لم تكن لمياء محمد تعلم أن التحاق طفلها يوسف المصاب بالتوحد، بأحد مراكز التأهيل، سيكون سبباً في نكبته لسنوات، بعد تعرضه للتعذيب لنحو عشرة أشهر داخل المركز الخاص الواقع في محافظة دمياط شمال مصر. نتيجة هذا التعذيب فقد طفلها النطق، كما بات أكثر عدوانية تجاه أشقائه، والآخرين. حاولت لمياء علاجه على يد أطباء نفسيين، إذ ظل بسبب تلك النكبة حجيز منزله عاماً ونصف العام، لا يبرحه، زيادة على عدم تحدثه مع أسرته، أو مناداته لوالدته ووالده باسميهما، كما كان يفعل قبل ذلك.
تروي السيدة تفاصيل ما حدث مع ابنها ذي الاثني عشر عاماً، خلال لقاء مع رصيف22: "كانت حالته مستقرة، وتتحسن بالمتابعة الطبية والتأهيلية، وحين حملت بثلاثة توائم، تولى زوجي أمر اصطحابه إلى مركز تأهيل يحمل اسم "ا.ا." في محافظة دمياط، وذلك في شهر أيلول/ سبتمبر 2014.
ابني كان طبيعياً ويتودد للجميع، لكنه تغير بعد أن ذهب إلى المركز، وبدأت تظهر عليه أمور غريبة، كعدم تفاعله مع أحد، وعدم النطق، والفزع غير المبرر من الجميع. لمرتين متتاليتين فوجئت بعودته، وقد خُلع اثنان من أسنانه، والتصق بالحائط، وكأنه يحاول إخفاء نفسه. سألت نفسي مراراً وتكراراً ماذا يحدث لصغيري؟ وقلت لزوجي: ابننا يتعرض للضرب في المركز، فلم يصدق، وكان رده: ‘مش ممكن. إزاي طفل متوحد يتعرض للضرب بمركز تأهيل’؟".
سِجلُّ تعنيف أطفال في مراكز ذوي الإعاقة في مصر يضم عشرات الحالات التي لم تحصل على حقها وتدهورت حالتها الجسدية والنفسية.
ذات يوم، فوجئت لمياء بمكالمة من ولية أمر طفل يرتاد المركز نفسه، أخبرتها خلالها بأن ابنها يُضرب باللكمات هناك. "صُعقت، وأخبرت زوجي ليقرر منع ابننا من الخروج من المنزل، أو الذهاب إلى أي مركز شهوراً عدة، خشية تعرضه للضرب مجدداً، وحين ذهب لمواجهة المسؤولين عن المركز بما حدث لابننا، أنكروا".
حاول الأهل بعد ذلك علاج ابنهم في مركز تأهيل آخر، "لكن للأسف لم يعد طفلنا كما كان عليه من قبل، إذ بات يصرخ، ويسد أذنيه، كلما سمع صوتاً مرتفعاً. وفي حال سماعه صوتاً في الشارع تتحول، حياتنا إلى جحيم، ويخاف لو حاول أحد أشقائه المزاح معه، بل بات يتعدى عليهم بالضرب، ويؤذي نفسه أيضاً".
الوضع ذاته تكرر مع نغم نبيل، وهي طفلة مصابة بالتوحد. وتروي والدتها التفاصيل لرصيف22: "فوجئت حين عودة ابنتي من مركز تأهيل "ص.ا." في المرج في محافظة القاهرة، بوجود جروح في يدها، وبعد أيام تكرر الاعتداء عليها مع وجود علامات ضرب على فخذها، ووجهها. قال لي مسؤولو المركز إن الأمر قد يكون نتيجة حساسية، وعدّوه عادياً، وحدثتني المديرة عبر الهاتف بشكل مسيء، وأغلقت الخط، وأخبرتني بأنها ما عادت تريد ابنتي لديهم".
لجان للتحقيق
مع عدم تقديم أهل يوسف أي شكوى عند معرفتهم بتعرض ابنهم لحالات الاعتداء تلك، تواصلت معدة التحقيق مع مديرية التضامن الاجتماعي، وتشكلت لجنة للتحقيق بما حدث، وتم استدعاء والدة الطفل، ومالكة مركز التأهيل، مع زيارة اللجنة للمركز، بداية تموز/ يوليو الحالي.
وذكر حسام عبد الغفار، وكيل وزارة التضامن الاجتماعي في محافظة دمياط في تصريح لرصيف22 أن المديرة أنكرت واقعة تعذيب يوسف، مشيرة إلى معاملتهم الحسنة للأطفال، وأن المركز مرخص، ويخضع لإشراف مديرية التضامن الاجتماعي، وأفادت المديرية في رد مكتوب حصل رصيف22 على نسخة منه: "نحن كمديرية تأهيل تابعة لمديرية التضامن، الجهة المشرفة بتوجيه الإرشادات لإدارة المركز السالف ذكره، وبعد التحقيق معهم في واقعة الطفل يوسف، تلزمهم بحسن استقبال الأطفال وأسرهم، ومعاملتهم معاملة لائقة، وتقوية العلاقات بين الدار وأسر الأطفال، وتنميتها، والتعرف إلى المشكلات الاجتماعية التي تواجه أسر الأطفال، ومعاونتهم".
"للأسف لم يعد طفلنا كما كان عليه من قبل، إذ بات يصرخ، ويسد أذنيه، كلما سمع صوتاً مرتفعاً. وفي حال سماعه صوتاً في الشارع تتحول، حياتنا إلى جحيم، ويخاف لو حاول أحد أشقائه المزاح معه، بل بات يتعدى عليهم بالضرب، ويؤذي نفسه أيضاً"
أيضاً، شكلت إدارة المرج الاجتماعية لجنة للتفتيش في ملابسات واقعة ضرب الطفلة نغم، وقالت نادية كمال مديرة الإدارة لرصيف22: "المركز مرخص، ويخضع لإشرافنا، وقمنا بالتفتيش عليه لاتخاذ اللازم في شأنه، وضبط أي مخالفات قد يتم رصدها، وقد نفى المسؤولون أي اعتداء على نغم. لدينا تعليمات مشددة بعدم التعدي على ذوي الإعاقة، وأي مخالفة يتم التحقيق فيها، واتخاذ اللازم قانوناً ضد مرتكبيها".
اعتداء بالضرب والحرق
سِجلُّ تعنيف أطفال في مراكز ذوي الإعاقة في مصر، لا يضم يوسف ونغم فحسب، وفق ما رصده رصيف22. شهد مسعد (16 عاماً)، مصابة بمتلازمة داون، وثقوب في القلب، تعرضت هي الأخرى للعنف على يد معلمتها.
تروي أمل طاهر، والدة شهد، قصتها لرصيف22: "خلال دراسة ابنتي في مدرسة دمج في محافظة دمياط، أمكستها معلمة اللغة العربية من شعرها، وضربت رأسها بالمقعد الخشبي. تقدمت بشكوى إلى مدير المدرسة، بينما رفضت ابنتي الذهاب إلى أي مدرسة مجدداً، وساءت حالتها الصحية والنفسية، فألحقتها بمركز تأهيل".
في المقابل، قال مصدر مسؤول في مديرية التربية والتعليم لرصيف22، رافضاُ ذكر اسمه: "لم نتلقَ أي شكاوى رسمية تفيد بتعرض الطفلة شهد للاعتداء بالضرب".
واتهمت رضا محمد، ولية أمر محمود محمد، مديرة إحدى المدارس الداخلية لتعليم ذوي الإعاقة، بالتعدي على ابنها، وحرقه بالنار في وجهه، ورأسه، في محافظة أسيوط في صعيد مصر. وقالت الأم في التحقيقات التي اطلع رصيف22 عليها، وعلى تقرير الطب الشرعي، إنها في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، ذهبت لتنظيف المدرسة التي سيلتحق بها طفلها، وترتيبها بمعاونة بعض الأهالي، إذ وجدوها غير مجهزة كفاية لاستقبال أطفالهم، وصوّرت مقطع فيديو قبل التنظيف وبعده، فإذ بموظفي المدرسة يعتدون على طفلها بالضرب، والحرق في الوجه، بمغرفة الطعام.
"خلال دراسة ابنتي في مدرسة دمج في محافظة دمياط، أمكستها معلمة اللغة العربية من شعرها، وضربت رأسها بالمقعد الخشبي. تقدمت بشكوى إلى مدير المدرسة، بينما رفضت ابنتي الذهاب إلى أي مدرسة مجدداً، وساءت حالتها الصحية والنفسية"
وأشارت الأم في تحقيقات النيابة إلى تهديدها من قبل إدارة المدرسة للتنازل عن الدعوى، في حين أرجعت الإدارة سبب الحرق، لوقوع إناء طهي الطعام على الطفل، فيما أكد تقرير الطب الشرعي "تعرض الطفل لحرق في الوجه من الناحية اليمنى، وأسفل الأذن اليمنى، ومقدمة الرأس، بسبب كبشة طعام".
وفي عام 2019، تلقى مركز شرطة منية النصر في محافظة الدقهلية، بلاغاً يفيد بتعرض طفل مصاب بمتلازمة داون، للضرب والتعذيب على يد معلم في حضانة خاصة. ووفقاً للبلاغ المقدم من أسرة الطفل هشام محمد، ذي الأعوام التسعة، "قام أحمد ج. مدرس التربية الرياضية في الحضانة التي يدرس فيها الطفل، بالتعدي على ابننا بالضرب المبرح ما أدى به إلى النزف".
وأفاد مدير الحضانة أحمد أبو العزم في تحقيقات الشرطة التي اطلع رصيف22 عليها: "في نهاية اليوم الدراسي، لاحظنا تألم الطفل، ووجود إصابات في جسده، وتعرضه للنزف، وعند سؤاله أفاد بقيام المعلم بارتكاب الواقعة، وعرفنا أن السبب هو اعتقاد المعلم بأن الطفل يوجه إليه إساءة لفظية، فضربه، وفر هارباً".
ومن أواخر حوادث الاعتداء التي اطلع عليها رصيف22 بشكل مباشر، ما حدث في إحدى جمعيات الأيتام في محافظة المنوفية، في التاسع من تموز/ يوليو الجاري، إذ اعتدى أحد الموظفين على طفل من ذوي الإعاقة داخل أحد الحمامات، ما أسفر عن إصابة الطفل بجروح. وقد تبلغ قسم الشرطة في المنطقة بالأمر من قبل رئيسة مجلس الإدارة، وتبين أن الأمر وقع فعلاً من قبل أحد سائقي الجمعية.
الرقابة المشددة ضرورية
جاء القانون رقم 10 لسنة 2018 في شأن قانون حماية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، ليكفل لهم صور الرعاية كلها، مع مراعاة أحكام قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996 وتعديلاته، إذ عدّ الشخص، والطفل ذا الإعاقة، معرضاً للخطر في أية حالة تهدد احترام كرامته الشخصية، واستقلاله الذاتي، والتمييز ضده.
يعاقب قانون حماية حقوق ذوي الإعاقة كل من يعرّض شخصاً ذا إعاقة لحالة خطر بالحبس أو الغرامة أو كليهما.
ويعاقب كل من يعرّض شخصاً ذا إعاقة لإحدى حالات الخطر الواردة في المادة 44 من القانون، بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه، ولا تجاوز الـ50 ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين.
المحامي بالنقض صلاح بخيت، سبق وترافع عن وقائع تعذيب أطفال ذوي إعاقة، داخل مراكز تأهيل في القاهرة، يطالب في حديثه لرصيف22 "بالرقابة على مراكز التأهيل من قبل وزارة التضامن. تبدو هذه المراكز وكأنها جزر منعزلة، والوزارة في وادٍ آخر، مما يستلزم تشديد الرقابة عليها، ومنح موظفي الوزارة الصلاحية ليتعاملوا مع تلك الوقائع بحزم، والتفتيش الدوري على المراكز، ونقل كل موظف تطول فترة عمله، كي لا يعدّوا أن تلك المؤسسات باتت ملكاً خاصاً بهم". ويبلغ عدد الجمعيات التي تعمل في قضايا ذوي الإعاقة، وتمكينهم في مصر، 4500 جمعية، تنظم عملها وزارة التضامن، في حين يشكل ذوو الإعاقة زهاء 10% من سكان مصر.
في المقابل يشرح وكيل الوزارة حسام عبد الغفار في حديثه: "يتم التحقيق في أي بلاغ يخص واقعة اعتداء على ذوي الإعاقة، بواسطة إدارة التأهيل، ومجازاة من قام بالواقعة وفقاً للائحة المكان"، ويضيف: "لو كان مركز التأهيل غير مرخص، يأخذ إنذاراً أولاً، وثانياً، وثالثاً، ويتم إبلاغ الشرطة لإغلاقه. أما مدارس الدمج فتتبع مديرية التربية والتعليم، وهي الجهة المكلفة ببحث الشكوى".
وأطلق المجلس القومي للأمومة والطفل في مصر عام 2005 "خط نجدة الطفل"، وهو يهدف إلى إنقاذ الأطفال من أشكال العنف الموجه ضدهم كلها، ويعمل بشكل مجاني 24 ساعة طوال أيام الأسبوع، لتلقي البلاغات الخاصة بالأطفال من عمر يوم، وحتى 18 عاماً. ووفق تصريحات مدير خط النجدة صبري عثمان، تلقى الخط العام الفائت 11،761 بلاغاً بتعرض أطفال للخطر، أو للموت.
ويتلقى الخط البلاغات الخاصة بالعنف المدرسي، بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم، ويقدم الخدمات الصحية، والاستشارات النفسية، بالتعاون مع وزارة الصحة، وأيضاً خدمات إيواء أطفال الشوارع، والتفكك الأسري، من خلال دور الرعاية التابعة لوزارة التضامن، مع تقديم خدمات الإرشاد النفسي الخاص بالأطفال.
وتواصل رصيف22 مع المجلس القومي للأمومة والطفولة، ورئيس خط نجدة الطفل، للاستعلام عن عدد بلاغات الاعتداء على الأطفال ذوي الإعاقة، وأشكال الاعتداء، لكن لم يحصل على أي رد حتى تاريخ نشر التحقيق.
"تبدو هذه المراكز وكأنها جزر منعزلة، والوزارة في وادٍ آخر، مما يستلزم تشديد الرقابة عليها، ومنح موظفي الوزارة الصلاحية ليتعاملوا مع تلك الوقائع بحزم، والتفتيش الدوري على المراكز"
آثار لا تمحى
وعن آثار هذه الحالات المتكررة بالضرب والاعتداء، تقول الأستاذة المساعدة لطب الأطفال واستشارية أمراض وراثة الإكلينيكية في جامعة الزقازيق وسام عبد المنعم: "نتيجة تعرض الأطفال ذوي الإعاقة للاعتداء، يعودون إلى الوراء بعد أن يكونوا قد قطعوا أشواطاً في مراحل علاجهم".
وتضيف عبد المنعم في حديثها لرصيف22: "لو كان التعدي حدث بشكل موقت، يمكن تخطي الأزمة بتكثيف العلاج، والإرشاد النفسي. لكن ليس من السهل عودة الشخص إلى ما كان عليه من قبل، طالما أن فترة العنف كانت طويلة، وتركت أثراً نفسياً لا يمحى بسهولة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون