"صُدمتُ بكل تأكيد. لأشهرٍ عدة كنت أتصرف وكأنني غير مصابة بالفعل، ولم أصدّق إلا بعد أن أجريت عمليةً، وحصلت على نتائج فحص الأنسجة التي تؤكد الأمر"؛ تقول روان طربيه (28 عاماً)، وهي تخبرني في حديث طويل عن رحلتها مع سرطان الثدي، الذي اكتشفت إصابتها به منذ نحو عام ونصف.
الأمر لم يكن بالوقع المفاجئ نفسه، على رشا اللبان (32 عاماً)، التي أصيبت بسرطان الثدي في سن الثلاثين، إذ تملك عائلتها تاريخاً مع هذا المرض، لكن الرحلة كانت من دون شك بالصعوبة نفسها، سواء على المستوى الجسدي، أو النفسي.
الأرقام والإحصائيات تشير إلى أن نسبة من يُصَبْنَ بسرطان الثدي، قبل سن الثلاثين، لا تتعدى الـ5 في المئة من مجمل الحالات حول العالم. ولأن النسبة ضئيلة، تُكتشف الإصابة على الأغلب في وقت متأخر، نتيجة عدم الاهتمام بالفحص الذاتي في المقام الأول، أو يتم إنكارها وعدم تصديقها، وتالياً عدم علاجها في التوقيت المناسب. بعض من ينتمين إلى هذه الفئة "الصغيرة"، تحدثن لرصيف22، عن تجربتهن الذاتية، من الاكتشاف "الصادم"، إلى الإنكار، حتى من قبل بعض الأطباء، وصولاً إلى العلاج والنجاة.
"لم آخذ المرض على محمل الجد"
بصوت هادئ، تتخلله لحظات من الصمت مع ابتسامات خفيفة، تسرد روان، وهي مصممة غرافيك من محافظة السويداء جنوب سوريا، بكل دقة ما عاشته منذ نيسان/ أبريل 2020، وحتى اليوم.
نسبة من يُصَبْنَ بسرطان الثدي، قبل سن الثلاثين، لا تتعدى الـ5 في المئة من مجمل الحالات حول العالم.
بشكل دوري، كانت الفتاة تواظب على الفحص الذاتي للثديين، خاصةً بعد اكتشاف أول إصابة لدى إحدى قريباتها، قبل فترة. "اكتشفت كتلةً صغيرة، من دون أي مؤشرات أخرى مرافقة. صورة الإيكو، وآراء الأطباء، أجمعت على أنها كتلة شحمية. لم أقتنع كثيراً، وبعد خمسة أشهر، لاحظت تغيّراً في حجمها، وكررت الصورة، لأحصل على التشخيص ذاته. وبعد جولة على أطباء عدة، قرر أحدهم استئصالها، ليتبين أنها سرطانية".
الأسبوع الأول كان صادماً جداً لروان، خاصةً أنها تعيش في دمشق، بعيداً عن أهلها، ثم مرّت بحالة من عدم التصديق. "حرفياً، لم أستطع أن آخذ المرض على محمل الجد. لم أخَفْ، لكنني كنت أفكر: لماذا أنا، وفي هذا العمر الصغير، ومن دون أي مؤشر؟ وصل بي الشك إلى حد الذهاب إلى المشفى، والتأكد من عدم وجود حالة مشابهة أجرت عمليةً في اليوم ذاته، لأنفي احتمال حدوث خطأ في العيّنات والتحاليل. ومن ثم بدأت رحلة العلاج في كانون الثاني/ يناير 2021، وانتهت في أيلول/ سبتمبر الفائت، وسأتابعها ببعض الأدوية".
تضمّن علاج روان ثماني جرعات كيماوية، تخللتها عمليتان، ولم يخلُ الأمر من تحديات كبيرة، كما هو حال مرضى السرطان في سوريا، فالأدوية التي توفرها عادةً المشافي الحكومية بالمجان، جزء منها غير موجود، ويضطر المرضى إلى شرائها بأسعار مرتفعة جداً، هذا إن وُجدت، ويؤدي ذلك إلى التأخر في التواريخ المقررة لبعض الجرعات، وهذا الأمر، إلى جانب كلفات الصور والتحاليل المطلوبة، يستنزف المرضى وعائلاتهم على الصعيد المادي.
روان أثناء جرعات العلاج الكيماوي
والتحدي الآخر الذي عانت منه روان، هو تعامل بعض الأطباء معها، كمريضة في هذا العمر الصغير. "بعضهم يفضّل بشكل عام اللجوء فوراً إلى الاستئصال الكلي للثديَين، من دون إعطاء فرصة للتعامل مع كل حالة وفق خصوصيتها، وآخرون كانوا يستغربون مجيئي وحدي للفحص أو للعملية، حتى إنهم كانوا يقولون عبارات من قبيل: ‘كم عمرك؟ أين أهلك؟ ألستِ خائفةً’؟ ربما كانوا يهدفون منها إلى التعاطف معي، أو تشجيعي، لكن وقعها عليّ كان سيئاً للغاية".
"كنت أفكر: لماذا أنا، وفي هذا العمر الصغير، ومن دون أي مؤشر؟ وصل بي الشك إلى حد الذهاب إلى المشفى، والتأكد من عدم وجود حالة مشابهة أجرت عمليةً في اليوم ذاته، لأنفي احتمال حدوث خطأ في العيّنات والتحاليل"
"محظوظة لاكتشافي المبكر للمرض"
في العام السابق لإصابة روان، عرفت رشا اللبان، وهي تعمل مصورةً صحافية في دمشق، أنها مصابة بسرطان الثدي، وعاشت تفاصيل مشابهة من العلاج الكيماوي، والإشعاعي، والعمليات.
"أعدّ نفسي محظوظةً لاكتشافي الكتلة في مرحلة مبكرة، ما ساعد في أن تكون مراحل العلاج قصيرة الأمد إلى حد ما"، تقول رشا التي تبدو معتادةً نوعاً ما على التفاصيل المتعلقة بعلاج سرطان الثدي، إذ خاضت التجربة ذاتها مع والدتها وشقيقتَيها، وواحدة منهما توفيت بسببه، ولربما ساعد الأمر على أن تكون أكثر صلابةً في مواجهة الأمر، وحتى قادرةً على إعطاء القوة لمن حولها.
الأمر الأصعب في رحلة رشا، كان تجريف العقد اللمفاوية التي أثّرت في مرحلة معينة على يدها، وتالياً على عملها الذي يتطلب حمل الكاميرا بشكل دائم. مع ذلك، لم تتغيب عن العمل سوى أيام قليلة، وكانت تستعيض عن الجولات الميدانية أحياناً بالدوام المكتبي، لإصرارها على الاستمرار، وعدم الاستسلام.
"قررتُ قصّ شعري بنفسي"
في آذار/ مارس الفائت، أي في منتصف رحلة العلاج، قررت روان أن ترتدي فستاناً، وتمشي في شوارع دمشق القديمة، برأسها الخالي من الشعر تماماً، في جولة تصوير نشرتها في ما بعد على صفحتها على فيسبوك.
"الأصعب نفسياً بالنسبة إلي، أكثر من معرفتي بإصابتي بالسرطان، كان فقدان شعري تماماً. رفضتُ ارتداء شعر مستعار، أو أي قطعة قماش تغطّي رأسي، فهي لا تعبّر عني أبداً، وأردتُ أن أعيش التجربة كما هي، وأرى ردود فعل الناس من حولها، على رؤية فتاة من دون شعر تمشي في الطريق، وتلتقط الصور وهي تبتسم، مغيّرةً الصورة النمطية عن مريضة السرطان الشاحبة الهزيلة التي لا بد أن تضع شعراً مستعاراً، أو تغطي رأسها. وفعلاً شعرت بأن الأمر لا يتعدى كونه عرضاً جانبياً للمرض، بل وربما أبسط الأعراض".
أما رشا، فقد قررت قصّ شعرها بنفسها، بعد أن بدأت بالعلاج الكيماوي، كي لا تعيش حالة فقدانه بالتدريج، ولم يكن الأمر سهلاً أيضاً بالنسبة إليها، هي التي يعرفها أصدقاؤها بشعرها الأسود الطويل. "ربما لأنني أكره أن أخسر شيئاً رغماً عن إرادتي، قصصت شعري قبل أن أخسره بالكامل، واحتفظت به للذكرى، وتعاملت مع الأمر على أنني أنا من قررت الظهور بهذا ‘اللوك’ المختلف".
رشا قبل وبعد الإصابة
أهمية تعلم الفحص الذاتي
تؤكد روان ورشا على أهمية الفحص الذاتي للفتيات والسيدات، فهو الخطوة الأولى نحو اكتشاف سرطان الثدي في مراحله الأولى، وتالياً توفير الكثير من المشقة، وعناء العلاج.
يتحدث الطبيب إياس عثمان، المختص بالأمراض النسائية والتوليد، عن الأمر ذاته، إذ يشير إلى أهمية تعلّم الفتيات طريقة الفحص الذاتي، وإجرائه دورياً، والتوجه إلى الطبيب عند الشك في أي كتلة، مهما كانت صغيرةً، خاصةً أن الفحص الشعاعي عادةً لا يُطلب سوى ممن تجاوزن سن الأربعين، حين يرتفع احتمال الإصابة بشكل كبير.
من المهم تعلّم الفتيات طريقة الفحص الذاتي، وإجرائه دورياً، والتوجه إلى الطبيب عند الشك في أي كتلة.
ويضيف عثمان، وهو يعمل في مشفى الشامي في دمشق، لرصيف22: "نسبة الإصابة ضمن الأعمار الصغيرة نادرة جداً، ولذلك يستبعد الأطباء إصابة الفتيات بورم خبيث، لكنهم لا يتجاهلون الأمر، لو كانت هناك مؤشرات واضحة، وأيضاً عوامل وراثية. خلال عملي في السنوات الماضية، مرت علينا حالة واحدة. وعلى الرغم من الكشف المبكر عنها، وإجراء العمليات اللازمة، توفيت الفتاة بكل أسف، بعد انتشار الورم في أماكن أخرى من جسدها".
الحملات الدورية لا تكفي
يقودنا هذا كله نحو ضرورة التوعية المستمرة بأهمية الفحص الذاتي للفتيات والسيدات كلهن، من سن العشرين، والفحص عن طريق الأشعة بعد سن الأربعين. هذه التوعية لا يكفي أن تقتصر على "تشرين الأول/ أكتوبر الوردي"، شهر التوعية العالمي بسرطان الثدي، وأن تتوقف بمجرد انتهائه، كما يقول عمار الخطيب، وهو ناشط مجتمعي يعمل ضمن فريق "ضمة وردية"، الهادف إلى التوعية بمفاهيم الصحة الإنجابية والجنسية في سوريا.
"ينتهي الشهر، لكن لا يجب ألا تنتهي التوعية، وهو ما يحدث بكل أسف في معظم الأحيان، حتى أن بعض العيادات تزيل الصور والمنشورات المتعلقة بفحوصات سرطان الثدي كلها، وتعيدها في الحملة المقبلة"، يقول الخطيب، وهو طالب في السنة الخامسة في كلية الطب البشري في جامعة دمشق، مضيفاً أن اقتصار التوعية على "تشرين الأول/ أكتوبر الوردي"، تزيد من الازدحام على مراكز الفحص، خاصةً المجانية منها، فتتجنب العديد من السيّدات الذهاب إليها، وينسين الأمر كليّاً حتى العام التالي.
التوعية أيضاً، على الأغلب، لا تستهدف الفتيات الصغيرات السن، كما يشير الشاب، لأنها عادة تستند إلى المرجعية الطبية التي تقول بندرة حالات الإصابة بينهن، "فالتوعية تتناسب مع عدد الإصابات، وهنا لا بد أن ننتبه إلى أن الأمر سيف ذو حدَّين، فلا نريد إهماله تماماً، وفي الوقت نفسه لا نريد بث الذعر لدى الفتيات الصغيرات السن، فيتحول الأمر إلى هاجس مزعج لهن. يكفي أن تعرف الفتاة علامات المرض، وطريقة الفحص الذاتي، والتوقيت الملائم له".
التوعية لا تستهدف الفتيات الصغيرات السن، لأنها تستند إلى المرجعية الطبية التي تقول بندرة حالات الإصابة بينهن، فالتوعية تتناسب مع عدد الإصابات، وهنا لا بد أن ننتبه إلى أن الأمر سيف ذو حدَّين، فلا نريد إهماله تماماً، وفي الوقت نفسه لا نريد بث الذعر لدى الفتيات
ويقترح الخطيب إجراءات إضافية عدة، منها أن يتولى الأطباء من الاختصاصات كافة، تذكير السيدات بأهمية الفحص الذاتي، ليتحول إلى إجراء روتيني مثله مثل أي عادة صحية أخرى، وأن تركّز الحملات على التوعية أيضاً بالفروقات بين الكتل، الحميدة منها والخبيثة، "فكثيرات من السيدات، بمجرد الإحساس بوجود كتلة لديهن، يمتنعن عن المتابعة مع الطبيب المختص، خوفاً من أن تكون سرطانيةً، مع ما يتبع الأمر من إجراءات منهكة ومكلفة". هذه الإجراءات كلها، برأي الخطيب، ليست رفاهيةً، وإنما ضرورة قصوى، واتّباعها لا يعود بفائدة على السيدات وعائلاتهن فحسب، وإنما على الاقتصاد ككل، "إذ إن الفحص الذاتي، والكشف المبكر، يوفران تكاليف هائلة على الأفراد، والقطاع الصحي أيضاً".
تؤكد روان في نهاية حديثها، أن الأمر يبدأ وينتهي عند "الوعي الذاتي بأهمية الفحص والمتابعة الدورية"، وتضيف بصوت تشوبه نبرة واضحة من الثقة: "ليس مرضاً خطيراً. علينا أن نثق بجسمنا، وأن نساعده، ففي فترة المرض والعلاج، يتعب الجسد، ويتآكل من الداخل، وما فعلته كان أن قدمّت له الدعم كله، من خلال الطعام، والرياضة، والاستمرار في العمل. ليس علينا أن نخاف من السرطان، بل أن نواجهه بالثقة، وعدم الاستسلام".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون