفة ديلي ميل البريطانية، عن صور صادمة بشأن العثور على فقمة صغيرة عالقة في شبكة صيد أسماك قرب أحد الشواطئ البريطانية، وقد ماتت الفقمة حين كان فريق الإنقاذ يحاول فك الشباك الملتفة حول رأسها.
وعلى صعيد مصر، رصد المعهد القومي لعلوم البحار في مدينة الغردقة، حالتي نفوق لدولفينين سقطا في شباك صياد نهاية عام 2020، واستخرجت في الفترة ذاتها الإدارة العامة لمحميات جنوب سيناء، عدداً من شباك الصيد المهملة في مدينة نويبع، بعد أن تسببت في قتل سلحفاة بحرية نادرة، وفي العام 2021، أعلن طلاب مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية، أسباب نفوق الدولفين الذي عُثر عليه في مدينة جمصة، وهي ابتلاع بعض المخلفات البحرية من شباك صيد وأكياس بلاستيكية، إذ ملأت تجويف معدته ومنعته من التغذية، ما أدى إلى وفاته.
ضخامة الخسائر الناتجة عن استخدام شباك الصيد توضح حجم الكارثة بشدة، لذا تُعد تلك الأداة من أكثر التهديدات المحلية للأسماك والشعاب المرجانية، وفق دراسة قام بها علماء في معهد الموارد العالمية في واشنطن بعنوان "الحياة البحرية في خطر"، وخلصت إلى أن 55% من الأسماك والشعاب المرجانية مهددة بسبب استخدام تلك الشباك، التي وصفتها الدراسة بطريقة صيد مدمرة، فبالإضافة إلى الخطر الذي تمثله على الكائنات داخل المياه، يموت ما بين ثلث الأسماك المجمعة باستخدام هذه الطريقة، ونصفها، بعد فترة وجيزة من حصادها.
وتشير دراسات أخرى صادرة في تركيا إلى الخطر الكبير لشباك الصيد على السلاحف، إذ تصطاد هذه الشباك، عدا عن السمك، العديد من الكائنات البحرية الأخرى في طريقها. وأيضاً حذرت دراسة خرج بها فريق بحثي من جامعة إكسترا البريطانية عام 2019، من نفوق أسماك القرش والشفنين البحري بعد أن تعلق في خيوط الشباك الشبحية العائمة ونفايات البلاستيك.
لا بد من فتح المجال أمام الصيادين لاستبدال الشباك القديمة بأخرى جديدة، كي يتم تشجيعهم على التخلص الآمن من شباك الصيد.
المشكلة: الصيد غير الآمن
رمضان عبده، صياد منذ 40 عاماً، في منطقة رشيد التابعة لمحافظة دمياط، لا يعرف وسائل أخرى للصيد سوى الشباك، لكنه يوضح أن هناك معايير لنوع الغزل المستخدم، فلا بد أن يكون وسع الماجة أو العين كبيراً، حتى تصطاد السمك الكبير وليس الصغير، منعاً لانقراضه.
ويوضح عبده لـرصيف22، أن البعض يصطادون في أماكن محظورة عبر تلك الشباك، مما يؤدي إلى إيذاء الكائنات البحرية وكذلك الشعاب المرجانية، مشيراً إلى أن تلك الشباك تغرق في القاع والمحيطات، وتلتف حول الأنواع النادرة المحظورة الصيد من دون القدرة على تخليصها.
والأماكن المحظور الصيد فيها، هي أماكن نمو صغار السمك، كما يوضح نقيب الصيادين، إلا أن البعض يتمكنون من الصيد فيها ليلاً عبر استخدام شباك ضيقة تعلق فيها تلك الأسماك، ما يؤدي إلى انقراضها ونفاد مخزون السمك.
أما نوع الغزل المصرح باستخدامه من الجهاز التنفيذي لهيئة الثروة السمكية وفق حديث الصياد عبده، فهو الغزل ذو الفتحات الواسعة والذي إذا علقت به كائنات بحرية، بعضها قد يستطيع الهروب منه، إلا أن كثيراً من الصيادين يستخدمون الغزل الضيق الذي يؤذي الكائنات البحرية.
وبحكم عمله في مهنة الصيد، يرى أن الصيد غير الآمن بالشباك يؤذي الكائنات البحرية ويهدد الأمن الغذائي، وكذلك السياحة، بنفوق كائنات بحرية نادرة لا تستطيع التخلص من تلك الشباك القوية التي تجرفها وتخنقها، وانقراضها.
شباك الصيد والتعامل غير السليم معها أو التخلص غير الآمن منها، تمثل خطراً داهماً على الكائنات البحرية في قاع البحر، مرجعاً السبب إلى وجود كائنات بحرية نادرة كثيرة غير السمك، مثل السلاحف وأسماك القرش والحيتان التي يخنقها ويجرفها الشبك ذو الغزل القوي بفعل التيارات البحرية
حلول لإنقاذ البيئة البحرية من الشباك
رئيس جمعية الإنقاذ البحري وحماية البيئة، حسن الطيب، يوضح أن الشباك هي أسوأ ما يمكن استخدامه في عملية الصيد بسبب الأضرار التي تسببها على الكائنات البحرية، مشيراً إلى أن الشباك تُستخدم بطريقة الجر فتقوم بجرف الأخضر واليابس من الكائنات النادرة والشعاب المرجانية.
ويضيف لرصيف22: "الجر بالشباك لا يفرّق بين السمك والكائنات البحرية التي تختنق به وتنفق، إلى جانب عدم وجود طرق للتخلص الآمن من شباك الصيد، فتُلقى على أعماق 1000 متر حيث بيت الكائنات النادرة، لذلك تُعدّ شباك الصيد من أكبر المشكلات التي تضر بالبيئة البحرية". ويؤكد أن الصيادين يتخلصون من شباك الصيد في قاع البحار فتعلق في الشعاب المرجانية والأحياء البحرية، ولا يتمكن أحد من تخليصها فتموت في الأعماق، ومنها الدرافيل والسلاحف النادرة.
ويقترح رئيس الجمعية حلولاً عدة، منها أن تكون هناك فرقٌ لتنظيف البحار من تلك الشباك وإنقاذ الكائنات البحرية العالقة فيها بشكل دوري، وكذلك فتح المجال أمام الصيادين لاستبدال الشباك القديمة بأخرى جديدة، كي يتم تشجيعهم على التخلص الآمن من شباك الصيد وعدم إلقائها في البحار، وتكون مسؤولةً عن ذلك هيئة الثروة السمكية في كل محافظة.
ومن الجدير بالذكر، أنه لا يوجد حتى الآن أي دور حكومي للتخلص الآمن من شباك الصيد، لأن استخدامها ليس محظوراً وفق القانون، ولكنه مؤذٍ بحسب الدراسات والصيادين، وهنا تتبين ضرورة السماح باستخدام أدوات وطرق أكثر أمناً في الصيد، للحفاظ على الحياة البحرية وتنوعها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...