الساعة تشير إلى السابعة صباحاً، المنبّه لا يتوقف عن الرنين في غرفة هدى. الأخيرة تحاول الاستيقاظ، في يوم شتوي غائم، لكن مباشرة بعد استيقاظها تنتبه لفراشها الملطَّخ بالدماء، اتجهت عيناها نحو سروال بيجامتها، ملطخ هو الآخر، لتستنتج على الفور أن موعد عادتها الشهرية قد حان.
"سأعيش خمسة أيام على الأقل، بمشاعر مُرهَقَة، بمزيج من الحزن والكآبة، والتوتّر والحساسية الزائدة؛ المشاعر التي لن يتفهَّمها أحد غيري"، تقول هدى لرصيف22.
"كأنها لعنة أو خطيئة"
تطلق المغربيات على الدورة الشهرية مفردات غريبة، قد تكون مضحكة لا معنى لها، من قبيل "خالتي" أو "الوداد"، في إشارة إلى فريق كرة القدم "الوداد البيضاوي"، باعتباره الفريق المغربي الوحيد الذي يرتدي الأحمر.
في الغالب، تستعمل هذه المفردات للتستر على الحديث عن الدورة الشهرية، باعتباره عيباً، أو "حشومة"، بالدارجة المغربية.
تعتقد هدى، وهي شابة ثلاثينية، بأن الدورة الشهرية تُعدّ عقاباً إلهياً للنساء، وما يزيد طين بلة، بحسبها، "هو التكتم الشديد الذي يحيطها، وهالة الخجل التي تصاحبها"، تضيف مسترسلة: "كأنها خطيئة، أو لعنة تصيب النساء بشكل شهري".
في الواقع، ما يضايق هدى ليس "الاكتئاب" الذي تعيشه طيلة أيام الدورة؛ فيمكن تفسير ذلك بالهرمونات المتقلّبة أثناء الفترة، بل ما يزعجها هو الضغط الذي يجتاحها في عدم جذب انتباه والدها أو أحد أشقائها الذكور إلى ارتدائها فوطة صحية، والمصيبة الكبرى، بحسبها، هو حينما تلطخ المكان الذي تجلس فيه بالدم.
تردف هدى، وهي معلمة في إحدى المدارس الخاصة، في جلسة حميمية داخل منزلها برفقة صديقتها، ووالدتها قائلة: "نعم، أعيش ضغطاً حقيقياً أثناء فترة الحيض، أكون شبه مرعوبة بأن يكتشف أحد أمري، سيكون موقفاً صعباً لكلينا، سواء بالنسبة لوالدي أو شقيقي، أو بالنسبة لي"، وترجع الضغط الذي ينتابها إلى طريقة التربية.
"البائع يخجل من بيع فوط الحيض"
ظاهرياً، يبدو المجتمع المغربي للعين الأجنبية مجتمعاً منفتحاً وعصرياً، لاسيما في مدنه الكبرى، كما تبدو المغربيات قويات ومتحررات، لكن الواقع في بعض نواحيه عكس ذلك تماماً.
بعض المغربيات يخجلن من شراء الفوط الصحية المستعملة في فترة الحيض، بعضهن يفضلن استعمال فوط من القماش الرطب، بدلاً من اقتناء فوط صحية من المتاجر، فهذا الموضوع حسّاس بالنسبة لهن.
تعلّق هدى (32سنة)، قائلة: "دائماً توصيني والدتي بعدم شراء فوط صحية من بقال الحي، فهو سيعلم بالتأكيد أنني في فترة الحيض، وهذا طبعا لا يجوز".
أما صديقتها مريم، (31 سنة)، فهي جريئة مقارنة بهدى، تقول إنها لا تتردد في شراء ما تحتاجه من فوط صحية من المتجر المجاور لمنزلها، تضيف: "لكن البائع هو الذي يخجل من بيعي فوط الحيض".
""عندما أطلب من البائع فوطاً صحية، يعطيني إياها بكثير من الخجل والتكتم، يلف الفوط بورق غامق جداً، وكأنه يمدني بالممنوعات"
"قالت لي والدتي عندما اكتشفت دورتي الشهرية، ألا أتحدث مع الرجال، فبمجرد السلام عليهم، سأصبح حاملاً، مزحة ثقيلة منها، جعلتني أعيش كابوساً حقيقياً طوال شبابي"
وتتابع مريم، وهي محاسبة في إحدى الشركات الخاصة، حديثها بسخرية: "عندما أطلب من البائع فوطاً صحية، يعطيني إياها بكثير من الخجل والتكتُّم، يلفّ الفوط بورق غامق جداً أو بورق جرائد كيلا تظهر الفوط بشكل واضح، في تصرف يثير استغرابي، ويدفعني إلى الخجل أيضاً، وكأنه يمدّني بالممنوعات".
تقاطعها هدى، بسخرية: "حاولتُ أن أكون جريئة مثلها، توجهتُ إلى أقرب محل بقالة، وجدته ممتلئاً بالرجال، حاول البائع أن يكون لطيفاً معي، بادر بسؤالي عما أريده لكيلا أنتظر كثيراً، إلَّا أنّني ترددتُ مثل البلهاء، وطلبتُ منه شيئاً آخر"، تشدد على أنها لم تستطع القول: "إنها تطلب فوطاً نسائية".
"دم الحيض بدون أخطار"
"30 في المائة فقط من المغربيات يستعملن الفوط الصحية خلال دورتهن الشهرية، و70 في المائة المتبقية، يلجأن إلى طرق بديلة أخرى قد تشكل خطراً على صحتهن ونظافتهن".
أرقام مخيفة كشفت عنها حركة "حاشاك"، التي اختارت الدفاع عن حق المرأة في "دم حيض بدون أخطار"، وحقها في استعمال فوطة صحية مريحة.
تقول ياسمينة لحلو، إحدى مؤسِّسات هذه الحركة، في تصريح لرصيف22: "الغرض من حملة "حاشاك" هو تكسير الطابو والتحسيس، وفتح النقاش حول موضوع مقلق له علاقة بالتربية والثقافة".
تضيف ياسمينة: "حان الوقت لكي يستوعب المجتمع أن دم الحيض مسألة طبيعية، لا يجب أن تخجل منها المرأة أو تشعر بالعار منها وتخشى التحدث حولها".
وتشدد ياسمينة على أن المغربيات يبذلن مجهوداً كبيراً في شراء فوطة صحية من عند البقَّال، تقول: "يجب على النساء أن ينتظرن أن يخلو الدكان من العنصر الذكوري كي تطلب واحدة منها، وأحياناً تخجل المرأة من نطق الكلمة مباشرة، وتتحايل بالعبارات حتى يفهم صاحب الدكان طلبها".
"مزحة ثقيلة من أمي"
في الوقت، الذي يجد فيه البعض أن هذا النقاش يعد ترفاً وغير مهم، إلا أن حركة "حاشاك"، تجد الموضوع في غاية الأهمية، إذ يكشف واحداً من التابوهات والقضايا المسكوت عنها في المجتمع المغربي، والتي تمس المرأة وتؤثر على صحتها ونفسيتها، إضافة إلى تأثيرها بشكل سلبي على دراستها ومستقبلها.
فهذا "العار الاجتماعي"، إن صح التعبير، الذي يصاحب المرأة أثناء الدورة الشهرية، يجعل المرأة تعيش كابوساً أثناء الدورة الشهرية، تجدها تتبع ثقافة الصمت عند تعاملها مع أوجاعها، وهذا يتضح جلياً خلال شهر رمضان، عندما يأتي موعد عادتها الشهرية، تجدها مرهقة، وصائمة، على رغم من أن الدين نفسه، منحها رخصة شرعية بالإفطار.
تقول كل من هدى ومريم، خلال حديثهما لرصيف22 إنهما لا تستطيعان الإفطار خوفاً من أن يتم كشف أمرهما، سواء من طرف أفراد أسرهما أو زملائهما حتى.
تضيف هدى: "أتظاهر أنني صائمة طيلة اليوم، على الرغم من أن التعب يكون قد نال مني، فكلنا يعلم أن الدورة تحتاج إلى دعم وتغذية بشكل معين، وراحة".
"تربينا على أن نتكتم هذا الأمر، ونخبئه عن الأب والأخ، ونكتم آلامنا بداخلنا".
أما مريم فتقول: "في شهر رمضان الأمر يتعدى التظاهر بأنني أصلي، تربينا على أن نتكتم هذا الأمر، ونخبئه عن الأب والأخ، ونكتم آلامنا بداخلنا حتى لا يلاحظ أحد ذلك".
الضغط الذي تعيشه المغربيات خلال دوراتهن الشهرية قد يصل إلى "الهدر المدرسي"، تقول سارة بنموسى، من حركة "حاشاك"، لرصيف 22، إن الدورة الشهرية، تحرم العديد من الفتيات والنساء من الذهاب إلى مدارسهن وعملهن، خوفاً من اكتشاف الآخرين أنهن حائضات.
وأضافت سارة: "النساء في المغرب، خاصة في القرى، لسن محميات كما يجب، ويفضلن المكوث طيلة أيام دورتهن الشهرية في البيت، تفاديا لتسرّب دم الحيض إلى ملابسهن الخارجية في أماكن عمومية، في تاكسي أو حافلات النقل العمومي، وهو ما يتسبب في الهدر المدرسي، يعرقل تحرر المرأة في المغرب ويغذي اللامساواة بين الجنسين".
ترى هدى وأمينة أن ثقافة العيب و"الحشومة" جعلت النساء يخجلن من أشياء طبيعية في أجسادهن، على رأسها الدورة الشهرية، تقاطعها مريم مستطردة: "على الرغم من أن الدورة الشهرية تساهم في جعلنا جميلات، عندما تنتهي نحس بنضارة وإشراقة وجهنا".
إلا أن والدة هدى لها وجهة نظر خاصة في هذا الموضوع، فالمرأة الخمسينية تقول، وبعد أن استمعت إلى أحاديث مريم وهدى: "إنها تتذكر يوم الأول لبلوغها، عندما أخبرتها والدتها أنها الآن أصبحت امرأة، وهي لا تتجاوز 10 السنوات".
تضيف: "قالت لي يجب ألا أتحدث مع رجال، فبمجرد السلام عليهم، سأصبح حاملاً، ولكم أن تتخيلوا الضغط الذي عشته طوال شبابي".
تقول والدة هدى: "طيلة شبابي لم أتحدث مع الرجال، وعشت كابوساً حقيقياً، خلال فترتي الشهرية، مزحة ثقيلة من والدتي جعلتني أعيش ضغطاً لا يعلمه إلا الله".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...