"لم اختارني هذا المرض ليحطم آمالي، كيف سأواجه المجتمع، طفلي لمن أتركه، عملي، ماذا عن حياتي الزوجية؟"
أسئلةٌ لم تغب عن ذهن سارة جميل (35 عاماً)، مصمِّمة أزياء، ناجية من سرطان الثدي، وكانت قد أصيبت به قبل أربعة أعوام، عاشتها في رحلة علاجٍ قاسية، تنقلت فيها بين مشافي داخل غزة وخارجها، خضعت لـ45 جلسة إشعاع كيماوي، وأجرت أكثر من عمليتين جراحيتين، استأصلت فيهما ثديها الأيمن كاملاً.
تقول سارة لرصيف22: "كنت أخطط أنا وزوجي في بداية عام 2017، لإنجاب شقيقٍ لطفلي الصغير ليلعب معه، فكثيراً ما يردّد أنه يشعر بالوحدة، تحديداً عندما نذهب أنا ووالده للعمل بشكل يومي ونتركه مع جدته، لكن ما حدث عكس ذلك تماماً"
تعرّضت سارة للإصابة بسرطان الثدي، وانقلبت حياتها رأساً على عقب، تروي التغيرات التي أصابتها بعد نجاتها: "كنت مهووسة بشكلي، وأناقتي، والاهتمام بعلاقتي بزوجي بشكلٍ كبير، فلقد تزوجنا بعد قصة حبٍّ استمرت عامين، لكن السرطان أفقدني شكلي، نفسي، زوجي الذي لم يعد يعترف بوجودي معه، وهجرني طيلة فترة العلاج التي قضيتها وحيدة، فأهلي يعيشون خارج غزة، وبسبب إغلاق المعبر لم أستطيع السفر لهم".
بعد النجاة من المرض، تحمست سارة لاستعادة علاقتها مع زوجها، "سندها" كما تحب أن تصف تأثيره النفسي عليها، ولكنها صُدمت برد الفعل، تقول: لم يتقبّلوني، فهناك وصمة مازالت في أذهانهم عني، لا يشيرون إليّ سوى بـ" صاحبة هذاك المرض"، أشعر بأني نكرة، وما حطمني فشلي في استعادة حياتي الزوجية، فأنا أعيش مع زوجي شكلياً أمام الناس، وفي الحقيقة نحن منفصلان، لا يقترب مني، ولا يلمسني خوفاً من انتقال العدوى له، و كثيراً ما يقول لي أنا لا أشعر بوجود أنثى بجانبي".
"هناك فجوة كبيرة بيني وبين زوجي في مسار حياتنا الزوجية، لم أعد كالسابق، ليس لدي رغبة في ممارسة أي علاقة حميمة معه، وهذا ما يزيد حدة التوتر بيننا، أعاني من ضعف الثقة بنفسي، أتهرّب منه بالنوم مع أبنائي".
عزلة وتفكير في الانتحار
سوزان السيد، 40 عاماً، قررت أن تسلك طريق العزلة بعد نجاتها من سرطان الثدي، بعيداً عن أسرتها وزوجها، ولم تعد متقبلة شكلها، رغم أنها وجدت تشجيعاً من زوجها على خلاف ما حدث مع سارة.
وحاولت أكثر من مرة البحث عن سبيلٍ لإجراء عمليةٍ تجميلية لاستعادة جزء من شكل ثديها الذي تمَّ استئصاله جزئياً، لكن قطاع غزة يفتقر لوجود أطباء متخصِّصين في ذلك، إضافة لعدم قدرتها المالية على دفع تكاليف العملية خارج غزة.
تقول سوزان لرصيف22: "استمرت رحلة علاجي من مرض السرطان 5 سنوات، ونجوت قبل قرابة العام، دعمني زوجي ولم يتركني، وكان دائماً يحاول التخفيف عني يقول: أنت أجمل النساء في نظري حتى وإن فقدت جزءاً من ثديك".
وتحرص سارة باستمرار على إخفاء معالم "تشوه ثديها"، على حدِّ وصفها، بارتداء ملابس ضيقة، تحسباً من أن يراها زوجها أو أبناؤها.
تضيف: لم تعد حياتي النفسية كما السابق، لا على صعيد الصحة الإنجابية، أو حتى قيامي بأعباء المنزل، فغالباً ما أشعر بالتوتر والاكتئاب، وبدوتُ عصبية جداً مع أسرتي وهذا ما جعلهم ينفرون مني.
تتابع أن العلاج الإشعاعي الذي خضعت له مازالت آثاره سلبية حتى هذا الوقت رغم شفائها من المرض، وهذا ما يؤدي لتغيير الهرمونات.
وتضيف "هناك فجوة كبيرة بيني وبين زوجي في مسار حياتنا الزوجية، فأنا لم أعد كالسابق وأشعر بالنفور منه، وليس لدي رغبة في ممارسة أي علاقة حميمة معه، وهذا ما يزيد حدة التوتر بيننا، فأنا لا أزال أعاني من ضعف الثقة بنفسي، أتهرّب منه بالنوم مع أبنائي".
وتشكو الناجيات في قطاع غزة من قلّة وجود مراكز دعمٍ نفسي تهتم بتوجيههم في العلاقة الزوجية التي يعتبرونها أهم المحطات بعد النجاة من السرطان، مثل هذه القضايا تبقى داخل تابوهات مغلقة، لا يتم تداولها في النقاش بورش عمل رغم أهميتها، فلا يزال هناك صورة نمطية تحجب التحدث في هذه القضايا، فقط يقتصر الدعم النفسي على مناقشة قضايا القشور والعموميات، ونادراً ما يُشار في الحديث إلى مدى استمرارية استكمال مشوار الناجين/ات من السرطان في إطار العلاقة الزوجية.
أما على صعيد العناية التجميلية فهناك محاولات خجولة من قبل المراكز التي تعني بصحة المرأة الناجية من السرطان، فقد عمل مركز "العون والأمل" لرعاية مريضات السرطان في غزة كجزءٍ من الدعم النفسي للنساء اللواتي تعرّضن لبتر أثدائهن، من خلال صناعة "أثداء" صناعية من القماش محشوة بالقطن، كتعويضهن عن القيام بعملية ترميم جراحية لا يمكن إجراؤها في القطاع، أما احتمالية حدوثها في الخارج فتبدو معقدة بالنسبة لهن.
بحسب إحصاءات نشرها بحث للدكتور علاء محمد مطر ، عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة الإسراء في غزة، بمجلة "جيل حقوق الإنسان" فإن عدد مرضى السرطان في قطاع غزة بلغ (7069) مريضاً في الفترة بين 2009-2014، وبلغن المريضات في ذات الفترة (1502) حالة، أي 54.5%.
ولفتت الدراسة إلى أن سرطان الثدي هو الأكثر انتشاراً بنسبة بلغت 18%، وأنَّ 38% من النساء المصابات بالسرطان في قطاع غزة طلقهن أزواجهن بعد اكتشاف إصابتهن.
"زوجتي تشجعني وتدعمني"
لا يختلف حال الرجل الناجي كثيراً عن المرأة الناجية من السرطان في قطاع غزة، ولكن يبدو أن عبء المرأة أكبر، فالنظرة المجتمعية للناجية تختلف، كون المجتمع في غزة يضع المرأة في قالب دورها الإنجابي، والتربية، الرضاعة، وتحمّل القيام بالأعباء المنزلية.
ناصر أحمد 45 عاماً، أحد الناجين من سرطان البروستاتا، استمرّت رحلة علاجه أربع سنوات، كانت زوجته الداعم الأول والشريكة له، ولم تقابله سوى بالدعم والاهتمام طيلة فترة العلاج، وحتى بعده.
يحكي ناصر عن تجربته كناجٍ من السرطان قائلاً: "شكّلت إصابتي بالسرطان أزمة نفسية حادة، حتى أني كنت أبكي عند خضوعي لجلسات الإشعاع الكيماوي، لكن زوجتي كانت تدعمني وتشجعني كيلا أشعر بالإحباط، وتقنعني بأن أهزم السرطان فلا يقوى علي، وهذا ما حدث بالفعل فكانت نجاتي من السرطان بمثابة الحلم الذي تحقق".
"نجوت من السرطان بجسدي، وحالتي النفسية سيئة جدا"
ويكمل ناصر: "لا أنكر أني نجوت من السرطان من ناحيةٍ جسدية لكن حالتي النفسية سيئة جداً، ليس هيناً على الرجل أن يشعر أن شيئاً ما قد يُنقص رجولته، رغم أنه يقابل بالاهتمام من قبل أسرته، لكن تبقى هناك خفايا لا يستطيع معالجتها ولا حتى التطرّق لها أو الفضفضة، تحديداً في المجتمع الغزّي الذي ينظر لمريض سرطان البروستاتا بوصفه عقيماً، وهذا أصعب ما أتعرّض له، ويؤثر على علاقتي بزوجتي".
وحسبما ذكر ناصر أنه منذ نجاته من المرض قبل عامين توترت علاقته بزوجته، فكثيراً ما تحدث بينهما خلافات على أبسط الأمور، فهو يفرّغ الضغوطات النفسية التي يتعرض لها من المجتمع بزوجته، مضيفاً أنه غير قادر على ممارسة العلاقة الحميمة رغم محاولته تناول منشطات جنسية، لكن لا فائدة، وهذا ما جعله يعرض الانفصال على زوجته لأنه يرفض أن يرى في عينيها نظرة الشفقة.
منذ نجاة ناصر من المرض قبل عامين توترت علاقته بزوجته، فكثيراً ما تحدث بينهما خلافات على أبسط الأمور، يفرّغ الضغوطات النفسية التي يتعرض لها من المجتمع بزوجته
وحصل ناصر على جلسات رعايةٍ نفسية، لكنه لم يتجرأ على مناقشة ما يعانيه أمام المشاركين، فهو يكتفي بأن يصارع ألمه داخلياً، ويرى أن معالجة قضاياه الزوجية خط أحمر ولا يتقبل مناقشتها خارج غرفة نومه، فهي تشكل هاجساً كبيراً بالنسبة له.
عنف مجتمعي على المرأة "الناجية"
يقول زياد الخزندار، استشاري الباطنية والأورام ومدير بمجمع الشفاء الطبي، في تصريحات لرصيف22 أن السرطان مرض غير معدٍ، وليس بكتيري، بل انقسام عشوائي كبير في خلايا تنقسم بدون رقابة، ولديها القدرة على اختراق الأنسجة وتدمير أنسجة سليمة في الجسم، وتكوين أورام أو كتل قادرة على الانتشار.
ونبّه إلى أن الاكتشاف المبكر للسرطان يساهم بشكلٍ كبير في علاج المريض واستئصال الورم، وهناك عدة نماذج ناجية من السرطان خضعت للعلاج الكيماوي والآن هي سليمة 100 %، وعن طرق العلاج ذكر أن هناك عدة طرق تتمثل بالجراحة، المعالجة الكيميائية، المعالجة الاشعاعية، زرع النخاع الشوكي والخلايا الجذعية، العلاج البيولوجي، الهرموني، العقاقير الطبية، وإذا قام المريض بالاستمرار في العلاج فان إمكانية شفائه تكون 90%، ولكن يجب أن يبقى متابعاً حالته الصحية كل ستة شهور عند الطبيب المختص.
وأشار إلى أن المريض يعود لممارسة حياته بشكلٍ طبيعي، لكن من خلال اتباع إرشاداتٍ صحيةٍ معينة، وذكر على صعيد علاقاته الزوجية في حال كان أحد المرضى متزوجاً، فإنه يستطيع القيام بالعلاقة الجنسية بعد ستة شهور من الشفاء.
"بعض مرضى السرطان يرفضون الدعم النفسي، رغم أنه يمكن أن يمارسوا الحميمية ولكن بلا فرص للإنجاب"
وتابع يبقى هناك هاجس لدي الناجين تحديداً في موضوع العلاقة بين الأزواج، وهذا أخطر ما قد يواجه الناجي من المرض، ومدى تقبّل الطرف الثاني له رغم شفائه، وتحديداً مرضى سرطان الثدي، وسرطان البروستاتا، وسرطان الرحم، فهذا يحتاج منهم لتحدٍ كبير كي يستمرّوا بعلاقتهم الزوجية ضمن إطار معين، تحديداً أن الرجل والمرأة في هذه الحالة يفقدون قدرتهم على الإنجاب، وهذا ما يضعهم في خوفٍ وتوترٍ كبيرين، وأحياناً يقودهم للاكتئاب، فالبعض لا يتقبّل هذا الوضع، ويرفضون الدعم النفسي، رغم أنه يسمح لهم ممارسة العلاقة الحميمة لكن لا فرص للإنجاب.
"مرضى السرطان في قطاع غزة يتأثرون بالوضع الاقتصادي والاجتماعي القاسي الذي يعيشونه"
وذكر أن الكثير من علاجات السرطان تضرّ ببعض النظم التي يحتاجها الأشخاص لينعموا بحياة زوجية، فهناك علاجات تضرّ بمستويات الهرمونات، وهناك جراحات تتم في منطقة الحوض، تتسبب في إزالة أجزاء من الجهاز التناسلي، أو تضر بالأعصاب والأوعية الدموية المرتبطة بالاستجابة الجنسية. كما أن الإشعاع الذي يتعرّض له بعض المرضى في منطقة الحوض يؤدي إلى خفض تدفّق الدم إلى منطقة الأعضاء التناسلية لدى الرجال والسيدات.
وقالت غادة بن سعيد، أخصائية اجتماعية ونفسية، في تصريحات لرصيف22 إنَّ مرضى السرطان في قطاع غزة يتأثرون بالوضع الاقتصادي والاجتماعي القاسي الذي يعيشونه في مدينتهم، وهذا ما قد يؤثر على نفسيتهم وعلاقتهم بالمحيطين.
وأشارت إلى أنه مازالت هناك ثقافة مجتمعية سلبية راسخة لدى المواطن العربي والفلسطيني الغزاوي عن مرض السرطان رغم انتشاره بكثرة، هذا ما يضع مريض السرطان في تحدٍ كبير لمواجهة هذا المفهوم أولاً، بجانب العلاج الكيميائي والنفسي، فكلاهما يسيران في خطوط متوازية.
وبيّنت سعيد أن المرأة والرجل يحتاجان لنفس الدعم والعلاج بعد نجاتهم من السرطان، رغم أن هناك عنفاً مجتمعياً قد تتعرّض له المرأة بشكل أكثر من الرجل تحت مسمّى "الرجل ما بعيبه شي" وهذا ما يدمّر نفسية المرأة، كأن يضعوا اللوم عليها فيما تتعرّض له.
وقد تشكّل تلك العوامل آثاراً نفسية على الناجي من السرطان، تحذّر غادة، ما قد يعيد انتشار السرطان في جسده مرة أخرى، ونبّهت على أن الاهتمام واستمرار العلاقة الزوجية دافع قوة لاستمرار النجاة، فهي تُشعر الأطراف بالأمان والثقة، وقد تسبب لهم السعادة أو التعاسة.
إن كانت النجاة من السرطان يشكّل دافعا كبيراً للمرضى، ولكن شكل الحياة بعدها، والعنف النفسي الذي يتم ممارسته سواء على الذات، أو من المجتمع والآخرين يعتبر تحدياً كبيراً، مما يجعل من وجود مراكز نفسية مخصصة لاستعادة ثقة هؤلاء في أنفسهم أمراً ملحّاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 19 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت