شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
طفل الرواق الأزرق: صديقي الصغير الذي قتله السرطان 3

طفل الرواق الأزرق: صديقي الصغير الذي قتله السرطان 3

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 10 أغسطس 201807:46 ص
ملاحظة قبل القراءة: أسماء الشخصيات هي أسماء رمزية وليست أسماء الأشخاص الحقيقية. أحتفظ بالأسماء الحقيقية لأن أخلاق العمل الصحفي تمنع نشر معلومات شخصية عن الملفات الطبية. يشير القانون إلى أن نشر التفاصيل يتم بعد مئة عام من تاريخ ميلاد الشخص. 3 أحسست بالدوار فجأة.. فغلبني جسمي وعدت إلى الكرسي كي لا أسقط أرضا. لقد كان تصريحها قاسيا في نظري. لم أستطع التفكير في شيء سوى في أن تلك الكتلة الصغيرة المشحونة بالطاقة ستتحول إلى جثة هامدة بلا حراك. أغلقت مارغريتا الباب وعادت بهدوء إلى مكانها لتعيد الجلسة ذاتها وتنظر إلي وتقول "متحزنش، ومتستغربش، أحنا ستانسنا ونعرف شعور بشر جديد كيفاش يحس.. صعيبة صحيح أما هذيكة الحقيقة". أرادت صرف انتباهي عن تلك الحالة، فشرعت تتحدث عن تفاصيل تتعلق بمرض السرطان، وكيف أن الأطفال لهم حظ أوفر من البالغين في الشفاء لأن أجسامهم لا تزال بصدد النمو. وتشير مارغريتا إلى أن أغلب الحالات المصابة بالسرطان هي حالات سرطان الكليتين والـ neuroblastome، وحالات أخرى من اللوكيميا أو سرطان الدم. وقالت لي الطبيبة إن العلاجات في المستويات الأولى ممكن في المستشفى، لكن الأمر يتطور نحو التعقيد والصعوبة كلما تأخر تناول العلاج أو اكتشاف المرض، وتقول "لدينا ثلاث مستويات من العلاج الكيميائي مثلا. مستوى أول نراقب به استجابة الطفل، ومستوى ثان ربما يحافظ على ثبات السرطان وعدم تطوره، وأما المستوى الثالث من العلاج فهو موجه لمحاربة الخلية السرطانية والقضاء عليها".
لم أتذوق حسرة كتلك التي آلمتني يوم وقفت أمام طيف صديقي الصغير الذي مات بالسرطان.
"متحزنش، ومتستغربش، أحنا ستانسنا ونعرف شعور بشر جديد كيفاش يحس.. صعيبة صحيح أما هذيكة الحقيقة"
أطالت الطبيبة شرح المرض وطرق المداواة، وعندما سألتها عن تكاليف العلاج أجابت "مكلف جدا. هناك إشكال في توفير بعض الأدوية رغم التطورات التي شهدها الطب في تونس، المستوى الثالث من العلاج الكيميائي مكلف جدا.. بعض العائلات لا تملك ثمن الدواء لأطفالها". سألتها إن كان ذلك يؤثر في حياة الأطفال، فأجابت بحزن عميق "نعم، ضعف الإمكانات يؤثر على حياة هذه الكائنات البريئة الصغيرة". أحسست بطاقة سلبية تجتاح جسمي، ولم أعد قادرا على السيطرة على مجريات اللقاء. أنا لا أخفي هذا السر حتى عندما أكتب للناس. أعترف أنني جالست سياسيين كبارا والعديد من الكتاب والمفكرين، لكن مجالستي ـ الصحفية ـ للطبيبة مارغريتا كانت صعبة جدا ولم أتعرض إلى فشل كهذا في السابق. بدأت حينها أفكر في إنهاء اللقاء، وتدرجت بها نحو الوداع على أمل أن نلتقي في المرة القادمة، وأعتقد أنها تفهمت الأمر فسايرتني بذكاء خفّف من عبء الهروب من هذا الرواق البارد المخيف.. فتحتُ باب مكتبها مغادرا، ليعترضني السيف البتار وهو يتكئ على خشب الباب أمام غرفته واضعا قرصا بلاستيكيا أحمرا في فاهه، ناظرا إليّ بتأسف يوحي بوداعي، وكان الشعر قد غادر رأسه وحاجبيه تاركا عينين غائرتين شاحبتين. تقدم نحوي وقال: "كهو؟".. أجبته أنني سأعود بعد يومين على الأقصى، فابتسم وقال: "إي إيجا".. وكانت آخر صورة له معي في ذاكرتي هي تلك الأسنان البيضاء الصغيرة التي تملأ ثغره الشاحب. نزلت على ركبتيّ ونظرت في عينيه وقلت له "متحب نجيبلك شي؟".. ابتسم بخجل وقال "منقالة (ساعة يد)". وضعت يدي على كتفيه وقلت له "تحبها زرقة وإلا حمرا؟" فأجابني بأنه يريد الزرقاء لأن الأحمر لون للبنات.. قبلت جبينه ووعدته أن أعود إليه بساعة زرقاء جميلة من النوع الممتاز. غادرت المستشفى في ذلك اليوم، كان يوم السبت، تاركا عالما صغيرا مظلما في الداخل لا يعرفه أحد.. حتى أولياء الأطفال لا يعرفونه. عالم له قوانينه وطقوسه ومنظومته السلوكية، شكله طوليّ كشكل الرواق الذي كنت فيه، مناخه بارد ولونه باهت ورائحته تشبه أحيانا تغميس عقب سيجارة في الكحول الطبية.. تماما كرائحة الموت أو الجنون. عدت إلى منزلي منهكا من الداخل، وقد أخذني التفكير في ذلك الصبي الصغير. مرّ الوقت وخرجت مساء للتسكع وجاء يوم الأحد ثم يوم الإثنين فالثلاثاء... ومرت أيام الأسبوع بكاملها وقد اندمجت مع إيقاع الحياة دون أن أنتبه لموعدي مع السيف البتار ووعدي له بأن أشتري له ساعة يد زرقاء. تذكرت موعدي معه فجأة عندما كنت أشتري بعض الليمون من السوق وقد مرّ بجانبي طفل صغير يحمل عصا يعاملها كأنها سيفه البتار، كان يركض مثل صديقي الصغير. في ذلك اليوم يكون قد مرّ على لقائي بالسيف البتار أسبوعين تقريبا. قررت حينها أن أزوره إما مساء أو في اليوم التالي.  أتممت شغلي صباحا في ساعة مبكرة نسبيا، بعدها توجهت إلى مستشفى الأطفال، وصلت وقد بدأت الشمس في تشديد إطلالتها على العالم. مسكتُ علبة مزينة كنت قد وضعت فيها الساعة الزرقاء، وأعدت ترتيب نفسي وهندامي ودخلت المستشفى متوجها مباشرة إلى الطابق الثالث.. كنت سعيدا ومتحمسا وضاحكا. كالعادة وصلت إلى الطابق الثالث، استدرت يسارا، ثلاث خطوات، ثم إلى اليمين، تجاوزت قسم الرضع المليء بالبكاء، دفعت الباب بساقي اليمنى لألج قسم السرطان. كان الجو هادئا على غير المتوقع. ومذ لاحظت الهدوء زاد توتري، نظرت في كل اتجاه وبحثت في كل غرفة، عدت أدراجي إلى مكتب الطبيبة وقد كان مغلقا. طرقت الباب بقوة دون استجابة، أعدت البحث في غرف الأطفال عن السيف البتار، وكنت أجيل نظري في أركان كل الغرف. استدرت فجأة لأجد "توليب" تقف ورائي وهي تمسك بدميتها الوردية العارية، نزلت على ركبتي ونظرت في عينها وسألتها "وينو؟".. نظرت إليّ بأعينها الغائرة وقد بدأ شعرها بالسقوط، بقيت برهة تنظر في عيناي ثم استلّت كتفيها من بين يداي وغادرت إلى أمها تركض. مرّ رئيس الممرضين بجانبي في ذلك الحين، كان رجلا هادئا وأنيقا ومتوسط الطول. سألني إن كنت أبحث عن خدمة فأجبته بأنني أبحث عن صديقي الصغير "السيف البتار". سألني إن كنت من أقربائه فأجبته بأنني صديقه. نظر إلي كأنه ينظر إلى حريق وقال "الدوام لله".. ثم أضاف "توفى هوني، في البيت هذي"، وأشار إلى تلك الغرفة الصغيرة المجهزة بآلات ربما خصصها الأطباء للتخفيف من آلام الاحتضار. داخل غرفة صفراء فيها ضوء أبيض وثلاثة أشخاص يقفون أمام جسم يتطور نحو النهاية.. كان ينظر بوضوح إلى الأشياء من حوله، تلك الأشياء هي نصيبه الوحيد من هذا العالم. كانت الحقيقة تجثو أمامه بجلاء لكنه غير قادر على الهمس بها إلى أي أحد. استفرد بها وغادر كأنه عريس، تاركا عطرا ما في أرجاء الغرفة يشبه رائحة الملابس النظيفة. لقد استسلم السيف البتار لوحل الآلهة وانقطع عن التخبط والدوران، فجفّ المستنقع ومات اختناقا... ترجوته أن يقول أي شيء عن الحقيقة التي يراها فرفض. أخذ عروسه واختفى في ممرّ أزرق باهت بلون شراشف سرير المستشفى. لم أتذوق حسرة كتلك التي آلمتني يوم وقفت أمام طيف صديقي الصغير الذي مات بالسرطان.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image