كانت المرة الأولى التي وطئت فيها قدماي مصلحة الأورام السرطانية في مركز بيار وماري كيري في المركز الاستشفائي الجامعي مصطفى باشا، الذي يُعدّ من أكبر المستشفيات في الجزائر وأقدمها، عندما أصيبت أًمي بمرض خبيث. انهرت نفسياً وجسدياً، لأن التي تعانقني وتحضنني يومياً كان جسدها يصارع من أجل البقاء، ولم أكن أفكّر حينها في أمر آخر سوى ذلك الورم المؤذي الذي حوّل جسد أمي إلى جثة هامدة.
خرجت وتركت والدتي تنتظر دورها لتلقّي العلاج الكيميائي، ورحت أجوب الأروقة حيث تبدأ حياة البعض وتنتهي حياة آخرين. ولعل أشدّ ما لفت انتباهي، هم الأطفال الذين نخر السرطان أجسادهم الصغيرة المرهفة، ومنهم من لا زال يعانق الحياة بابتسامته البيضاء، ومنهم من استسلم بسبب قوة الخلية السرطانية ومستويات العلاج الكيمائي.
وتقف خلف كل طفل قصة معاناة تجسّد معنى الصبر والصمود، بسبب التأخر الكبير المسجل في جلسات العلاج الإشعاعي، ناهيك عن افتقار الكثير من المستشفيات في البلاد إلى بعض التخصصات الطبية في هذا المجال.
تسردُ سهام ذات الوجه الشاحب والصوت الخافت، معاناة ابنها أيمن ذي الثلاث سنوات مع مرض السرطان، قائلةً إنها "تضطرُ إلى قطع مسافة طويلة تتجاوز 400 كلم، من أجل الظفر بجلسة علاج كيميائي لأيمن المُصاب بورم في الدماغ، وهو نمط خبيث لأنه قد ينتقل إلى أجزاء أخرى من الجسم".
تقف خلف كل طفل قصة معاناة بسبب التأخر الكبير في جلسات العلاج الإشعاعي، وافتقار الكثير من المستشفيات إلى بعض التخصصات الطبية
موعد مع الألم والعذاب
"في غالبية الأحيان، تنتهي رحلتنا التي تكون في فصل الصيف تحت حرارة تفوق الـ40 درجةً مئويةً، من دون تحقيق أي هدف، ونعود أدرجنا إلى الديار خائبين بسبب تأجيل مواعيد العلاج، في وقت ينخر الألم الحقير جسد صغيري".
وتُرجع سهام أسباب التأجيل المستمر لجلسات العلاج الكيميائي، إلى الضغط الكبير الذي تعاني منه المصلحة، بسبب العدد الهائل من المرضى الذين يتوافدون عليها من مختلف المحافظات والمدن، ما يؤدي إلى وفاة كثيرين وهم في انتظار العلاج.
رحلة أخرى تقطعها وسام من جنوب الجزائر نحو شمالها، وهي رحلة مثخنة بالقنوط ومتعبة ومكلفة، لكنها ضرورية. تقول وسام وهي في العقد الثالث من عمرها لرصيف22، إنه عند اقتراب موعد علاج ابنتها الوحيدة التي تعاني من مرض نادر، تُجبَر على التنقل إلى العاصمة الجزائرية انطلاقاً من محافظة حاسي مسعود، الواقعة على بعد 900 كم جنوب شرق العاصمة الجزائر.
"إنه موعد مع الألم والعذاب والتعب. أحياناً لا أجد أين أبيت أنا وزوجي وصغيرتي لولا تدخّل المحسنين المقيمين في العاصمة، بسبب التكلفة الباهظة للفنادق، ناهيك عن طوابير الانتظار الطويلة التي تواجهها لرؤية الطبيب".
وتقول وسام إنها مضطرة إلى علاج ابنتها في مركز علاج السرطان بيار وماري كوري في مستشفى مصطفى باشا الجامعي، وترى نفسها محظوظةً لأنها ظفرت بمكان وهي تعالَج فيه، لأن العلاج في العيادات الخاصة مكلف للغاية، بالإضافة إلى تكاليف السفر.
وكلفة علاج السرطان في الجزائر كبيرة، وأغلب المرضى لا يملكونها، لأن دخل الفرد الشهري يقدَّر بنحو 256 دولاراً، أي ما يعادل 34 ألف دينار جزائري، بينما كلفة إجراء الأشعة العادية تتراوح بين تسعة آلاف و20 ألف دينار، لكن كل هذه التكاليف تمثل شيئاً قليلاً مقارنةً بكلفة العلاج الكيميائي التي تصل في القطاع الخاص إلى أكثر من تسعة آلاف دينار لكل جلسة، وعادةً تتطلب الوضعية الصحية للمريض أكثر من 20 جلسةً، ناهيك عن تكلفة التنقل بين محافظة وأخرى والتي تتجاوز ألفاً وخمسمئة دينار جزائري بالنسبة إلى المحافظات البعيدة.
ندرة في الأدوية
ولا تقتصر معاناة أطفال السرطان في الجزائر على عدم توافر مراكز العلاج الخاصة فحسب، بل تتعدى هذا لتشمل الأدوية، وهو ما أكدته رئيسة الجمعية الجزائرية لمعالجة أطفال السرطان، البروفيسورة بوترفاس نبيلة، إذ تحدثت في مؤتمر صحافي عقدته عشية ذكرى الاحتفال السنوي باليوم العالمي لسرطان الأطفال في منتصف شباط/ فبراير الفائت، عن تسجيل نقص فظيع في دواء "المثوتركسان" الذي يُستخدم بكثرة في علاج سرطان اللوكيميا وسرطانات العظام عند الأطفال، وأشارت إلى أن "بعض المرضى ميسوري الحالي يضطرون إلى اقتناء الدواء من تركيا أو فرنسا ودول أوروبية أخرى مقابل مبلغ مالي مرتفع".
تُرجع سهام أسباب التأجيل المستمر لجلسات العلاج الكيميائي، إلى الضغط الكبير الذي تعاني منه المصلحة، بسبب العدد الهائل من المرضى الذين يتوافدون عليها من مختلف المحافظات والمدن، ما يؤدي إلى وفاة كثيرين وهم في انتظار العلاج
مُعاناة أخرى رصدتها البروفيسورة نبيلة بوترفاس، تتمثل في غياب مستشفيات متخصصة لعلاج أطفال السرطان في الجزائر، ما يمثّل عائقاً كبيراً لآلاف العائلات، والمصالح المتوفرة حالياً تبقى غير كافية وهي متمركزة في المدن الكبرى والساحلية، بالإضافة إلى تسجيل نقص كبير في الأطباء المتخصصين في علاج سرطان الأطفال، وهنا قد يرفض أطباء سرطان الكبار التكفّل بالأطفال، بسبب نقص الخبرة في طرق علاج هذه الفئة.
وبسبب تفاقم الندرة، كشفت السلطات الجزائرية قبل نحو ثلاثة أسابيع، عن اقتناء كميات كبيرة من الأدوية الموجهة لعلاج السرطان لدى الأطفال، بهدف تغطية كامل احتياجات البلاد لمدة عام كامل، إذ قالت مديرة الصيدلة في وزارة الصحة، سمية يحاوي، إن الصيدلية اشترت 60 ألف وحدة من دواء السرطان "ميثوتريكسات" للأطفال، بالإضافة إلى 180 ألف جرعة من مضادات السرطان، ومن المرتقب أن يتم توريد كمية مماثلة خلال الشهر الحالي، ما يسدّ احتياجات المرضى من هذا النوع من الأدوية لمدة عام كامل.
نقص في الأطباء المتخصصين
هذا الواقع المؤلم نقله نواب في البرلمان الجزائري إلى وزير الصحة في الجزائر، عبد الرحمن بن بوزيد، في طلب عاجل، يحوز رصيف22، على نسخة منه، واختاروا محافظة الجلفة التي تبعد عن الجزائر العاصمة بنحو 300 كلم، كعيّنة من المدن التي يعاني فيها المصابين بالسرطان من مشكلات ومتاعب عديدة.
الكثير من المشكلات تحاصر القطاع الصحي في الجزائر، من بينها عدم توفر المستلزمات والأدوية.
ويصف نواب المجلس الشعبي الوطني، وهو الغرفة الأولى للبرلمان الجزائري، الواقع الذي يتخبط فيه مرضى السرطان بـ"المزري"، لعدم توفر الحد الأدنى من التغطية الصحية، بسبب عدم توفر الموارد البشرية كأحد أهم العوامل الطاغية في استمرارية معاناة هذه الفئة.
وأثار النواب مسألة تقلص عدد الأطباء المختصين في علاج الأورام السرطانية على مستوى المستشفى المختلط، والذي كان يستقطب منذ بداية افتتاحه وإلى غاية سنة 2020، ثلاثة أطباء متخصصين في علاج الأورام السرطانية، كانوا يتكفلون بمتابعة أكثر من 1،500 مريض بمعدل 400 مريض جديد كل سنة تقريباً، غير أنه لم يتبقَّ سوى طبيب واحد بعد مغادرة طبيبين البلاد.
ويقول النواب إن هذه الوضعية المؤسفة ترتب عنها حالياً وقف تام لكل المواعيد لاستقبال مرضى السرطان الجدد في مصلحة الأورام في المستشفى المختلط.
ورصد النواب وجوداً شكلياً لوحدة معالجة الأمراض السرطانية، بسبب الانعدام التام لكل التجهيزات والمعدات الطبية الخاصة بتشخيص حالة المرضى، وهو ما يتنافى مع مبدأ استمرارية المرفق العام وديمومته، ويتعارض أيضاً مع تعليمات الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وتوجهاته المتكررة في هذا السياق في أكثر من مناسبة، لوضع المصلحة العامة أساساً للنشاط الإداري والمهني وتفادي ما من شأنه عرقلة السير الحسن للمرافق الطبية ونشاطها الحيوي.
يصف نواب المجلس الشعبي الوطني، وهو الغرفة الأولى للبرلمان الجزائري، الواقع الذي يتخبط فيه مرضى السرطان بـ"المزري"، لعدم توفر الحد الأدنى من التغطية الصحية، بسبب عدم توفر الموارد البشرية كأحد أهم العوامل الطاغية في استمرارية معاناة هذه الفئة
فمحافظة الجلفة مثلاً، تسجل ما يقارب 600 مريض جديد بالسرطان سنوياً، يتنقلون دورياً بين المصحات العلاجية خارج الولاية، ولا يمكن للمرضى انتظار تجسيد مستشفى علاج مرضى السرطان الذي استفادت منه الولاية في إطار البرنامج الحكومي.
"الكثير من المشكلات تحاصر القطاع الصحي في الجزائر، من بينها عدم توفر المستلزمات والأدوية"، يقول رئيس النقابة الجزائرية لممارسي الصحة العمومية، الياس مرابط لرصيف22.
ويشير إلى أن المنظومة الصحية في البلاد عاشت الكثير من الأزمات في السنوات الأخيرة بسبب الافتقار إلى المورد البشري وانعدام التوازن بين القطاعين الحكومي والخاص.
ويعتقد مرابط أن الوزارة الوصية في البلاد مطالبة اليوم باستغلال المورد البشري وتأهيله، وحتى تحفيزه مادياً، بهدف توفير مسار مشجع وملائم للعمل، ومن شأن هذه التحفيزات وقف نزيف الأطباء الجزائريين، سواء نحو القطاع الخاص أو الخارج.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...