نساء عزبة البرج، تلك المدينة الصغيرة التابعة لمحافظة دمياط المصرية، يحترفن منذ القدم غزل شباك الصيد، تلك الحرفة التي توارثنها جيلاً بعد جيل.
ولكن مؤخراً عندما تحاول أن تبحث عنهن، لا تراهن، وعندما تسأل، لن يدلّك أحد.
"قلة الأجر إهانة"
رحلة بحثي عن نساء يعملن في غزل الشباك حالياً، كانت أشبه بمن يبحث عن "إبرة في كوم قش" كما يقول المصريون، المهنة التي كانت تنتشر في كل بيوت البلدة أين هي؟ هل انقرضت؟
"كان زمان"، جملة تقتحم آذاني بمجرد أن أطرح السؤال على من التقيتهم هناك.
الردود الجاهزة، والإصرار على النفي، مع معلومة مؤكدة من أحد رجال القرية الكبار في السن عن وجودهن، جميعها أسباب جعلتني أواصل رحلة بحثي بدأب، وطرحي للسؤال مراراً وتكراراً إلى أن صادفتها، فتاة في العشرينيات من عمرها، وبمجرد أن عرفت مقصدي، همست في أذني: "آه فيه وكتير كمان.. بس احنا ما بنقولش".
سمراء، اسم مستعار، الفتاة التي رفضت الكلام معي إلا بوعد مني بعدم الإفصاح عن اسمها الحقيقي، أكدت لي أن أمها العجوز، وزوجات أعمامها يغزلن شباك الصيد منذ سنوات طويلة، وغيرهن كثيرات من نساء عزبة البرج، لكن الكل ينكر ذلك.
تقول سمراء: "قلة الأجر مسألة مهينة تؤكد الحاجة الشديدة لأي مبلغ، حتى ولو كان هزيلاً، وأغلب النساء اللاتي يعملن بغزل الشباك متزوجات، ولن يقبل رجالهن التصريح بأنهن يقضون الساعات أمام الغزل من أجل ملاليم لا تذكر، لذلك اتفق الجميع بشكل غير معلن على إخفاء المسألة حفظا لماء الوجه لا أكثر".
أكدت سمراء، كما اختارت أن تطلق على نفسها، أن أمها التي تخطت السبعين عاماً لا زالت تغزل شباك الصيد، رغم مرضها بسببه.
عن تأثير المهنة السلبي على العاملات بها، تقول سمراء: "المهنة وإن بدت بسيطة وسهلة لا تحتاج لمجهود عنيف، إلا أنها تؤثر بشكل واضح على فقرات العنق والظهر والذراعين وجلد اليد، فالجلوس لساعات طويلة محنية الظهر يصيب العاملين بهذه المهنة، رجالاً ونساء، بأمراض الغضروف، كما أن فك الحبال وتحضيرها للغزل يتعب الذراعين بشكل كبير، ناهيك عن موت جلد اليد بسبب الحبال وأدوات الغزل".
"عشرة جنية للكيلو.. يابلاش"
"وما هو المكسب الذي تجنيه بعد كل هذا التعب؟": سؤال وجهته لسمراء، فأجابت ضاحكة: "عشرة جنيه للكيلو.. تخيلي".
وواصلت سمراء بوحها لرصيف22: "شبكة الصيد التي يصل وزنها لـ14 كيلو من الحبال تستغرق شهرين من العمل، وتتقاضى عليها أمي 140 جنيهاً فقط. وهناك شبكة أخرى 8 كيلو تتقاضي على غزلها 35 جنيهاً فقط، لأنها بلاستيكية لا تحتاج لمجهود كالذي تحتاجه الشباك المصنوعة من الحبال".
"أغلب النساء اللاتي يعملن بغزل الشباك متزوجات، ولن يقبل رجالهن التصريح بأنهن يقضون الساعات أمام الغزل من أجل ملاليم لا تذكر، لذلك اتفق الجميع بشكل غير معلن على إخفاء المسألة حفظا لماء الوجه لا أكثر".
كلام سمراء معي شجع رفيقتها على الحديث، "أمي أيضاً تغزل الشباك"، جملة قالتها هالة بتحفظ، وهو اسم مستعار اختارته رافضة الكشف عن اسمها ايضاً.
تحكي هالة لرصيف22 عن دوافعها لامتهان غزل الشباك: "بعد موت أبي غرقاً في رحلة صيد، لم تجد أمي مفراً من العمل، بدأت كعاملة في مصانع الحلوى المنتشرة في البلدة، لكنها لم تستطع رعايتنا، فأنا وأخوتي بنات كان من الصعب تركنا بمفردنا حفاظاً على سمعتنا وشكلنا قدام الناس، فلم تجد سوى العمل من المنزل في تنظيف الأسماك للمطاعم وغزل الشباك".
"الاستغلال بديلاً عن البهدلة"
واصلت هالة كلامها: "هناك أكثر من محل متخصص في البلدة لبيع شباك الصيد الجاهزة، بينها محل أو اثنان فقط ما زال محتفظاً بتلك الصناعة اليدوية لأن مكسبها أكبر، حيث يقوم صاحب المحل بشراء الحبال الدوبار والبلاستيك ويوزعها على العاملات معه، يرسلها إلى منازلهن لتقوم كل واحدة بغزل ما تستطيعه وفقاً لحاجتها المالية، فهناك من تنجز الشبكة في أسبوع وهناك من تنجزها في شهرين، ليقوم بعد ذلك بإرسال من يأخذها مقابل عشرة جنيهات للكيلو، فالكيلوات هي التي تحدد حجم الشباك، ليبيعها هو بمئات الجنيهات، وبرغم الاستغلال الواضح في الأمر نقبل ونقول أهو أحسن من مفيش، وحاجة في البيت مش ربطة شغل ومواعيد وخروج وبهدلة بين الناس".
"رغم الاستغلال الواضح في الأمر نقبل ونقول أهو أحسن من مفيش".
طلبت من سمراء اصطحابي لمقابلة أمها العجوز، وافقت بعد تردد ووعد مني بعدم الإشارة إلى اسمها أيضاً.
في منزل بسيط جلست ممددة الساقين، امرأة عجوز ممتلئة الجسم، ملأت التجاعيد وجهها، حولها حبال كثيرة مفرودة بشكل ما على الأرض، تحتل مساحة كبيرة من المكان. أكدت سمراء أن فرد الحبال بهذا الشكل من أصعب مراحل الغزل، فتسليك الحبال المتشابكة وتحضيرها للغزل يحتاج إلى مجهود وصبر أحسد أمي عليه.
كيف تتحملين كل هذا المجهود في هذه السن؟ سؤال وجهته للحاجة "زينب" كما اخترت أن أطلق عليها، فأجابت بهدوء بينما تنتقل أداه حديدية بين أناملها بخفة وحركة ميكانيكية اعتادت عليها من فرط تكرارها: "اتعودت خلاص.. أنا بأغزل شبك من وأنا عندي عشر سنين .. شوفي بقى كام سنة".
اكتشفت الحاجة زينب أنها تغزل الشباك منذ ستين عاماً ويزيد.
سألتها عن الأدوات التي تحملها بين يديها، فقالت: "ده منقاض حديد باشتغل بيه لما الغزرزة تكون ضيقة، وفيه منه خشب كمان بس باشتغل بيه لما الغرزة توسع، ودي ماجه هما دول اللي باشتغل بيهم".
تركت الحاجة زينب لأذهب بصبحة سمراء، التي أصبحت دليلي في البلدة ومفتاحي لدخول منازل من يغزلن الشباك، إلى منزل نجاة، التي تغزل الشباك منذ فترة طويلة حيث كانت تساعد أمها قبل الزواج، ومن ثم واصلت رحلتها مع الحبال بعده.
تبرر نجاة إخفاءها للأمر، وعدم التصريح به، بسبب خوفها على "شكل زوجها بين الناس"، تقول لرصيف22: "الناس هايقولوا مش لاقي يأكل مراته، فخايفة على منظره بينهم لأنه هايتضايق ويحس أنه مقصر، وهو والله عامل اللى عليه، بس الظروف صعبة، هو بحري على باب الله (صياد)، بيسافر ورا أكل عيشه، وأحياناً بيسيبنا من غير فلوس لحد ما يقبض من ريس المركب بعد السرحة (الرحلة)، عشان كده قلت أساعده، وأوفر قرشين حتى لو قليلين أهم يسندوا في المعيشة شوية، والكافية وسط الحبال يا أستاذة أرحم من مدة الايد للناس".
"أخفي حقيقة شغلي عن الناس عشان ما يقولوش على زوجي إنه مش لاقي يأكل مراته، لأنه هايتضايق، ويحس أنه مقصر، وهو والله عامل اللى عليه، بس الظروف صعبة، هو بحري على باب الله"
أكدت نجاة أن غزل الشباك لا يصبح مجد مادياً إلا إذا قضت فيه ساعات طويلة، لتنجز الشبكة في وقت قصير، فأوزان الشباك تتنوع: هناك الـ14 كيلو والـ25 كيلو والـ45 كيلو، تتقاضى عشرة جنيهات على الكيلو الواحد، فإذا أنجزت شبكة 45 كيلو كل أسبوع استطاعت أن توفر "مبلغاً محترماً"، كما وصفته لي، يساعدها في مصاريف أبنائها الذين لا يزالون صغاراً في مراحل تعليمية مختلفة.
خرجت من منزل نجاة، ودعت سمراء وتركت عزبة البرج عائدة لحياتي، وأنا أتساءل: كيف تغيرت طبيعة البلدة بهذا الشكل في سنوات قليلة؟ فبحسب معلوماتي كانت النساء يحترفن الغزل قديماً، وأجمل وأمتن شباك كانت تخرج من بين أيديهن، ويفتخرن بذلك حتى أنهن ظهرن على شاشة السينما.
اختار المخرج عز الدين ذو الفقار أن يكون غزل الشباك هو حرفة الفنانة شادية، التي لعبت دور ابنة ريس المركب في فيلم "شاطئ الذكريات"، الذي تم إنتاجه في عام 1955، وشاركها البطولة فيه النجمين: عماد حمدي، وشكري سرحان.
تغني شادية غنوتها الشهيرة: "شبك حبيبي، شبك قلبي، وشبك روحي"، بين مجموعة حقيقية من نساء محترفات لغزل الشباك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...