على بعد أمتار من مستشفى صالح عزيز لمعالجة السرطان في العاصمة تونس، تفتح "الدار الخضراء" أبوابها يومياً لاستقبال مريضات السرطان القادمات من عدة محافظات في البلاد للمبيت فيها.
و"الدار الخضراء" هو مقر خصصته جمعية مرضى السرطان لإيواء مريضات السرطان والأطفال، فتحوَّل من مبيت بسيط إلى مكان لبعث الأمل، كما تحوّل "الخوف من مرض السرطان إلى فرصة للتمسك بالحياة".
تقول روضة زروق، رئيسة جمعية مرضى السرطان التي تأسست في 2011، لرصيف22: "في الدار الخضراء لا توجد دموع الحزن، بل دموع الفرح، نحارب المرض كعائلة، ونهزمه معاً، اخترت أن يكون مقر الدار بجانب المستشفى كي يصل إليه المرضى بسرعة".
وتضيف زروق، وهي من اللواتي انتصرن على المرض الخبيث: "كرَّست حياتي لمساعدة مرضى السرطان، وفتحت "الدار الخضراء" لإيواء المريضات ومساعدتهن، وعوض أن يكون أكتوبر/ تشرين الأول وردياً، أردنا أن تكون كل أشهر السنة وردية".
فور دخولك باب "الدار" تجد مجموعة من النسوة يتجاذبن أطراف الحديث، ويضحكن في قاعة الجلوس، لا يعرفن بعضهن بعضاً من قبل، لكن جمعتهن الدار الخضراء، ليبدأن معاً رحلة العلاج من المرض الخبيث.
"طردتني زوجة ابني"
قبل سنتين، كانت الخالة مبروكة (80 عامًا) تعيش حياة هادئة في منزلها الريفي المتواضع، قبل أن تنقلب حياتها رأساً على عقب بعد اكتشاف إصابتها بسرطان الثدي. تقول لرصيف22: "بعد أن بلغت من الكِبرِ عتِيّاً اقتحم حياتي زائر ثقيل لم أقدر على مواجهته، بدأت رحلتي مع العلاج الكيميائي، ولم يقدر ابني على توفير مصاريف علاجي، ففقدت طمأنينتي".
وتتابع: "اشتدت الأزمة مع مرور الأيام فطردتني زوجة ابني من البيت، وقالت إنها لم تعد تريد رؤيتي في منزلها، فنصحني طبيبي باللجوء إلى جمعية مرضى السرطان، فوجدت نفسي وسط عائلة جديدة، بعد أن كنت مهددة بالبقاء في الشارع".
تجول الخالة مبروكة بنظرها في بهو الدار، التي طغى على زينتها اللون الأخضر، وتواصل حديثها: "أقضي وقتي في ترتيل القرآن، وأعلم بناتي في الدار الخضراء طبخ الأكلات القديمة، وأروي لهن القصص والخرافات ليلاً، أصبحت لديّ عائلة تشجعني لمحاربة المرض الخبيث والانتصار عليه".
"أقاتل المرض وحيدة"
ولأن المرض الخبيث لا يفرق بين كبير وصغير، فقد كان في الدار طفل يبلغ من العمر تسع سنوات يقاوم بجسده الصغير سرطان الدماغ، ويخضع لجلسات العلاج بالأشعة في معهد صالح عزيز بالعاصمة، وهو المستشفى الوحيد في هذا الاختصاص. تقول والدته شادية، من أصيلة منطقة قعفور من محافظة سليانة: "تغيرت حياتنا بعد أن اكتشفنا مرض ابننا، ولأننا عائلة فقيرة لا نملك ثمن العلاج، ولا يقدر زوجي على توفير مصاريف تنقلنا أنا وابني، لجأت إلى الدار الخضراءـ فعاد الأمل إلى حياتنا".
وتتابع: "في الدار الخضراء تم تخصيص أستاذ ليعلم ابني اللغة الفرنسية، ربما لو لم أجد الدار لكنت الآن نائمة على الرصيف أمام مستشفى صالح عزيز أو ربما كنت توقفت عن معالجة ابني".
"أصبح لدي عائلة، أحكي للبنات (المصابات بالسرطان) القصص الخرافية ليلاً، ونهاراً أعلمهنّ فنون الطبخ" تحكي الخالة مبروكة، بعد أن طردتها زوجة ابنها من المنزل لإصابتها بالسرطان
وتواصل حديثها، وهي تفتح كيساً به هدايا من الجمعية: "بعد صدمة مرض ابني، لم أجد أحداً يساندني، لكني الآن وجدت من يخفف عني ألم المرض، نأكل ونشرب ونلعب رياضة ونتعلم صناعات يدوية، ورغم ألم المرض نشعر بالسعادة".
على مقربة من شادية، تجلس سامية بالرجب، خمسينية أرملة، لم تفارق الابتسامة شفتيها، رغم أنها تقاتل منذ سنوات لهزيمة سرطان الرحم. تقول لرصيف22 عن تجربتها مع المرض: "قبل أن أتعرف على الدار الخضراء، كنت تائهة أقاتل المرض الخبيث وحيدة، لكن اليوم أصبحت لدي عائلة ثانية، فحتى عند عودتي إلى مسقط رأسي توفر لي الجمعية مصاريف التنقل والأكل والملبس".
"أنام في الليل على فراش وثير، أمارس الرياضة، وأتعلم صناعات يدوية ".
وتضيف: "أنام في الليل على فراش وثير، أمارس الرياضة، وأتعلم صناعات يدوية مثل صناعة الحلي والتصوير والعزف. رغم أنني فقيرة تمكنت من الحصول على العلاج في ظروف ملائمة، ووجدت مكاناً أنام فيه، ولولا هذه الدار لكنت في الشارع".
وتتابع: "أحصل على مصروف شهري قيمته 180 ديناراً "حوالي 67 دولاراً"، لا أقدر على شراء الأدوية الغالية، ودفع ثمن العلاج. ساعدتني جمعية مرضى السرطان كثيراً، وبفضلها أنا حية الآن، إنها أملنا في التمسك بالحياة، وتساعدنا على خوض معركة البقاء بكل قوة".
"مريضات السرطان عائلة كبيرة"
تُدرك روضة زروق، رئيسة جمعية مرضى السرطان، حجم المعاناة التي تتعرض لها مريضات السرطان في تونس، خصوصاً اللاتي ينتمين لعائلات فقيرة، ويعجزن عن توفير ثمن الأدوية الباهظة الثمن. تقول لرصيف22: "تحول مبيت الدار الخضراء من مبيت عادي إلى منزل عائلي دافئ يستقبل النساء والأطفال من كل محافظات تونس، ويحتوي على 26 سريراً، ومطبخ وقاعة معيشة وورشة لتعلم الصناعات اليدوية، أصبح وجهة عشرات النساء والأطفال في السنوات الأخيرة".
"لم يقدر ابني على توفير مصاريف علاجي، ففقدت طمأنينتي"
وتضيف: "منذ فتح الدار استقبلنا 72.3 في المائة من النساء، 56.1 منهن مصابات بسرطان الثدي، و17.72 في المائة من الأطفال، كل من عاش في هذه الدار أصبح جزءاً من عائلتنا الكبيرة، نبكي معاً ونفرح معاً، نحن نوفر لمريضاتنا الفقيرات الأدوية، والحق في العلاج، ونأويهم في المبيت إذا لم يجدوا سقفاً يؤويهن".
وعن السبب الذي جعلهن يستقبلن النساء فقط دون الرجال، أوضحت: "مريضات السرطان يواجهن صعوبات في السكن أكثر من الرجال، ويكن عادة عرضة للتحرش، ومحاولات الاغتصاب في ظل غياب الدولة التي لا تهتم بهن".
"تحويل المرض لفرصة"
تقول زروق إنها قررت أن يتحول مرض السرطان من عائق إلى فرصة للاستفادة والتعلم، "إذ تمكنت كل النساء اللاتي يلجأن للسكن في الدار من تعلم صناعات يدوية مختلفة، مثل صناعة الحلويات، والنقش على الخزف، والخياطة، وصناعة الحلي والمصوغ".
وتضيف: "هناك نساء تم التخلي عنهن من قبل عائلاتهن، وهناك من طلقها زوجها، وبقيت دون دخل مادي وسند، لذلك نحن نتكفل بتعليمهن الصناعات اليدوية ثم بعد تعافيهن من المرض، نقدم لهن الدعم المادي لفتح مشاريع خاصة بهن".
إلى جانب ذلك، تقوم الجمعية بإنشاء معارض بين الفترة والأخرى لبيع ما تصنعه مريضات السرطان، وتذهب عائدات المبيعات لتأثيث الدار الخضراء ولشراء الأدوية للمرضى.
ارتفاع إصابات سرطان الثدي
تسجل تونس سنوياً ارتفاعاً ملحوظاً في عدد الإصابات بسرطان الثدي، ففي نهاية سنة 2020، حذر خالد الرحال رئيس قسم الجراحة بمعهد صالح عزيز، من ارتفاع المعدل السنوي للإصابات بسرطان الثدي في تونس من 3000 حالة حالياً إلى نحو 4000 عام 2024.
وكشف أن "عدد الإصابات الجديدة بسرطان الثدي يقدر بـ 3000 حالة سنوياً، وأن هذا المعدل مرجح للارتفاع بدءاً من سنة 2024 إلى نحو 3800 حالة سنوياً، مؤكداً أن هذا النوع من السرطان هو الأكثر انتشاراً بين النساء في تونس بنسبة 30 بالمائة مقارنة بأنواع الأمراض السرطانية الأخرى".
ودعا الطبيب التونسي إلى التشخيص المبكر، واتباع النصائح والإرشادات الطبية مثل: "مقاومة السمنة، والابتعاد عن التدخين، والكحول، واعتماد تغذية سليمة"، بحسب بيان نقلته مواقع وصحف تونسية.
في النهاية، مريضات السرطان جميلات وبرغم قبح معاملة الناس لهن، وقبح المرض الخبيث الذي فتك بجزء من جمالهن الخارجي، ودمر كثيراً من أحلامهن، يبقى السند النفسي الشعلة، التي تنير أرواحهن المتعبة من ثقل الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما وجدنه في "الدار الخضراء".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...