"كل ساعتَين تموت أمٌ وستة أطفال في اليمن، نتيجة تدهور الخدمات الصحية، بفعل الصراع المستمر منذ سبعة أعوام"؛ هذا ما ذكرته دراسة حديثة للبنك الدولي، مشيرةً أيضاً إلى أن قطاع الصحة في اليمن يعاني من عواقب الصراع المسلح، والتدهور الاقتصادي، والانهيار المؤسسي، وإلى أن توّفر مرافق البنية التحتية الصحية العاملة، مثل المستشفيات، ومراكز الرعاية الأولية، بات أمراً صعب المنال.
بالإضافة إلى ذلك كله، يعاني 2.3 مليون طفل يمني دون سن الخامسة، من سوء التغذية الحاد، وفقاً للأمم المتحدة، من بينهم 400 ألف طفل سيعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم، وهم معرضون لخطر الموت المحتمل، إذا لم يتلقّوا العلاج العاجل.
هذه وغيرها من الحقائق، يلخّصها ويعرضها فيلم "عنبر الجوع" (Hunger Ward)، الذي ترشّح لجائزة الأوسكار للعام 2021، عن قائمة الأفلام الوثائقية القصيرة، ولا زالت أصداؤه تتفاعل حتى الآن، إذ تستمر عروضه في العديد من المهرجانات السينمائية والفنية، في سعي إلى الاستمرار في لفت النظر إلى مأساة اليمن المستمرة منذ سنوات.
يأخذ الفيلم المشاهدين إلى داخل عيادتَين مختصتَين بعلاج الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحاد، إحداهما في جنوب اليمن الذي تسيطر عليه الحكومة المعترف بها دولياً، والأخرى في الشمال الذي يسيطر عليه الحوثيون، ويسرد معاناة الأطفال مع الجوع، ويعرض قلة حيلة الأطباء، نتيجة ضعف الإمكانات، وهم يشاهدون يومياً الموت وهو يخطف آلاف الأطفال الجائعين.
بذلك، يوثّق الفيلم تأثير الحرب والمجاعة على الأطفال وأُسرهم، وعلى العاملين في مجال الرعاية الصحية، عبر عاملتَين في مجال الرعاية الصحية، هما الدكتورة عايدة الصديق، والممرضة مكية مهدي، في أثناء محاولتهما إنقاذ حياة الأطفال، ومكافحتهما لمنع انتشار المجاعة، في مجتمع انهارت أساساته. ويتابع الفيلم أيضاً محاولة رعاية طفلتَين مصابتَين بسوء التغذية: عبير البالغة من العمر ست سنوات، وتزن نحو 12 رطلاً، وأميمة البالغة من العمر عشر سنوات، وتزن نحو 24 رطلاً.
ومن دون الابتعاد عن المعاناة والألم، سعى مخرج الفيلم، سكاي فيتزجيرالد، إلى إضفاء قدر من الإبداع البصري في تصوير مشاهد الفيلم، إذ تضمّن صوراً معبّرةً لكلب مقيّد بالسلاسل ينبح وسط أنقاض مدمرة، ومشاهد جوية لمخيمات النازحين التي تبدو من الأعلى، مثل علب كرتونية مهترئة لا تقي من حرٍّ ولا من برد، ولعيادة للمصابين بسوء التغذية التي تبدو كعنبر يحوي عشرات الأطفال الجائعين.
يشير المخرج إلى أنه حاول التركيز على جذب الجمهور، حتى يستمر في التفاعل، ولا يبتعد، من خلال مشاهد ليست مباشرة تماماً، لكنها عميقة وبليغة الدلالة، تُبقي الناس متفاعلين. "هي لحظات كنت أبحث عنها طوال الفيلم؛ كيف يمكننا التركيز على هذه التفاصيل بلغةٍ سينمائيةٍ، حتى يفهمها الناس، ليس فكرياً فحسب بعقولهم، ولكن بتعاطف يلامس قلوبهم".
يوثّق فيلم "عنبر الجوع" الذي ترشّح للأوسكار تأثير الحرب والمجاعة في اليمن على الأطفال وأُسرهم، وعلى العاملين في مجال الرعاية الصحية
"يعرض القليل من حجم معاناتنا"
في تجسيد للواقع المأساوي الذي يعيشه القطاع الصحي اليمني، تظهر الممرضة مكية مهدي في الفيلم، وهي منهكة، وخائبة. تستعرض في هاتفها الذكي صوراً لأطفال قدموا إلى عيادتها، وماتوا جوعاً جراء ضعف الإمكانات المتوفرة تحت يديها، لكنها على الرغم من ذلك، تحاول أن تُضحك مرضاها من الأطفال، فتنفخ البالونات لمنحهم قليلاً من المرح، وتحاول طفلةٌ التجاوب معها، لكن وجهها الجائع يأبى التبسّم من شدة المعاناة.
تقول مكية، التي تدير مركزاً صحياً في منطقة نائية في محافظة حجة، في شمال اليمن: "عملنا في ظل الحرب، وهذه الأوضاع الكارثية، لا نتيجة مجدية له. نحن كمن يحرث في البحر، إذ يأتي الكثير من الأطفال المصابين بسوء التغذية الحاد إلى العيادة، ونقدّم لهم ما أمكننا من رعايةٍ، ومساعدة، لكن في نهاية الأمر يعودون إلى الواقع نفسه الذي يسبّب لهم المرض".
وتضيف الممرضة في حديثها مع رصيف22: "دمّرت الحرب، والحصار المفروض على اليمن، البنى التحتية الأساسية، ومن ضمنها المنظومة الصحية التي أصبحت منهارةً تماماً، وتعمل في أوضاع شبة مستحيلة"، ونوّهت بأن الفيلم، على الرغم من التأثير الذي أحدثه، لم يعرض إلا القليل جداً من حجم المعاناة التي يعيشها اليمنيون اليوم.
يوثّق مشهدٌ آخر لحظة وفاة أحد الأطفال بين يدي الدكتورة عايدة الصديق، بينما كانت تحاول إنعاشه بشتى الوسائل، لكن جسده النحيل الضعيف يأبى التجاوب، فيموت الطفل، لتأتي والدته وتصرخ في وجه الطبيبة بأعلى صوتها: " قتلتم ابني... قتلتم ابني"، ثم تغادر الأخيرة، وملامح العجز تعلو وجهها.
عملنا في ظل الحرب، وهذه الأوضاع الكارثية، لا نتيجة مجدية له. نحن كمن يحرث في البحر، إذ يأتي الكثير من الأطفال المصابين بسوء التغذية الحاد إلى العيادة، ونقدّم لهم ما أمكننا من رعايةٍ، ومساعدة، لكن في نهاية الأمر يعودون إلى الواقع نفسه الذي يسبّب لهم المرض"
وعن هذه اللحظات، تقول الدكتورة عايدة، التي ترأس مركز علاج سوء التغذية في مستشفى الصداقة في عدن، جنوب اليمن، لرصيف22: "هي مواقف عجز تتكرر يومياً، فعائلات الأطفال تتعامل معنا كأننا خارقون، وقادرون على تحقيق المعجزات، بينما نحن، في حقيقة الأمر، لا نملك في أيدينا سوى العجز، وقلة الحيلة، نتيجة ضعف الإمكانات، والظروف السيئة. الأمراض مثل سوء التغذية الحاد، ليس لها علاج مباشر ولحظي في المستشفى، بل هو عملية تراكمية تتداخل فيها جهات عدة، وعوامل كثيرة".
وتؤكد الصديق على أن استمرار الحرب التي لا يبدو أن أحداً سينتصر فيها، هو ما يفاقم الوضع سوءاً، يوماً بعد يوم، وأكثر المتضررين من هذا الصراع هم الأطفال.
وفي تعليقها على الفيلم، تشير إلى أنه أعاد التذكير بالمأساة التي يعيشها الأطفال اليمنيون، خصوصاً المصابين بسوء التغذية، في ظل الحرب الدائرة منذ أكثر من ست سنوات، وخلق نوعاً من التعاطف معهم، بالإضافة إلى أن وصوله إلى الأوسكار، أحدث نقاشاً واسع النطاق، حول ضرورة الضغط باتجاه إنهاء الحرب.
الحروب المنسية
لا يعرف أناس كثر سوى القليل عن المعاناة التي يعيشها اليمنيون، خصوصاً الأطفال، على الرغم من تورط عدد من دولهم في الصراع الدائر هناك، بشكل أو بآخر، ومن هنا تأتي أهمية هذه الأفلام التي تركّز على القضايا المنسية، وتعيد النقاش حولها إلى الواجهة.
أعاد الفيلم التذكير بالمأساة التي يعيشها الأطفال اليمنيون، خصوصاً المصابين بسوء التغذية، وخلق نوعاً من التعاطف معهم.
مخرج الفيلم، وعلى الرغم من أنه عمل في مناطق الصراع من قبل، وشاهد ويلات الحرب عن كثب، إلا أنه لم يكن في مقدوره أن يجهّز نفسه للمشاهد المؤلمة التي شاهدها في مركزَي التغذية العلاجية.
يَذكُر أنه بعد ساعتَين فقط من بدء تصوير الفيلم، شهد موت طفل في عمر ابنه ذي العشر سنوات، من الجوع، وكان وزنه لا يتعدى العشرة كيلوغرامات، بينما ابنه يزن أكثر من 40 كيلوغراماً. وذكر أن هذه الحادثة، بالإضافة إلى مشاهد معاناة الأمهات والآباء وهم يتعرضون لانهيارات نفسية وعاطفية، بسبب فقدان أطفالهم، أثّرت فيه بشكل كبير، وجعلته يحمل على عاتقه مسؤولية إظهار هذه المعاناة للعالم.
"سعينا لصنع فيلم يلامس القلب والعقل، ويوثّق التكلفة البشرية الهائلة للصراع الدائر في البلاد، ويساهم في تحفيز النقاش حول حرب اليمن المنسية إلى حد كبير"، يقول المخرج، ويشير إلى دخول صنّاع الفيلم اليوم، في شراكة مع أكثر من 200 مجموعة تحاول تغيير سياسة الولايات المتحدة في اليمن، سعياً إلى إنهاء هذا الصراع تماماً.
وهذا الفيلم هو الأخير للمخرج، من سلسلة أفلام أسماها "ثلاثية السينما الإنسانية"، ركّزت على دراسة الأزمة العالمية للاجئين والنازحين، بعين سينمائية، تُقدّم أفلاماً قادرةً على إثارة التعاطف معهم.
الفيلم الأول من هذه الثلاثية، هو "50 قدماً من سوريا"، وقد رُشّح للأوسكار عام 2015، ونتابع فيه طبيباً عربياً-أمريكياً في أثناء سفره إلى الحدود السورية التركية للتطوع في علاج الجرحى المدنيين في الحرب السورية، والثاني هو "قارب النجاة"، الذي رُشّح أيضاً للأوسكار عام 2018، وفيه انضم المخرج إلى منظمة ألمانية غير ربحية تعمل على إنقاذ المهاجرين من شمال إفريقيا الذين حاولوا عبور البحر الأبيض المتوسط.
كثيرة هي القضايا التي تُفرَّغ من مضمونها الإنساني، نتيجة كثرة تناولها وعرضها في نشرات الأخبار، وهنا تكمن أهمية هذا النوع من الأفلام، فهي تُعيد طرح هذه القضايا بمنظور فني، ولغةٍ سينمائية معبّرة تُعيد إلى هذه القضايا روحها الإنسانية، وتولّد التعاطف معها، وتُحدِث في نهاية المطاف أثراً. فكم مرت علينا تقارير، ومقالات، أوردت أرقاماً مهولة عن الأطفال الجائعين، وحذّرت من الوضع الصحي المنهار في اليمن، لكنها تمر مرور الكرام، من دون أن نلقي لها بالاً، بينما مشهد واحد متقَنٌ، يكون أحياناً كفيلاً بأن يلخّص آلاف التقارير والمقالات، وحتى الكتب.
كثيرة هي القضايا التي تُفرَّغ من مضمونها الإنساني، نتيجة كثرة تناولها وعرضها في نشرات الأخبار، وهنا تكمن أهمية هذا النوع من الأفلام، فهي تُعيد طرح هذه القضايا بمنظور فني، ولغةٍ سينمائية معبّرة تُعيد إلى هذه القضايا روحها الإنسانية
هذا باختصار ما أحدثه فيلم "عنبر الجوع"، الذي يساعد المشاهدين على أن يفهموا، على مستوى عميق جداً، ماذا يعني فقدان طفل بسبب الجوع، ومدى السوء الذي وصلت إليه الأوضاع في اليمن، ومستوى التدهور الشديد الحاصل في المنظومة الصحية اليمنية. هذا هو سحر الأفلام والسينما.
تقول شيلا نيفينز، منتجة الأفلام الوثائقية الأمريكية، ورئيسةMTV Documentary Films: "لا بدّ أنني مررت بمليون مقالٍ عن اليمن، وقرأتها، وفكّرت وقلت: ‘أوه، هذا فظيع’. لكنني حقاً لم أكن أعرف ما يحدث في هذا البلد، حتى حطّم الأطفال الذين شاهدتهم في الفيلم قلبي، وفكّرت: إذا لم أكن أعرف ذلك، فإن كثيرين من الناس لا يعرفونه أيضاً، أو على الأقل، ليس بهذا القدر من التأثير".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين