هنا البيت والملاذ، هنا الملتقي والمملكة، هنا يهبط وحي الشعر والشعراء ليلقى بين سطور الوجدان كلمات تصوغ نفسها بنفسها فتصنع أشعاراً تغلف قلوب من يسمعونها. هنا بيت الست وسيلة. يشهد أغلب المترددين على البيت من الشعراء، أن الحالة المتفردة للمكان صنعت منه وحياً خاصاً، فهنا تجري على أوراقهم أجمل الأشعار وتنطق الألسن بأجمل الكلمات، وكأن الوحي لا ينزل إلا في هذا المكان ويباركه. يتميز البيت بعمارته المبهرة، وعن طريق الصدفه اكتُشف بهذا المنزل شيء يدل على قوة علاقة الحب التي جمعت بين الزوجين اللذين أقاما فيه أولاً، حتى باتا وبيتهما مقصداً للمحبين.
يقول الخبير الأثري طارق المنسي إن القاهرة الفاطمية تضم مجموعة من البيوت التاريخية المهمة التي أعادت لها وزارتي الثقافة والآثار الروحَ عقب ترميمها، ومنها طبعاً بيت الست وسيلة.
يواصل المنسي عن البيت: "يقع على بعد أمتار قليلة من شارع المعز لدين الله الفاطمي، حيث أحد أهم الشوارع التاريخية في مصر، وتحديداً خلف الجامع الأزهر، ويمتاز البيت بجمال التصميم والبناء، حتى أن الغالبية العظمى تضرب به المثل كنموذج فريد للعمارة فمدخله (الباشور) تم تصميمه بحيث لا يكشف الضيوف أي ركن من أركان البيت، ثم ندلف بعد ذلك إلى (الصحن) الذي يجمع بدوره (الحواصل) أو الحجرات التي تم تقسيمها إلى حجرات للراحة والنوم، وأخرى للخدم، ومثلها لطحن الحبوب والغلال".
ويكمل لنا: "بدأت حكاية البيت في عام 1664م، حين دشنه عبدالحق الكناني وشقيقه لطفي، فيما انتقلت ملكية البيت بين أكثر من فرد على مدار عقود وقرون، وكانت الميزة المهمة أن كل من سكنه ترك على البيت مزيداً من الأصالة والرقي".
لعبت الست وسيلة دوراً مهماً خلال فترة الحملة الفرنسية على مصر، في الفترة بين 1798 و1801، حيث ساعدت شقيقتها في إيواء الثوار المصريين، بمنزليهما المتجاورين، ومن هنا اكتسبت شعبية كبيرة لدى قطاعات واسعة من الشعب المصري
ويروي المنسي تفاصيل أكثر عن البيت: "يضم الطابق السفلي بئر المياه، وقاعة الاستقبال التي كان يتم استقبال الضيوف بها، قبل أن يتم تحويلها إلى مسرح صغير تقام عليه فعاليات فنية من فترة لأخرى، فيما يجمع الدور الأول مجموعة من المشربيات التي كانت تستمع منها النساء إلى الشعراء الذين كانوا يتوافدون إلى البيت لإقامة بعض الاحتفالات".
لماذا هذا الاسم؟
سكن البيت عشرات ومئات، فكيف اكتسب اسم الست وسيلة، ولماذا هي تحديداً؟ يجيب المنسي: "البيت نُسب إليها تحديداً دون غيرها، لأنها آخر من سكنه وماتت عام 1835، لا يعرف أحد مكان ميلادها، وهناك كثير من الروايات المتضاربة عن نشأتها، ولكن الست وسيلة كانت جارية لزوجة الأمير سليمان أغا، الذي تولى منصب المسؤول عن السلاح في عهد محمد على باشا، وتم عتقها وحصدت ولقبت وقتها بـ(المعتوقة البيضاء). ولعبت الست وسيلة دوراً مهماً خلال فترة الحملة الفرنسية على مصر، في الفترة بين 1798 و1801، حيث ساعدت شقيقتها زينب خاتون، في إيواء الثوار المصريين، بمنزليهما المتجاورين، ومن هنا اكتسبت شعبية كبيرة لدى قطاعات واسعة من الشعب المصري".
"وبمرور الوقت بدأت معالم الزمن تضرب في جدران المكان، حتى وصل به الحال أن بات مجرد أعمدة تحمل ذكريات من مرّوا وتركوا الأثر، إلى أن قررت وزارة الثقافة، مع بداية عام 2000 إعادة ترميم البيت، وأذكر وقتها أنهم واجهوا كثيراً من الصعوبات، خصوصاً أن الملامح الأصلية للبيت مع النقوش التى زينت الجدارة كانت قد اختفت تقريباً".
يكشف طارق المنسي أيضاً عن واقعة مهمة تتعلق بالبيت، إذ سكنه لطفي الكناني، الذي دشن البيت، حيث كانت الست صفية زوجته تسعى بشكل مستمر للحفاظ على محبة زوجها، فقامت السيدة صفية بعمل (حجاب المحبة) لتحافظ على محبتة وحنانه الدائم لها وخشية الابتعاد عنها، وتمّ العثور على هذا الحجاب مدفوناً في جدار إحدى الغرف، وكان عبارة عن ورقتين من الكاغد الصيني وملفوف عليه بعض الخيوط من الصوف الأخضر فيما تم تدوين بعض الآيات القرانيه التي تدعو بالألفة والمحبة بين الزوجين مع طلاسم لم يفهمها أحد.
هنا نلمح بشكل عادي من أسبوع لآخر، مطربين وممثلين وشعراء من الصغار والكبار، الذين يقدمون إبداعاتهم فيه، ومنهم عمرو عبدالناصر (31 سنة)، خريج كلية العلوم، والذي قال عن تجربته مع المكان : "تعودنا، كشعراء، أن نلتقي هنا من فترة لأخرى حتى نتناقش في الأعمال التي نكتبها، وكأنها حلقة نقاشية. صحيح أننا توقفنا لفترة بسبب فيروس كورونا وما فرضه من إجراءات ولكننا عدنا لنلتقي ونمارس هوايتنا التي نحبها".
وتابع عمرو: "كل واحد له طقوس معينة عند الكتابة، وأنا تحديداً أجد طقوسي كلها هنا، وسط التاريخ؛ فهنا ولدت أشهر قصائدي والتي حصلت بسببها على كثير من الجوائز، ولا أخفيك سراً أن الأمر قد تجاوز معي فكرة الشعر، فأصبحت أجد راحتي النفسية هنا، وكلما مررت بضيق أو حزن أحضر إلى هنا وأخرج وأنا في حالة جيدة للغاية".
"الأمر قد تجاوز معي فكرة الشعر، فأصبحت أجد راحتي النفسية هنا، وكلما مررت بضيق أو حزن أحضر إلى هنا وأخرج وأنا في حالة جيدة للغاية"
بينما تأخذ قصة رنا عاطف (38 سنة)، ربة منزل، مع المكان منحى آخر، يتعدى الشعر والتاريخ ضارباً بجذوره في قصة رومانسية نجدها فقط بين الكتب والروايات.
تحكي لنا رنا: "منذ سنوات التقيت زوجي هنا لأول مرة. كنت وقتها في بداية اكتشافي لقدرتي على الرسم وكتابة الشعر، ونصحتني صديقة بزيارة المكان ومتابعة النشاطات التي تقام للشعراء فيه كي أكتسب خبرات جديدة، وفعلاً حضرت، وعلى طريقة الأفلام القديمة وجدته أول من يستقبلني فسألته عن الفعالية وأين تقام، لتبدأ مجموعة من الأسئلة والإجابات بيننا، حتى وجدنا كثيراً من الاهتمامات المشتركة بيننا، أبرزها طبعاً الشعر".
تواصل رنا حكايتها: "كتب لي قصيدة شعر اعتبرتها بديلاً لدبلة الخطوبة، وأذكر أنه في أول مولود لنا كان يحب زوجي أن يطلق عليه، إن كان أنثى، اسم وسيلة تيمناً بالمكان الذي شهد بداية قصة حبنا".
تم افتتاح بيت الشعر في بيت الست وسيلة في حزيران/يونيو من العام 2010 ، وخلال سنوات معدودة كان بيت الشعر قد اعتمد جداول كثيرة بتقديم أمسيات شعرية وندوات، وكان من المميز في تلك الأمسيات أنها لم تقتصر على شعراء القاهرة فقط، وإنما منحت المساحة الكافية لشعراء الأقاليم للتعبير عن أنفسهم والكشف عن إبداعاتهم، وهو ما خلق مساحة أكبر من التواصل، بين الموجودين في العاصمة والبعيدين عنها.
وإلى جانب تلك الأمسيات والندوات، تقام في البيت من فترة لأخرى احتفالات بذكرى كبار الشعراء، إلى جانب إقامة الورش الخاصة بالشعر والعروض الفنية للصغار والكبار، وأيضاً ورش لذوي الاحتياجات الخاصة بالإضافة إلى ورش تنمية المهارات واكتشاف المواهب الأدبية والفنية.
يقول حمدي الخطيب خريج كلية التجارة (28 سنة): "جئت من محافظة البحيرة غرب القاهرة بحثاً عن مزيد من الشهرة لأن أغلب الأعمال التي نقدمها في محافظتنا تبقى بعيدة عن الأضواء".
ويضيف: "بدأت أكتب الشعر منذ حوالى خمس سنوات، وتخصصت في كتابة الأغاني، وعرضتها على عدد كبير من نجوم الطرب في مصر عن طريق المراسلة ولكن دون جدوى، حتى نصحني البعض بأن أقيم في القاهرة لتسهيل عرض كتابتي عليهم وجهاً لوجه بدلاً من مراسلتهم، وعملت بالنصيحة وحضرت إلى هنا في إحدى الأمسيات وتعرفت على عدد من الشعراء الذين بدورهم قدموني لبعض نجوم الغناء حتى نجحت في التعاقد مع مطرب شهير أتحفظ على ذكر اسمه الآن، وسوف نتعاون معاً في أغنية ستكون مفاجأة، فقد حضرت من بلدتي وأنا مصمم على تحقيق الشهرة وأن يُكتب اسمي إلى جوار كبار الشعراء".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...