في منطقتنا العربية، لا تملك المرأة، على الأغلب، الكثير من المحطات في حياتها، فهي تولد، ثم تبلغ المحيض، لتصبح بذلك سيدةً قادرة على الزواج والإنجاب، ثم تُتوفّى.
هكذا يرانا المجتمع، وربما هذا ما يقف وراء احتفال العديد من العائلات بوصول الدورة الشهرية لفتياتها. تختلف المظاهر الاحتفالية من عائلة إلى أخرى، فبينما تجلب عائلاتٌ الحلوى، وتنظّم حفلاً عائلياً، هناك من تكتفي بإطلاق الزغاريد، لتعلن عن الخبر لنساء العائلة ورجالها، وهو ما يفسّر أيضاً كيف تختلف حياة الفتيات بعد بلوغهن المحيض، وكيف تختلف علاقتهن بأجسادهن، ونظرتهن إليه، بل وكيف تتغير علاقتهن بالمحيطين بهن.
عائلاتٌ تجلب الحلوى، وتنظّم حفلاً، وأخرى تطلق الزغاريد، لتعلن عن خبر قدوم أول دورة شهرية لابنتها.
أتتني الدورة الشهرية، وأنا في سن التاسعة. في البداية، اندهشت أمي، وظلت تسألني: ‘أنتِ لمستِ نفسك؟’، ثم اتصلت بجدتي، وبدأت تعلّمني ما يخص الدورة الشهرية كله، وكيفية التعامل معها، وما وظيفتها، ولماذا تأتينا نحن النساء. بعدها بساعات، جاءت جالبةً الكثير من الحلويات، وأقاموا حفلاً، وهنّأوني، وباركوا لي"، تروي ندى محمد (22 عاماً)، لرصيف22.
"في البداية، لا يمكن أن أنكر أنني كنت سعيدةً، على الرغم من خجلي، لكن بعدها بدأت تداعيات بلوغي تلك المرحلة"، تضيف الفتاة المقيمة في القاهرة.
"تمنيت لو كنت صبياً"
ارتداء الحجاب كان أول أثر لقدوم الدورة الشهرية في حياة ندى، بعد الانتهاء من حالة الاحتفال. وتضيف شارحةً: "كما فتيات المنطقة التي نسكن فيها كلهن، لبست الحجاب بعد وصول الدورة بشهور قليلة، الأمر الذي أثّر تباعاً على علاقتي بجسدي، ونظرتي إليه، فارتديت معه إحساسي بالذنب والعار. مهما لبست ثياباً واسعة وطويلة، فهي ليست كافية".
بذلك، شعرت ندى بأن الانتقادات، أو مواقف التحرش التي كانت تتعرض لها، هي بسبب الحجاب، فقد كان إعلاناً بأنها امرأة بالغة، ولم تعد طفلة. "هذا كله خلق في داخلي أزمةً في التعامل مع جسدي، وخاصةً منطقة الصدر، إذ كنت أتعمد إطالة الحجاب، ليغطي صدري، وكم كنت أتمنى لو اختفى تماماً، ليختفي معه إحساسي بعدم الراحة".
أما لمى. م (38 عاماً)، وهي سورية من أصل فلسطيني، فتقول: "كأنها لعنة حلّت عليّ. وصلت إلى أولى ثانوية عامة، والكل كانوا مترقبين، لأن دورتي الشهرية تأخرت، وبدأت الجارات والصديقات بالإلحاح على أمي لأخذي إلى طبيب نسائي، علماً أن عمي، وهو طبيب في هذا الاختصاص، أخبرها أن الأمر طبيعي".
عندما بلغت لمى الحيض، صارت تبكي كثيراً، "لأن معنى هذا أن حياتي ستنقلب رأساً على عقب، بدءاً من الحجاب، وصولاً إلى تزويجي. لحظتها، تمنيت لو كنت صبياً، فأنا لا أريد الحجاب، أو حمّالة الصدر التي تلبسها النساء في عائلتنا عندما تأتيهن الدورة، وليس عندما تكبر أثداؤهن. وما زاد من غيظي، هو فرح عائلتي، واحتفالها بقدوم دورتي الشهرية".
"أتتني الدورة، وأنا في سن التاسعة. في البداية، اندهشت أمي، وظلت تسألني: ‘أنتِ لمستِ نفسك؟’، ثم اتصلت بجدتي، وبدأت تعلّمني ما يخص الدورة الشهرية، وكيفية التعامل معها، وما وظيفتها. بعدها بساعات، جاءت جالبةً الكثير من الحلويات، وأقاموا حفلاً، وهنّأوني"
بعد الاحتفال، أجبرت العائلة لمى على ارتداء الحجاب، كشرط لإكمال تعليمها، وكذلك على ارتداء حمّالة الصدر طوال الوقت، على الرغم كون صدرها صغيراً. "لأني بلغت الدورة، فلا بد من إظهار معالم الأنوثة، حتى وإن لم تكن موجودة في الحقيقة. كما أن الحجاب كان إعلاناً عن بلوغ المحيض، ودخلت عائلتي في ماراثون مجنون لتزويجي، خاصةً وأنني من بلدة معروفة بزواج فتياتها في سن صغيرة جداً، لدرجة أن بعضهن يبلغن المحيض، وهن متزوجات. لكني لم أستسلم، وأنهيت دراسة الهندسة، وبدأت بالماجستير، ثم تزوجت في سن الخامسة والعشرين".
هذه المظاهر المتعلقة بالاحتفاء بالدورة الشهرية، كحدث مفصلي في حياة المرأة، دفعت لمى للإفراط في الاهتمام بالنظافة الشخصية كما تقول. "من فرط كراهيتي للدورة، كان اهتمامي بتنظيف جسدي من الدماء يتضاعف خلالها، ليصل إلى حد الهوس، وكأني في قرارة نفسي كنت أتمنى أن تزول، أو تتوقف. كنت شهرياً أعيش حالة الهيستريا تلك، مدة ثلاثة أيام متواصلة، وأنا لم أبلغ بعد الثامنة عشرة".
"والداي المنفصلان عادا إلى بعضهما"
على عكس الفتيات السابقات، كان وصول الدورة الشهرية يحمل بعض السعادة لهنا حجازي. تحكي الفتاة ذات الأعوام السبعة عشر، والمقيمة في القاهرة التالي: "كان والداي منفصلين، وكنت مقيمة مع والدي. عندما أتتني الدورة، وكان عمري حينها 11 عاماً، كنت في المدرسة، وعندما عدت إلى المنزل، لاحظ أبي علي بعض الإعياء، وترددي المتكرر على الحمام، ثم وجد نقطة دمٍ في مكان جلوسي، فسألني عما أشعر به. حكيت له عن آلام ظهري وبطني، فغمرته السعادة، وظل يردد: ‘العمر بيجري’، ثم خرج من المنزل، وعاد حاملاً قالب حلوى، وبعض الفوط الصحية، وشغّل أغانٍ، واحتفل بي، وظل يحضنني، ويبكي".
تتابع هنا: "كنت سعيدةً بردة فعله، على الرغم من شعوري بالإحراج. وبعدها، حدثت تغييرات سعيدة، إذ عاد أبي وأمي إلى بعضهما، ولم أكن أعلم أن الدورة الشهرية يمكن أن تكون سبباً في ذلك".
أصبحت علاقتي بجسدي سيئة جداً، إذ يلازمني الشعور بالخجل منه، وعدم تقبلي له، ولتفاصيله.
بالطبع تغيرت نظرة الفتاة إلى جسدها، فبدأت بتعلم أساليب الاهتمام بالنظافة الشخصية: "كان هذا بعد حديث مطول مع أبي وأمي، أخبراني فيه بالتغيرات كلها التي ستطرأ على جسدي. لم يخالجني أي شعور بالخجل، بل على العكس، أحببت أنوثتي، وأحببت جسدي، وتقبلت ما فيه كله".
على الجانب الآخر، كانت تجربة كريستينا ملاك (26 عاماً)، من القاهرة، مختلفة جذرياً. "على الرغم من طلبي من أمي بألا تخبر أحداً بقدوم الدورة الشهرية، إلا أنني وجدتها في اللحظة نفسها قد خرجت خلفي، وهي تطلق العنان لزغاريدها، وهي ترفع ملابسي الداخلية المبقعة بنقاط الدماء بيديها، كنت وقتها أبلغ 12 عاماً، وكان موقفاً لا أُحسد عليه. بارك لي أبي، وقال لي: ‘بقيتِ آنسة’، ثم سافرنا إلى عائلتنا، وأخذت جدتي وخالاتي يباركن لي، ويهنّئنني، وكن يقلن لي: ‘خراط البنات هيخرطك’، وهو تعبير دارج يعني أن هذه الدماء ستزورني كل شهر. لم أفهم معنى هذا الكلام وقتها، وبعدها تحولت حياتي إلى النقيض تماماً".
تتابع ملاك: "وُضعت قائمة طويلة من الممنوعات أمامي: الاختلاط بالأولاد، وارتداء الملابس الضيقة والفساتين، وركوب الدراجات، والجلوس مع زملائي الأولاد في المدرسة. حتى أوقات اللعب أُلغيَت، واستُبدلت بالواجبات المنزلية. اختصاراً، حُرمت من طفولتي بالكامل، بسبب الدورة الشهرية. حتى علاقتي بأخي تأثرت، إذ أظهر اشمئزازه مني".
هذا كله ألقى بظله الثقيل على علاقة الفتاة بجسدها. "حتى الآن، أشعر بالخجل من رغبتي في دخول الحمام، وأخجل من ارتداء ملابس قد تُظهر أي جزء من جسدي. أفضّل المكوث في المنزل، في أثناء الدورة الشهرية، حتى لا تظهر عليّ أي علامات إعياء. أصبحت علاقتي بجسدي سيئة جداً، إذ يلازمني الشعور بالخجل منه، وعدم تقبلي له، ولتفاصيله، وشعرت بأنني حبيسة في داخله".
"لم أتردد لحظة بالاحتفال"
إن كانت هذه وجهة نظر الفتيات، فإن زاوية رؤية الأهالي للأمر قد تختلف.
تقول أمل يحيى (47 عاماً)، وهي موظفة في أحد المراكز الصحية في الإسكندرية، إن طفلتها بلغت المحيض لتوها، ولم تتردد للحظة في تقليد أمها، ولم ترَ أن هذا أمر يستوجب الأخذ برأي الفتاة نفسها. "أحضرت الحلوى، وقوالب الكيك، ودعوت المقربين منّا، رجالاً ونساء، واحتفلنا بابنتي، وجلب الأقارب بعض الهدايا معهم، مثل الملابس الداخلية القطنية، وعلب الفوط الصحية، وجلبت أنا عدداً من الايشاربات، بغرض إلباسها الحجاب".
"لاحظ أبي علي بعض الإعياء، ثم وجد نقطة دمٍ في مكان جلوسي، فسألني عما أشعر به. حكيت له عن آلام ظهري وبطني، فغمرته السعادة، وظل يردد: ‘العمر بيجري’، ثم خرج من المنزل، وعاد حاملاً قالب حلوى، وبعض الفوط الصحية، وشغّل أغانٍ، واحتفل بي، وظل يحضنني، ويبكي"
وتتابع: "انتهت الحفلة، ودخلت ابنتي إلى حجرتها، ولم تخرج منها. وعندما ذهبت إليها، وجدتها تبكي بحرقة، وظلت تصرخ قائلةً إنني أحرجتها، واستبحت حياتها الشخصية. نشبت مشادة بيننا، واتهمتها بالعقوق، وبأن الإنترنت، و’الكلام الفاضي’، سيفسدان عقلها. في الحقيقة، لم أفكر للحظة في أن خطوةً مثل الاحتفال بانتقال ابنتي من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الأنوثة، خطأ، أو أنها يمكن أن تفسد علاقتنا. توقعت أنها ستفرح، فعندما حدث هذا معي، كنت محرجةً طبعاً، ولكن لم أكن أعرف كلاماً مثل الذي قالته لي ابنتي. ربما الأشياء التي تربينا عليها، أو حدثت معنا، لم تعد مناسبةً لأطفالنا".
بالبحث عن أصل تلك العادة، أي الاحتفال بقدوم الدورة الشهرية، في الثقافة المصرية، لم نجد من المصادر المكتوبة أو المرئية، ما تناول هذا الطقس، فتوجّهنا بالسؤال إلى الباحثة في المصريات، نرفانا حسن، التي قالت لرصيف22: "ربما ليس هناك من المصادر، أو الدراسات المنشورة حتى الآن، ما قد يشير إلى وجود طقوس احتفالية بقدوم الدورة الشهرية للنساء، ولكن هناك بعض المؤشرات التي يمكن عدّها أساساً لاعتقادنا بأن المصريين القدماء تعاملوا مع النساء، في أوقات المحيض، باحترام وتفهّم".
وتتحدث الباحثة عن لوح يُسمّى الأوستراكا، محفوظ في أحد المتاحف في بريطانيا، نُقشت عليه أسماء العمال، عند الحضور والانصراف من العمل، وأسماء المتغيبين، وأسباب تغيّبهم، على مدار 280 يوماً، وهو عدد أيام العمل سنوياً، وكان ذلك خلال حكم الملك رمسيس الثاني. "نجد في هذا الحجر الجيري، نقشاً لأسماء عمال متغيبين، مثل ‘أنحور خاوي’، وسبب غيابه ‘معاونة زوجته بسبب الدورة الشهرية’، وكذلك العامل ‘نفر إيبو،’ وسبب غيابة ‘إصابة ابنته بالدورة الشهرية’، وكذلك ‘سيبا،’ وسبب غيابه ‘إصابة زوجته بالدورة الشهرية’. ويمكن أن نستخلص من هذا، أن المصريين القدماء كانوا يحترمون النساء، وطبيعتهن البيولوجية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...