يأتي هذا المقال ضمن الملفّ الذي أُطلق منذ شهر مارس/أذار 2020, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "داوِ الهمومَ بقهوةٍ سوداءِ... المقاهي العربية".
يشبهونها بمدينة الغول لكثافتها التي أصبحت تلتهم كلّ شيء، وبشساعة معمارها الذي يجعل سكّانها أكثر غربة، إلا أنها تعتبر المدينة الأليفة أو مدينة "الوِلف" كما يسمّيها سكّانها؛ إنها "الدار البيضاء". بها جاذبية روحية تشدّكم إليها وتجذبكم نحوها كلّما حاولتم الانفلات منها، إذ يصبح البعد عنها أمراً مستحيلاً.
وكما تفيض الدار البيضاء أو كما يناديها البيضاويون "كازا بلانكا" بالأسواق القديمة، والشوارع، والدروب العتيقة، والمكتبات، فهي تتميّز أيضاً بالمقاهي، خصوصاً تلك المقاهي التي تحمل تاريخ فترات مهمّة من ماضي الإنسان البيضاوي.
يشكّل الانتشار الكثيف للمقاهي في جميع شوارعها، أبرز سمات العاصمة الاقتصادية؛ ما يمنحها حيوية تميّزها عن سواها من المدن، حيث أصبح جزءاً لا يتجزأ من المشهد البيضاوي، ومن حياة البيضاويين وعاداتهم اليومية، ومن تاريخهم، كونها واكبت تطوّرهم السياسي والفكري والاجتماعي منذ سنوات الاستعمار.
فيها يكون العالم بأسره رفيقكم
وبينما يجلس الزائرون لتناول فطورهم وحيدين، يأتي النادل أنيقُ الهندام حاملاً بيده صينيتَه المستديرة، وفي قلبها يهتزّ إبريق الشايُ الأخضر بالنعناع تفوح رائحته، تحيطه فناجين زجاجية، وبجوارها إناء السكّر، تعلوه ملعقة نحاسية.
وأنتم تتناولون فطوركم في المقهى يجلس في الطاولات المجاورة رجالٌ يرتدون ملابس رسمية لشرب القهوة والسجائر، غالباً يكونون موظفين في المكاتب أو البنوك المجاورة للمقهى، وأمامكم الشارع يجسّد مسرحاً مفتوحاً: آباء يصطحبون أبناءهم إلى المدرسة، وشباب يهرولون متوجهين إلى أماكن عملهم، مشرّدون، باعة متجولون، ومتسوّلون.
مقهى فرنسا رافقَني في مراحل مهمة من حياتي، وأصبح ارتياده جزءاً لا يتجزأ منها. حتى أن حبّنا كبيضاويين لهذا المكان لم يأتِ من فراغ، بل جاء من قيمة المكان التاريخية كونه يقع وسط ساحةٍ شهدت الكثيرَ من الأحداث ذات الطابع التاريخي
حين ترتادون المقهى لوحدكم، يكون العالم بأسره رفيقكم. كلّ تلك المشاهد لا تكتمل إلا بالجلوس في مقهى فرنسا أو "كافيه دو فرانس".
يقع مقهى "دو فرانس" في ملتقى شارع محمد الخامس وساحة الأمم المتحدة في الدار البيضاء، وعلى مرّ الزّمن شكّل المقهى فضاءً مفضّلاً للنخبة "البيضاوية"، لعقد لقاءاتهم وصفقاتهم.
ويُحكى أن مالكة المقهى، كانت امرأة فرنسية كان يطلق عليها المغاربة “مدام دو كافيه” أي "سيدة المقهى". وكان الهدف من تشييد هذه المقهى الذي أصبح معلماً تاريخياً للمدينة، في عهد الاستعمار، أن يكون نقطة تقاطع بين المدينة القديمة، حيث السكّان اليهود والمسلمون، والتي ترمز إلى المغرب التقليدي، وبين المدينة أو الحيّ الأوروبي، حيث الجاليات الفرنسية والأوروبية، والتي ترمز إلى الحضارة والعصرنة والتجدد.
يقول ياسين الغمري (37 عاماً) والذي يشتغل محاسباً في البنك المجاور للمقهى، وهو من الزبائن الأوفياء للمقهى الذين لا يتذوّقون فنجانهم اليومي في مكان سوى "كافيه دو فرانس" لرصيف22: "تعوّدت على تناول قهوتي الصباحية في هذا المكان، كما أن المقهى تعوّد علي. تردّدي على هذا المقهى لم يكن وليد اللحظة، بل كنتُ أرتاده أيامَ الجامعة مع الرفاق، وقضاء ساعات طويلة هنا. كما كنتُ أرافق أبي وأعمامي منذ صغري إلى المقهى".
تمّ تصوير عدة أفلام في هذا المقهى منها بعضٌ من مشاهد أشهر الأفلام الرومانسية في تاريخ السينما الأميركية، أي فيلم "كازابلانكا" الذي أُنتج عام 1942
"مقهى فرنسا -يضيف الغمري- رافقَني في مراحل مهمة من حياتي، وأصبح ارتياده جزءاً لا يتجزأ منها. حتى أن حبّنا كبيضاويين لهذا المكان لم يأتِ من فراغ، بل جاء من قيمة المكان التاريخية كونه يقع وسط ساحةٍ شهدت الكثيرَ من الأحداث ذات الطابع التاريخي. إنه يحمل بين جنباته الكثير من الحكايات والكثير من الذكريات، إذ كان دائماً المكان المفضل لزبائن كثرٌ من المغاربة والفرنسيين و الأوروبيين".
رحلة نوستالجية مليئة بقصص وحكايات البيضاويين
ظلّ مقهى فرنسا الذي كان اسمه الأول "لو غران كافيه غلاسي"، قبل أن يتحوّل في ما بعد إلى "كافيه دو فرانس"، المستمد من اسم ساحة "بلاص دو فرانس"، محجّاً للبيضاويين وغيرهم من المقيمين الأجانب والسيّاح على مرّ السنوات. فيه كان يجتمع المثقفون والاُدباء والمعارضون لحكم فرنسا، فمرّ من هنا رؤساء دول، منهم على سبيل المثال الرئيس البلغاري السابق، سيرغي ستانيشيفمند.
وقد تمّ تصوير عدة أفلام في هذا المقهى منها بعضٌ من مشاهد أشهر الأفلام الرومانسية في تاريخ السينما الأميركية، أي فيلم "كازابلانكا" الذي أُنتج عام 1942. وقد دأب كثير من الأمريكيين على زيارة "مقهى فرنسا" لكي يتأملوا الساحة التي صورت بها مشاهد الفيلم. وكان آخر الأفلام التي صُوّرت في هذا المقهى، الفيلمَ المغربيّ "علي زاوا".
الكلّ يلتقي في مقهى فرنسا
يقول عبد الغني أفريط، عضو جمعية " كزا ميموار" لرصيف22: "مقهى فرنسا، بات واحداً من معالم المدينة، فهو يدخل ضمن الذكريات الحميمية للبيضاء والبيضاويين. ثم إن لهذا الفضاء الحيوي قيّمة تاريخية لازالت ملتصقة بحاضر المدينة".
ويضيف أفريط: "في نظر البيضاويين، كان مقهى فرنسا، أفضلَ مقهى على مرّ السنوات، وبمثابة معلمة يهتدي بها كلّ زائري البيضاء. الكلّ كان يلتقي في مقهى فرنسا، سواءً القادمون من المدن الصغرى والمداشر، بهدف الحصول على عمل، أو الاصدقاء من البيضاويين. إضافة إلى أن المقهى كان فضاءً لعقد الاجتماعات بين رجال أعمال وسياسيين ومفكرين، وغيرهم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون