ينتظر حنا رزق (39 عاماً) هذه الأيام من كل عام لكي يكون بجوار أسرته في قريته بمحافظة المنيا. طوال العام يعمل بائعاً متجولاً في قرى محافظة الشرقية، يبيع الملابس لـ"يكسب رزقه بالحلال"، لكن في شهر "هاتور" تشرين الثاني/ نوفمبر يعود إلى قريته ليبيع "السمك" الطازج. في الأصل هو صياد ترك مهنة أجداده، بعدما صارت لا تلبي احتياجات أسرته الصغيرة، لكن طوال أشهر هاتور، وكيهك، وطوبة (نوفمبر وديسمبر ويناير) يشده الحنين إلى النيل ورفاقه الصيادين، وبعض أنواع السمك: "البلطي" و "القراميط" و"البياض" و"الثعابين".
يعتمد سكان قريته والقرى المجاورة على سمك النيل كغذاء رئيسي طوال هذه الأشهر، لا سيما أنها فترة صوم الميلاد المجيد (43 يوماً)، التي لا يحرم فيها أكل السمك، مثل صوم عيد القيامة، ويا لحظ المسيحيين في مصر، فإن أجمل سمك يمكنك أكله من النيل، هو سمك شهري هاتور وكيهك، ويا لحظ الصيادين، الذين يكافئهم النهر بالصيد الوفير، منذ بدء جريانه في أرض مصر.
يقول حنا لرصيف22: "مستعد آكل طول السنة سمك وماكولش غيره، بس البطن ما بتصبرش ع الجوع، والبحر عايز صبر"، وهو رأي اجتمع عليه الكثير من المصريين، الذين يحبّون أكل الأسماك بكل أنواعها.
ربما لا يعرف حنا تاريخ أسماك النيل مع أجداده من قدماء المصريين، أو حتى مع المسيحيين الأوائل، لكنه يعرف أن تلاميذ السيد المسيح كان من بينهم صيادو سمك في نهر الأردن، ويعرف أيضاً أن المسيح قام بإطعام خمسة آلاف نفس بخمسة أرغفة وسمكتين ( إنجيل متى- الإصحاح الرابع عشر)، كما يحفظ الأيقونات التي يظهر فيها المسيح وهو يساعد تلاميذه في صيد السمك.
تقول الأسطورة أن العضو الذكري لأوزوريس ابتلعه قرموط، لذا كان محرماً أكله في مصر القديمة، وحديثاً يتجنبه الأهالي لأنه يكثر في المصارف الصحية
ارتبط السمك بالمسيحية طوال تاريخها، ليس فقط في معجزات المسيح المذكورة في الأناجيل، أو حتى رمزيتها المقدسة في الديانة المسيحية، التي تصل إلى تشبيه المسيح بـالسمكة، كما هو أيضاً الحمل والحمامة، حسب تقرير في موقع "البابا فرنسيس"، يعرف نفسه بأنه "كاثوليكي غير رسمي".
منذ القرن الأول الميلادي استخدم المسيحيون رمز "السمكة" كعلامة سرية فيما بينهم ليعرفوا بعضهم بعضاً، خوفاً من اضطهاد الوثنيين لهم، بعدما كانوا يستخدمون علامة الصليب، التي تم كشفها.
ويحكى أن المسيحي كان عندما يقابل شخصاً جديداً، بحسب تقرير الموقع الكاثوليكي، ويريد معرفة ما إذا كان مسيحياً مثله، يقوم برسم نصف السمكة الأمامي، الفم وخطين متقاطعين يشكلان نصف الجزع، فإذا رسم الآخر النصف المتبقي من الجزع والذيل يعرف أنه مسيحي مثله، كذلك استخدم فنانون مسيحيون على مر العصور السمك في تصميماتهم من الأخشاب والمعادن، لا في الأيقونات فحسب.
يستخدم حنا ورفاقه الصيادون نفس الطرق التي استخدمها أجداده المصريون القدماء في الصيد تقريباً، شباك صغيرة بدائية و"فلايك" صغيرة (مفردها فلوكة)، وهي مراكب صغيرة لا تتسع سوى لشخصين، ينصبون شباكهم طوال الليل ومعها "الفوانيس" قرب الشواطئ، ويسحبون شباكهم بعد الفجر، لجمع محصولهم من الأسماك، ثم بيعها بأنفسهم للأهالي، كما يفعل حنا، أو لبائعي السمك الذين يجولون القرى منذ الصباح الباكر يومياً.
"القرموط ابتلع عضو أوزوريس"
طوال هذه الأشهر، يبيع حنا أسماكه بسعر زهيد، كيلو البلطي بثلاثين جنيهاً (ما يقارب دولارين)، والقراميط بخمسة عشر. يقول: "فيه ناس بتحب البلطي، وناس بتحب القراميط، خصوصاً قراميط النيل علشان نضيفة ومش بتاكل لامؤاخذة زبالة". المعروف أن أسماك القراميط تتغذى من المخلفات، ولا يفضل الأهالي أكلها لأن مصدرها الترع والمصارف الصحية، لكن "قرموط" النيل نظيف، خصوصاً الصغير الحجم، ويفضل الأهالي طهوه في طواجن مدفوناً في الأرز بالخلطة.
واللافت أن سمك "القرموط النيلي" كان محرماً أكله في مصر قبل الميلاد، وفقاً للديانة المصرية القديمة، لارتباطه بأسطورة إيزيس وأوزوريس، التي تقول إن العضو الذكري لأوزوريس ابتلعه قرموط، بعد أن قام أخوه ست بتقطيع جسده وتوزيعه في كل أقاليم مصر، قبل أن تجمع إيزيس جسد زوجها في رحلة طويلة، ولم تجد عضوه الذكري فصنعت عضواً آخر له، وضاجعته لتلد ابنها حورس، بحسب رأي الباحثة الأثرية المصرية، داليا صلاح الدين.
"كان محرماً على الكهنة أكل الأسماك بكل أنواعها".
وتقول داليا لرصيف22: "للمصريين تاريخ طويل مع أسماك النيل، فقد كان محرماً على الكهنة أكل الأسماك بكل أنواعها، كما تحكي الأساطير عن "القراميط" أيضاً بأنها تقود مراكب الشمس في الظلام، وهي في طريقها للعالم السفلي، كذلك تم تصويرها في جداريات المقابر والتوابيت في العصور الحديثة للدولة المصرية القديمة".
ويعلق مصطفى الرفاعي، أستاذ الطهو الاحترافي بجامعة هنري فورد في أمريكا، لرصيف22: "عرف المصريون أنواعاً كثيرة من أسماك النيل، غير التي نعرفها حالياً، تصل إلى 12 نوعاً، يتفرع منها أكثر من 55 فصيلة، نعرف منها حالياً البلطي بأنواعه، والقرموط، البوري، الرعاش، البياض، الدقماق، الشفاق، ثعبان السمك، والشبوط".
يُحكى في مصر أن المسيحي قديماً، كان عندما يقابل شخصاً جديداً، ويريد معرفة ما إذا كان مسيحياً، يقوم برسم نصف السمكة الأمامي، فإذا رسم الآخر النصف المتبقي يعرف أنه مثله
ويضيف: "عرف المصريون أيضاً كافيار السمك أو "البطارخ"، وكانت لهم طرقهم الخاصة في طهوه على عكس السمك المقلي والمشوي بالردة أو "النُخالة" المستخرجة من الدقيق بعد "نخله". كان يعدون السمك في مادة دهنية تختلف عن الزيت، وأشهر طريقة توارثناها هي "التمليح" بعد نزع أحشاء الأسماك وتنظيفها، وتجفيفها، وهناك أيضاً الفسيخ والملوحة".
ويختم الرفاعي: "طرق الصيد في النيل لم تختلف أيضاً منذ آلاف السنين، فقد كان المصري القديم يصطاد بشباك صغيرة من الكتان، وبالعصي المدببة أو "الخطاف"، وفي الدلتا والصعيد لا يزال الفلاح يصطاد السمك بيديه، لا سيما في أوقات الفيضان، إذ يشيد سدوداً من الطين في المياه الضحلة من النيل، وينزل الفلاحون لاصطياد السمك بأيديهم، كما كان يفعل أجدادهم، الذين نشاهد نماذج عنهم على الجداريات في المتحف المصري".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 6 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت