أثار بيان صدر من وزارة التربية والتعليم المصرية، في نهاية أيلول/ سبتمبر الفائت، بالتزامن مع استقبال عام دراسي جديد، الاستنكار والتعجب، بسبب إعلانه عن فتح باب التطوّع للراغبين في الالتحاق بمهنة التدريس، من دون أجر، أو التعاقد بنظام الحصة، شرط عدم المطالبة بالتعيين ضمن موازنة الدولة، في ما بعد.
تساءل البعض: لماذا لم تقدم الوزارة على تعيين مدرسين جدد، طالما أن هناك عجزاً واضحاً في المدارس، مع وجود آلاف الخريجين الذين ينتظرون فرص عمل، في ظل الأعباء الاقتصادية المتراكمة؟ ولماذا تُعرض مبالغ ضئيلة للغاية (20 جنيهاً للحصة الواحدة)، ما يشير إلى استخفاف بكرامة المعلمين؟
تعيد هذه النقاشات صوراً عالقة في أذهاننا، منذ الصغر، رسّختها الأعمال السينمائية المصرية، حول المعلمين/ ات، بنماذجهم المختلفة، وتطرح تساؤلات حول كيف شكّلت السينما المصرية صورتهم في أذهاننا؟ وهل ساهمت في التقليل من الدور الذي يقومون به؟ أم على العكس، قدّرته، ورفعت من شأنه؟ وهل قدّمتهم كنموذج جيد، أم سيئ، بحيث يمكنهم بسهولة الاستغناء عن مبادئهم في سبيل جني الأموال، مثلما فعل مدرّس الفلسفة الذي أدى دوره أحمد زكي، في فيلم "البيضة والحجر"، حينما ترك التدريس، واتّجه نحو أعمال الشعوذة، بغرض الربح؟
مراحل تحول المدرّس في السينما المصرية
بدأ المخرج عز الدين سعيد، حديثه لرصيف22، بالإشارة إلى الصورة التي قدّمتها السينما المصرية للمدرّس، في مراحل مختلفة. ففي المرحلة الأولى، وهي فترة أفلام الأبيض والأسود، نرى صورة نمطية للمدرّس الذي يجلس في المنزل دائماً، مثل فيلم "قصر الشوق" (1967)، وفيه قدّم نور الشريف شخصية المدرّس كمال عبد الجواد، الذي فشل في الالتحاق بكلية الحقوق، ورمته الأقدار إلى كلية المعلمين، ووجد نفسه حبيس مهنة التدريس التي لا يحبّها. "مهنة المدرّس في ذلك الوقت كانت معيبةً، حتى أن والده لأمه، قال له: ‘أنت هتشتغل خوجه!’، كنوع من التقليل من أهميتها".
ويصف سعيد، المرحلة الثانية، خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، بمرحلة الانهيار الأخلاقي، التي قّدمت المدرّس بشخصيات ساخرة، بهدف إضحاك الجمهور، ومن دون معالجة للقضايا المتعلقة بالعملية التعليمية، مثل فيلم "على باب الوزير" (1982)، إذ يجسد عادل إمام، شخصية مدرّس يذهب لإعطاء درس خاص في منزل أحد الطلاب، وتطلب منه والدة الطالب مساعدتها في أعمال المنزل: "بعد ما تذاكر للواد، تعال قشّر معايا البامية".ثم يستعرض سعيد، المرحلة الثالثة مع بداية القرن الواحد والعشرين، التي جمعت بين الصورة النمطية للمدرّس، من حيث مظهره وأسلوبه، والسخرية منه، مثل فيلم "رمضان مبروك أبو العلمين حمودة"، (2008)، الذي لعب فيه محمد هنيدي شخصية رمضان المدرّس، الذي يظهر بشكل نمطي، ويسخر منه طلابه، ويضعونه في مواقف مهينة.
كيف شكّلت السينما المصرية صورة المدرّسين/ ات في أذهاننا؟ وهل ساهمت في التقليل من الدور الذي يقومون به، أم على العكس؟
التسرّب الدراسي والعنف واستغلال المهنة
يذهب السيناريست أحمد عبد الله، مؤلف سيناريو فيلمَي "الناظر" (2000)، و"200 جنيه" (2021)، وكلاهما تناولا شخصية المدرّس، إلى أهمية الدعم المعنوي والتحفيزي للطلاب، والتي ركز عليها "الناظر"، كمحاولة لمحاربة ظاهرة التسرّب من المدرسة، والتي كانت منتشرة في فترة عرض الفيلم.ويتابع عبد الله في حديثه لرصيف22: "استهدف فيلم الناظر مواجهة ظاهرة العنف مع الطلبة، وإيجاد حلول تتشابه مع حلول الدعم التي قدّمها الفيلم، كوسائل تجعل الطالب يحب المدرسة"، موضحاً وجود الكثير من المحاضر المسجلة في أقسام الشرطة، في مناطق مختلفة في مصر، لأولياء أمور يشكون فيها المدرّسين الذين اعتدوا على أبنائهم بالضرب، داخل الفصول.
ويشير السيناريست إلى تناول فيلم "200 جنيه" للشكل الحديث الذي طرأ على المدرّس، وأسلوب التدريس المرفوض الذي يحتاج إلى وقفةٍ من المسؤولين، وكذلك من أولياء الأمور، مستشهداً بشخصية المدرّس التي لعبها أحمد رزق، وهو يعدّ التدريس مجرد وسيلة لجني الأرباح: "رزق قدّم نموذج المدرّس الذي لا يحترم مبادئ مهنته، ولا تشغله قضية التعليم من الأساس، وكل ما يهمه هو الربح، وهذه الشخصية هي الواقع المحرج الذي نراه الآن".
كما عرض الفيلم العوامل التراكمية التي ذهبت بأولياء الأمور إلى أبواب الدروس الخصوصية، لافتاً إلى تكدّس الفصول، وغياب دور المدرّس داخل الفصل الدراسي، وتهديد المدرّسين للطلاب بالرسوب إذا ما امتنعوا عن حضور الدروس الخاصة، بالإضافة إلى قصر إمكانيات الراحة داخل الفصل.
الكوميديا الساخرة... هل تخدم الفكرة؟
على الضفة المقابلة، تتنوع الأعمال التي تناولت شخصية المعلم/ ة، بطريقة ساخرة، ويرى الناقد الفني أحمد سعد الدين، في حديثه لرصيف22، أن الرواية هي التي تحكم العمل الفني، سواء كانت ساخرة، أو درامية، أو غير ذلك، ويؤكد أن السينما المصرية لا تقصد تقديم أي مهنة في حالة ساخرة، لكن الطابع الساخر يغلب على الرواية نفسها، مشيراً إلى مسرحية "مدرسة المشاغبين" (1973)، التي غلب عليها الطابع الكوميدي، إلا أننا نرى فيها شخصية "عفت عبد الكريم" التي قدّمتها سهير البابلي، وهي مثال للمدرّسة الملتزمة الجادة.
ومن الشخصيات الكوميدية الأخرى، نرى الأستاذ حكم، عبد المنعم إبراهيم، في فيلم "السفيرة عزيزة" (1961)، الذي كان يعمل مدرّساً للّغة العربية، ويستخدم هذه اللغة في حياته اليومية بشكل يثير الضحك، ومثلها شخصية "ميس ميرفت"، إيمي سمير غانم، في فيلم "عسل أسود" (2010)، مدرّسة اللغة الإنكليزية، ذات المستوى الرديء.ينتقل سعد الدين، إلى شخصية "أبلة نجيبة" التي لعبتها ياسمين عبد العزيز، في فيلم "الثلاثة يشتغلونها" (2010)، ويعلّق عليها قائلاً: "ربما تكون شخصية مبالغاً فيها، إذ لا يوجد تنظيم شيوعي لطلاب في الصف الخامس الابتدائي، لكنها شخصية فنية، وليست حقيقية"، ويؤكد أن بعض الشخصيات الفنية التي تظهر في الأفلام، تأتي لخدمة رواية العمل نفسها، وتكون مقتبسةً من خيال الكاتب، وليس بالضرورة أن تكون واقعية.
من أهم الأفلام التي تناولت شخصية المعلّم، "غزل البنات" الحائز على تصنيف متقدم ضمن أهم مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، إلا أنه تناول إشكالي، إذ ينظر البعض إليه على أنه أظهر المعلم "حمام"، بشكل يليق بهذه المهنة، في حين يراه آخرون بأنه أساء إليها بشكل كبير
هل أساءت السينما المصرية إلى صورة المدرّس/ة؟
قد تصعب الإجابة عن هذا التساؤل بشكل حاسم، ففي حين يرى البعض أن هناك أعمالاً سينمائية "شوّهت" صورة المعلمين/ ات، يحرص آخرون على التذكير بأفلام أظهرت دورهم/ ن المهم جداً في حياة الطلاب/ الطالبات، وتكوين شخصياتهم/ ن."أقدّس دور المعلم، وأكنّ له احتراماً، وهناك العديد من الأعمال الفنية التي تركّز على هذا الدور، وعلى أهمية التعاون والتفاهم بين المعلمين والطلاب، وتأثير ذلك على مصيرهم"؛ بهذه العبارة بدأ نقيب المهن التمثيلية الدكتور أشرف زكي، حديثه لرصيف22، مستشهداً بفيلم "الست الناظرة" (1968).
يتحدث الفيلم عن الفتاة "هدى"، سعاد حسني، التي أساءت زوجة أبيها معاملتها، مما كان له أثر سلبي على نفسيتها، وتعاطفت معها ناظرة المدرسة "زهرة العلا"، واصطحبتها إلى منزلها. ومع محاولة الفتاة الانتحار، وجدت في الست الناظرة الملجأ النفسي لها، لتساعدها على استكمال دراستها في كلية الطب. "هذا الفيلم من علامات السينما المصرية"، يضيف زكي.
هل قُدمت المواد الفنية من أجل إضحاك الجمهور فحسب، من دون هدف حقيقي؟
ولعلّ من أهم الأفلام التي تناولت شخصية المعلّم، فيلم "غزل البنات" (1949)، الحائز على تصنيف متقدم ضمن أهم مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، إلا أن هذا التناول إشكالي أيضاً، إذ ينظر البعض إليه على أنه أظهر المعلم "حمام"، بشكل يليق بهذه المهنة، في حين يراه آخرون بأنه أساء إليها بشكل كبير.
ويحكي الفيلم قصة الأستاذ "حمام" الذي يعمل مدرّساً للّغة العربية، ويتعرض للطرد من المدرسة التي يعمل فيها، ثم يصبح مدرّساً خاصاً لابنة أحد الأغنياء "ليلى مراد"، ويقع في غرامها، ليعرف أنها على علاقة عاطفية بشاب آخر طامع في ثروتها، ثم ينجح في تخليصها منه.
"شخصية الأستاذ حمام من الشخصيات الفنية الخالدة"، يقول النقيب زكي، مشيراً إلى أن الفيلم تناول دور المدرّس بشكل يظهر أهميته في حياة طلابه، إلا أنه لا يمكن في الوقت نفسه، إغفال الاتهامات التي تُوجَّه إلى الفيلم، بأنه أساء إلى شخصية المعلم، مع عدّ سخرية الطالبات منه، نوعاً من الاستهزاء بقيمته. "في نهاية المطاف، هي شخصيات مقتبسة من الواقع، وفي كل مهنة نجد الصالح والطالح"، يضيف المتحدث.
"إنصاف غير كافٍ"
"لم تنصف السينما، ولا الدراما التليفزيونية، المدرّس/ ة بصفة عامة، إلا في آخر خمس دقائق من العمل الفني، عن طريق بيت الشعر: قم للمعلّم وفّه التبجيلا/ كاد المعلم أن يكون رسولا".بهذه الكلمات، انتقد المخرج حسين شوقي، خلال حديثه لرصيف22، الأعمال السينمائية التي قدّمت شخصية المدرّس، ولفت إلى الكثير من الصور التي برزت فيها شخصية المعلم بشكل سلبي: "قدّمت السينما المعلّم، إما على أنه انتهازي يجري وراء الدروس والمال، مثل شخصية "عبد الرحيم" جورج سيدهم، في فيلم "الشقة من حق الزوجة" (1985)، أو مدرّس مراهق يقع في غرام تلميذته، مثل شخصية "عبد المنعم صبري" التي أداها عبد الحليم حافظ في "فيلم شارع الحب" (1958).
"لم تنصف السينما، ولا الدراما التليفزيونية، المدرّس/ ة بصفة عامة، إلا في آخر خمس دقائق من العمل الفني، عن طريق بيت الشعر: قم للمعلّم وفّه التبجيلا/ كاد المعلم أن يكون رسولا"
هل تعمّد صناع السينما تشويه صورة المدرّس؟ "بحسن نية، وجهل في الوقت نفسه"، يجيب شوقي، ويلوم سوء المعالجة الفنية التي أخفق فيها بعض صنّاع السينما، إذ لم ينتبهوا إلى خطورة سقوط القيم التربوية التي تتعلق ببعض الأعمال الفنية المتناوِلة شخصية المعلم، فهو يرى أن التشويه لم يكن مقصوداً بالأساس، لكنه حدث من دون وعي، أو إدراك، ويبرر مصدر التشويه قائلاً: "غالباً ما يكون دور المدرّس نمطياً، لا غنى درامياً فيه، فيضطر المؤلفون إلى تحويله، حتى يقبل النجوم تأديته".
نهايةً، إن كانت السينما المصرية قد قدّمت صوراً واقعية لبعض النماذج السلبية في القطاع التعليمي، فهل سيكون هناك رد فعل من قبل أولياء الأمور، أو المسؤولين، للوقوف على تلك السلبيات ومعالجتها؟ أم أن هذه المواد الفنية قُدِّمت من أجل إضحاك الجمهور فحسب، من دون هدف حقيقي؟
هل ينتبه المسؤولون عن المؤسسات التعليمية، إلى أخطاء بعض المعلمين، الذين يمتنعون عن الشرح داخل الفصول، ويطلبون من الطلاب الحضور في دروس خاصة مقابل النجاح، ما يستنزف جيوب أولياء الأمور؟ وهل يعمدون إلى سن قوانين تجرّم الدروس الخصوصية في مراحل التعليم الأساسية؟ وهل يساهم أولياء الأمور مع المسؤولين، عن طريق الشكوى ضد أي شخص يشارك في إفساد العملية التعليمية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 15 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 16 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت