في مقطع مصوَّر انتشر مؤخراً، ظَهر رجل سوري يُسأل عن دينه تحت تهديد السلاح، فيجيب بلهجة دامعة: "أنا سوري يا خيّي". ينطق الكلمة الأخيرة كأنها محاولة للنجاة، استغاثة أخيرة باسم الأخوّة، عبر نداء يائس قد يوقظ ما تبقّى من الإنسان في القاتل. غير أنّ الرصاصة سبقت أيّ استجابة، و"يا خيّي" لم تكن كافيةً لتُبقيه حيّاً.
ما أبكاني في المشهد كانت تلكَ الكلمة البسيطة: "يا خيّي"، ففيها رجاء، وفيها استغفار، وفيها بحث مضنٍ عن رابطٍ أقوى من الدين، ومن الطائفة، ومن السياسة. وكأننا، حين نُجبر على كشف هويتنا أمام فوهة بندقية، لا نرجو النجاة من خلال الاسم أو المذهب، بل من خلال رابط الدم والعيش المشترك.
هذا النداء هزّ وجداني الفلسطيني. لم أسمعه من فم رجل غريب في بلد بعيد، بل من قلب الحكاية التي أعيشها يومياً في وطني المنقسم. شعرت بأنّ "يا خيّي" هذه قيلت باسمنا كفلسطينيين، وأنّ الردّ عليها، كما اعتدناه نحن، هو التجاهل، أو الأسوأ؛ الطعن.
لحظة الانقسام... من صوتٍ واحد إلى جبهتَين
في العام 2007، تحوّل الانقسام السياسي بين حركتَي "فتح" و"حماس" إلى انقسام جغرافي، مؤسساتي، ونفسي. لم يعُد الفلسطيني يعرف نفسه فقط كمواطن تحت الاحتلال، بل كمنتمٍ إلى معسكر هنا، أو تابع لمنظومة هناك. باتت الهوية الفلسطينية تُجزّأ، وتُقاس بموقف سياسي لا بحبّ الأرض أو شوق العودة.
شيئاً فشيئاً، لم يعُد الانقسام الفلسطيني حالةً طارئةً يمكن تجاوزها، بل صار جزءاً من وعينا. كبر معنا، ترسّب في المدارس، في الجامعات، في الإعلام، وفي تفاصيل الحياة الصغيرة. وامتدّ هذا الشرخ إلى تفاصيل موجعة؛ معتقلون سياسيون على خلفية التعبير، رواتب مقطوعة بسبب الانتماء، ومؤسسات تعمل في جهة وتُمنع من العمل في الجهة الأخرى
منذ تلك اللحظة، اختفت "يا خيّي" من لغتنا اليومية. لم نعد نخاطب بعضنا كأخوة في القضية، بل كخصوم في الخيارات. اختُزلت القضيّة إلى مبارزات خطابية على المنابر، ومزايدات على عدد الشهداء والصواريخ والمواقف. أما الشارع، فقد انكفأ على نفسه، تتآكله الخيبات، ويزداد قهره مع كل يوم ينكشف فيه عجزنا عن الالتقاء على كلمة سواء.
شيئاً فشيئاً، لم يعُد الانقسام حالةً طارئةً يمكن تجاوزها، بل صار جزءاً من وعينا. كبر معنا، ترسّب في المدارس، في الجامعات، في الإعلام، وفي تفاصيل الحياة الصغيرة. وامتدّ هذا الشرخ إلى تفاصيل موجعة؛ معتقلون سياسيون على خلفية التعبير، رواتب مقطوعة بسبب الانتماء، ومؤسسات تعمل في جهة وتُمنع من العمل في الجهة الأخرى.
وحين حاولنا في لحظات نادرة أن نصرخ "يا خيّي"، لنذكّر بعضنا بأننا شعب واحد، كنا نُقابَل بصمتٍ ثقيل، أو ابتسامات ساخرة، أو تهكّم سياسيّ يشكك في صدق المشاعر.
غزة تُباد والضفة تُترك للضمّ والسلطتان تتنازعان
ما من شيءٍ أفظع من أن ترى أبناء وطنك يُبادون أمام عيون العالم، ولا يتحرّك من يُفترض بهم أن يكونوا أصحاب القرار. خلال الحرب الأخيرة على غزة، لم يكن الاحتلال وحده هو الجلّاد، بل كان الصمت السياسي الداخلي خنجراً آخر في خاصرة المدينة الجريحة. لم تتحرّك السلطتان ـلا في غزّة ولا في الضفةـ على قدر حجم الدم النازف، بل ظلّ كل طرف غارقاً في شرعيّته، وفي حسابات ضيّقة لا تتسع لحجم الوطن الممزّق.
في لحظةٍ بدا فيها أنّ الفاجعة قد تُعيد اللحمة، وأنّ القصف قد يزيل الغبار عن صوت الأخوّة، تبيّن أنّ الانقسام أقوى من المجازر. لم نرَ موقفاً موحّداً، لم نشهد مؤتمراً جامعاً، ولم تصدر كلمة واحدة باسم الشعب، بل تُركَت غزة وحدها، تُباد وتقبر شهداءها بصمتٍ كأنها لا تنتمي إلى هذا الجسد الفلسطيني الكبير.
سنقدر على تجاوز هذا التشويه حين نعود إلى البداهة الأولى: نحن شعبٌ واحد. سنقدر حين نُعيد "يا خيّي" لا كشعار، بل كأسلوب حياة… حين تصير الأخوّة فعلاً سياسياً وثقافياً واجتماعياً. وربما حينها فقط، لا تعود المجازر وحدها هي من تذكّرنا بأننا شعبٌ يستحق الحياة
وما يزيد هذا المشهد قتامةً، أنّ الضفة الغربية في الوقت نفسه تُسلَب من تحت أقدامنا: توسّع استيطاني لا يتوقف، تهويد للقدس، ومشاريع ضمّ تُطبَّق بهدوء، بينما السلطة فيها لا تملك من أدوات الردع شيئاً سوى خطابات ناعمة وتصريحات تنديد لا تغيّر شيئاً على الأرض. كأنّ كلّ رقعة في هذه الأرض تُترك لمصيرها: غزة تواجه حرب إبادة شاملة، والضفة تواجه تقطيعاً واستيطاناً ممنهجَين، وفلسطين كلها بلا درع، بلا قلب واحد، وبلا صوت يقول: "نحن كلّنا واحد".
إذا لم توحّدنا الإبادة… متى نلتقي؟
إذا لم تنجح الإبادة في توحيدنا، وإذا لم تعُد كلمة "يا خيّي" إلى قاموسنا اليومي، فماذا الذي يقدر في هذا العالم على جمعنا؟
الانقسام ليس مجرّد خلاف سياسي، بل تشويه عميق لهويتنا الوطنية. لقد فرّق بيننا، وقطّع خريطة انتمائنا، فهل صار الفلسطيني في الضفة لا يشعر بما يوجع الغزّي؟ والغزّي لا ينتظر شيئاً من أحد؟ بتنا شعباً تتوزعه الظلال، لا النور، ويُسأل دوماً عن ولائه لا عن ألمه.
سنقدر على تجاوز هذا التشويه حين نعود إلى البداهة الأولى: نحن شعبٌ واحد. سنقدر حين نُعيد "يا خيّي" لا كشعار، بل كأسلوب حياة… حين تصير الأخوّة فعلاً سياسياً وثقافياً واجتماعياً. وربما حينها فقط، لا تعود المجازر وحدها هي من تذكّرنا بأننا شعبٌ يستحق الحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.