حين يغلق الوطن أبوابه مرّتين… ويتحوّل حلم العودة إلى نعش مغلّف بالأسئلة

حين يغلق الوطن أبوابه مرّتين… ويتحوّل حلم العودة إلى نعش مغلّف بالأسئلة

رأي نحن والحقوق الأساسية

الاثنين 4 أغسطس 20258 دقائق للقراءة

حيث مشهد الحافلات العائدة من لبنان وتركيا يشبه فيلماً أُعيد تشغيله بعد سنوات، لاحت وجوهٌ نحيلة مطمئنّة، إلى أن أصمتتها البنادق، وحقائب نصفها هدايا للأهل والنصف الآخر أوراق رسميّة لإعادة بناء حياةٍ مهدَّمة.

لكنّ الطريق، بقدر ما بدا آمناً، كان يميل خفيةً إلى جهةٍ أخرى، جهة ينتهي فيها بعضُ العائدين إلى ثلاجات المستشفيات الوطنية، وعلى أجسادهم علاماتُ ضربٍ لم تُلحقها بهم الحرب التي فرّوا منها. 

يوسف لبّاد لم يكن معارضاً بارزاً ولا كاتباً مشهور بمقالاته، بل كان مواطناً سورياً بسيطاً، نزح خلال الحرب السورية، ثم قرّر العودة إلى بيته بعدما أُعلن عن "تحرير البلاد" من قامعي شعبها. 

خلال 48 ساعةً فقط، اتصل ضابط من "سوريا الجديدة"، بزوجته كي تتسلّم جثمانه، بزعم وفاته إثر "أزمةٍ قلبيّة مفاجئة". يوسف، ببساطة، صار سطراً في دفتر أحوالٍ مسطّر سلفاً… "عائداً توفي بعد التحرير".

وكأنّ تجاوزات العناصر الأمنية المنضوية تحت الإدارة الجديدة في حق الشباب السوري لم تعد كافيةً. أصبحت هناك حالات متكرّرة للعائدين المغيّبين، في ظل نقص المواكبة الحقوقية، وغياب الشفافية والمساءلة من طرف السلطات. كأنّ يداً واحدةً تكتب شهادات الوفاة في كلّ مرّة مع تغيير الاسم فحسب.

بينما تنشغل الكثير من حسابات مواقع التواصل الاجتماعي بأخبار إعادة الإعمار، تُطوى حكايات الكثيرين في صمت حيث لا كاميرات توثّق، ولا تحقيقاتٍ تُستكمل، ولا شارة حداد تتخطّى حدود العائلة الصغيرة، إن لم يصبحوا "ترانداً" مثل يوسف لبّاد، حين تنقطع أخبارهم بعد العودة إلى "سوريا المحرّرة"

دموع معلَّقة بين هيسن والقابون

الذين عادوا إلى سوريا أخيراً، ظنّوا أنّ الحرب سرقت منهم كلَّ شيء، ولم يدركوا أنّ هناك ما تبقّى لديهم ويمكن انتزاعه أيضاً؛ الثقة بالبيت نفسه، والأمان في شارعه، والحقّ في أن يُصدَّق خبرُ موتهم، بل إنّ الموت "العادي" -"موتة ربّه"- في هدوء أصبح حقاً لا يتوافر لهم.

وبينما تنشغل الكثير من حسابات مواقع التواصل الاجتماعي بأخبار إعادة الإعمار، تُطوى حكاياتُ الكثيرين في صمت، فلا كاميرات توثّق، ولا تحقيقاتٍ تُستكمل، ولا شارة حداد تتخطّى حدود العائلة الصغيرة. بكل بساطة، لم يصبح كثيرون منهم "ترانداً" مثل يوسف، حين انقطعت أخبارهم بعد العودة إلى "سوريا المحرّرة".

لم تكن والدة يوسف، فاطمة قزعور، لتتخيّل أنّ نبرة الفرح التي ملأت سماعة الهاتف ذات ليلةٍ صيفيّة ستتحوّل إلى صرخةٍ مكتومة، وصورة جسدٍ ممدّد على طاولة باردة.

يوسف، ابن حارة السـوق في القابون، مواليد 24 أيار/ مايو 1993، حمل غربته على كتفيه منذ عام 2012، واستقرّ منذ آب/ أغسطس 2014، في بلدة كورباخ في مقاطعة هيسن الألمانية. هو زوج، وأب لثلاثة أطفال، بنى حُلماً واحداً؛ أن يعود إلى دمشق "مُحرَّرة" ليُقيم فيها بيتاً جديداً لأسرته. 

وذات صيفٍ دمشقي، كان يُفترض أن يعانق الحنين جسداً اشتاق إلى الوطن بعد 12 عاماً من الغياب. لم يحتفل يوسف لبّاد، بل كانت نهايته في المكان الذي نذر أن يعتكف فيه حبّاً لدمشق؛ المسجد الأموي، في حادثة تشبه العودة إلى الموت. 

الطريق إلى عربين… ثم ارتداد إلى الصمت

في 25 تموز/ يوليو 2025، غادر يوسف ألمانيا، ووصل صباح اليوم التالي إلى مطار دمشق. حقائبه كانت خفيفةً، لكن ما يحمله من حنين، وفرح، وخوف دفين، كانت جميعها أثقل. وضع يوسف كل حاجياته في أمانات المسجد الأموي، حيث نذر أن يعتكف ثلاثة أيام، إذ لم يقبل مسؤولو أمن جامع الأموي أن يبات يوسف في الجامع. حسب شهادتهم، أخبروه بمنع المبيت في المساجد بتعميم من الوزارة، لكنه أراد أن ينهل من هواء الشوارع، لذا خرج يمشي مثل طفلٍ اكتشفت قدماه للتوّ ساحة الأمويّين، ثم ساحة العباسيين.

وفي الأمويين، أرسل لأخته "أمل" تسجيلاً مصوّراً، عند الساعة 12 ليلاً، يقول فيه: "آعد بنص ساحة الأمويين… يا سلاااام! ما عم إحسن نام صارلي يومين مو نايم"، وصفت والدته فرحته آنذاك بأنه كان كالعريس.

بعد الأمويين، اتجه يوسف إلى العباسيين، وهناك اتصل بوالدته ليخبرها أنه سيتوجه إلى منزل جدّته في عربين، ويسألها عن عنوان المنزل. آخر ما سمعته الأم في هذه المكالمة صوت يوسف وهو يسأل أحد المارّة: "أين أجد باص عربين"، لينقطع بعدها الاتصال. بعد عشر دقائق، اتصل من جديد وأخبرها بأنه سيعود إلى المسجد لأنّ ملابسه لا تليق بزيارة الأهل، بسبب ارتدائه إياها طوال ثلاثة أيام. اتصل فجر الإثنين بزوجته، اطمأن عليها وعلى أولاده، ثمّ... اختفى.

حاول الأهل التواصل مع ابنهم ليلاحظوا وجود شبكة إنترنت على هاتفه دون إجابة منه. وفي صورة تضاف إلى أرشيف صور شباب سوريا المعذَّبين، عرفوا بموته عبر اتصال الضابط يحيى بهلول (الملقّب بـ"أبو طاهر")، بزوجة يوسف، سندس، ليخبرها بأنّ زوجها توفّي إثر "جرعة مخدرات"، وبأنّ جثمانه حالياً في مشفى المجتهد في دمشق.

إن كان اللجوء جرحاً مفتوحاً، فإنّ العودة إلى الوطن في زمنٍ بلا ضمانات سكين يضغط على الجرح نفسه، ومن يُطمئن الناس إلى طريقٍ يُفضي إلى المشرحة، يشارك في جريمةٍ صامتة تُرتَكب كلَّ يوم في سوريا بلا شهود ولا ضوضاء

مشفى المجتهد… أبواب موصدة وحجج متناقضة

حسب شهادة والدة يوسف، مُنع أفراد العائلة ممّن توجّهوا إلى مشفى المجتهد من الدخول بحجة انتظار الطبيب الشرعي، وأُخبروا بأنّ ابنهم "توفّي بحالة تسمم ويريدون أخذ عيّنة لتحليلها". لكن عند استلام الجثمان، كانت واضحةً -دون حاجة إلى طبيب شرعي- آثار التعذيب على رأسه، وأذنه، ويده، وقدمه، وكتفه… صور تعذيب مألوفة للسوريين تُضاف إلى أرشيف طويل.

طلبت العائلة فتح تحقيق، فتمسّك عناصر الأمن في المشفى بأنه "توفّي بجرعة مخدرات وكان في حالة هستيرية". وبعد فحص الطبيب الشرعي، أُخبِروا بأنّ "التشريح كشف عن وجود مادة في معدته وفمه وغير متسرّبة إلى الدم". يرجّح الأهل أنها ربما وُضعت كي تظهر على أنها سبب الوفاة.

في 30 تموز/ يوليو 2025، صرّح رئيس الأمن في دمشق بأنّ "المغدور فعل هذا بنفسه (يقصد ابتلع المادة)، في أثناء تحفّظ عناصر الأمن عليه". الرواية أغضبت الشارع السوري لتشابهها مع روايات النظام السابق. وجّه بعدها وزير الداخلية بالتحقيق "لكشف ملابسات الحادثة ومحاسبة جميع المتورطين"، إن صحّ أنّ هناك تعذيباً.

وضع لا يحتمل التجميل

إن كان اللجوء جرحاً مفتوحاً، فإنّ العودةَ إلى الوطن في زمنٍ بلا ضمانات سكين يضغط على الجرح نفسه، فالوطن الذي لا يؤمِّن حياة أبنائه بعد انتهاء الرصاص، يُشبه بيتاً يُقفل على ساكنيه ليحترقوا. ومن يُطمئن الناس إلى طريقٍ يُفضي إلى المشرحة، يشارك في جريمةٍ صامتة تُرتكب كلَّ يومٍ في سوريا بلا شهودٍ ولا ضوضاء.

قد يبهر البعض حديث "المصالحات الكبرى" واحتفالات رفع العلم، لكن علينا أن نسأل دائماً: كم شخصاً لم يصل إلى بيته؟ كم يوسف ينتظر دوره في دفتر الوفيات المعدّ سلفاً؟

فإذا لم تُحكَ هذه القصص، سيموت الضحايا مرّتَين؛ مرةً في الزنزانة، ومرةً في النسيان. ونحن نتكلّم عن العائدين هنا دون أن نتطرّق إلى الانتهاكات، والتجاوزات الموجهة بشكل يكاد يكون ممنهجاً ضد المواطنين في مناطق سيطرة نظام الأسد سابقاً، حيث يعاملون وكأنما يحاسَبون على عدم هروبهم… عفواً على عدم قدرتهم على الهروب. 

قال لي أحدهم: "عندما يتعامل أحد عناصر الأمن العام معي، أشعر بتأكده من أن لا أحد يعرف الله غيرهم، لا بل لا يحقّ لك الدعاء أو الاستشهاد بالله لتبرّئ نفسك من شيء لم ترتكبه حتى، في نوع من العقاب الجماعي الذي لطالما مارسه بشار الأسد على مختلف مكوّنات الشعب السوري في الداخل والخارج.

ربما علينا أن نمشي في سوريا ونحن مستعدّون للنقر على زر اللايف على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، خوفاً علينا، أو على الأقل توثيقاً لما قد يعترضنا، فإن متنا بغير فيديو كأننا لم نمُت

لا يموت العائدون حبّاً… بل حين تُكمَّم الحقيقة

يوسف لبّاد حمل حقائبه ليُشيّد حياةً جديدةً، فكان نصيبه نعشاً مُحمَّلاً بالشكوك. من القابون إلى كورباخ، ومن المسجد الأموي إلى المشرحة، امتدّ خيطٌ دامٍ يربط الأمّ بولدها. لن تُعيد المقالات نبض القلب الذي تلاشى، لكنّها تُعيد للذاكرة حقّها في الصراخ.

وبعد يوم من إعلان وفاته، عجّت مواقع التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو عن اعتقال الشاب عبد الرزاق الثلجي، خلال عودته الأولى إلى دمشق منذ 13 عاماً، بعد مداهمة عنيفة لمنزله في حضور عائلته عقب "بلاغ كيدي من أحد جيرانه"، بعد ضرب والده في عقر داره. وبما أنّ الموضوع أصبح "ترانداً"، تمّت المصالحة والمتابعة. 

ربما علينا أن نمشي في سوريا ونحن مستعدّون للنقر على زر اللايف على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، خوفاً علينا، أو على الأقل توثيقاً لما من الممكن أن يعترضنا، فإن متنا بغير فيديو كأننا لم نمُت.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image