شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
ممثلون خرجوا عن النص فحفظتهم ذاكرة المسرح... الارتجال بين الذكاء والابتذال

ممثلون خرجوا عن النص فحفظتهم ذاكرة المسرح... الارتجال بين الذكاء والابتذال

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 4 نوفمبر 202010:20 ص

هي لحظات ينتظرها الجمهور حين يتخلى نجوم كوميديا على المسرح عن حذرهم فيرتجلون كاشفين عن جانب آخر من شخصيتهم المسرحية، خارج النص المعتمد، وعندما تنطلق ضحكات الجمهور في الصالة يعني أن الفنان حقق هدفه وأن المسرحية اكتسبت المزيد من النجاح والجمهور. هكذا يكون الارتجال بمثابة اتفاقية غير معلنة بين الممثل والجمهور، لكنه مع ذلك قد يفقد قيمته وينقلب على الممثل لو لم يُجِد الأخير استخدامه أو افتقد المهارة اللازمة للقيام به.

بداية الارتجال ومعناه

يعود تاريخ الارتجال على المسرح المصري لسنوات طويلة، وهو فعل لحظي وأداء حي غير متفق عليه يكون وليد الحدث ويعتمد فيه الفنان على ذكائه وفطرته، فيرتجل منتظراً النتيجة من ردة فعل الجمهور.

في بداية العشرينيات، ظهر المسرح الغنائي في مصر مع وصول الفنان جورج أبيض من فرنسا، وبزوغ نجم الفنان سلامة حجازي وسيد درويش، فبدأ المسرح يأخذ شكلاً جديداً وإن لم يخلُ الأمر أبداً من ارتجال مقنن.

ذاع صيت الفنان نجيب الريحاني وزميله ومنافسه علي الكسار في بداية القرن العشرين، عندما قدما مسرحيات كوميدية هادفة فيها كان الارتجال تلقائياً يحدث على استحياء، ولا يأخذ إلا ثوان معدودة.

مع بدء تأسيس المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1944، ظهر نجوم مسرحيون جدد ومخرجون ومنهم سعد الدين وهبة، وكرم مطاوع، وجلال الشرقاوي، وعبد المنعم مدبولي، وفؤاد المهندس وغيرهم، وكانوا يميلون للطابع الجدي ولضرورة الالتزام بالنص، فاقتصر الأمر على خروج "إفّيه" تفرضه الظروف دون أي تخطيط مسبق أو تجاوز.

يتحدث المخرج المسرحي والممثل مازن الغرباوي لرصيف22 عن بدايات الارتجال، فيقول: "وُجد منذ بداية المسرح، حيث بدأ يظهر بقوة في المسرح العالمي عند بريخت والمسرح الألماني وظهور نظرية الملحمية، وفي مصر كان يقدم في البداية على استحياء في جمل بسيطة ثم انتشر بشكل واسع في السبعينيات".

ويشير الغرباوي وهو كذلك رئيس "مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي" عن أهمية الارتجال بالنسبة للممثل، فيشرح: "الارتجال يكشف عن موهبة الممثل الفنية لكن لا يصح أن يكون مطلقاً، إذ له شروط يجب الالتزام بها وينبغي أن يحصل بتنسيق بين الممثل والمؤلف والمخرج أيضاً، فلو لم يتمتع الفنان بالموهبة الكافية لانقلب الأمر عليه وتسبب بفشل العمل".

مشاهد لا تُنسى

مع بداية السبعينيات، حدثت طفرة كبيرة في المسرح، فأصبح يعتمد بصورة أكبر على الإضحاك دون هدف محدد، وظهر في هذه الفترة وما بعدها عدد كبير من نجوم الكوميديا الذين اعتمدوا على الارتجال لإضحاك الجمهور ومنهم عادل إمام، ومحمد صبحي، وسعيد صالح، ويونس شلبي، وسمير غانم، وسيد زيان، وسهير البابلي، ونجاح الموجي، والمنتصر بالله وغيرهم.

يعلق المؤلف المسرحي والروائي خالد الجزار بالقول: "الارتجال له ظروفه وشروطه طبعاً، لكنه قد يصبح ضرورة في بعض الأوقات، كما عندما يشعر الممثل أن النص ليس قوياً أو فيه نواقص فيقوم ببعض الإضافات، أو لو نسي ممثل كلامه يقوم ممثل آخر بالارتجال لتجاوز الموقف".

ويضيف الجزار في حديثه لرصيف22: "الارتجال لا يتم بشكل عشوائي، فمثلاً لا يصح أن يلقي فنان يقوم بدور متشائم إفّيه مرتجل تفاؤلي، لأن الارتجال يجب أن يتسق مع طبيعة الدور كي لا يخل به".

يُفرّق المؤلف المسرحي والروائي السيد فهيم بين الارتجال والابتذال، فيقول لرصيف22: "هناك خيط رفيع فاصل بين الارتجال من جهة والخروج عن النص والابتذال من جهة أخرى، فالأول هو إضافة جملة أو كلمة في سياق العمل ومن نسيج الشخصية وتركيبتها النفسية والسوسيولوجية ويعد إضافة للعمل، أما الثاني فهو فصل المتلقي عن الجو العام للعمل وخروج الممثل عن سياق الحدث والشخصية التي يؤديها، فيما يدخل في إطار الابتذال عندما يخرج عن النص بلفظ أو فعل ينافي القواعد العامة بهدف استجداء ضحكة أو نجاح من الجمهور".

ويتحدث فهيم عن التنسيق بين صانعي العمل المسرحي، موضحاً: "العرض المسرحي في الأساس هو مشروع جماعي يبدأ من الفكرة التي يترجمها المؤلف إلى جمل حوارية وحبكة درامية من خلال إطار يصلح للعرض على الجمهور، ثم يأتي دور المخرج في تحويل النص المكتوب إلى عرض حي من خلال أدواته وتقنياته ورؤيته لمعطيات المؤلف".

"عادل إمام واحد من أهم الفنانين الذين لديهم قدرة عالية على الخروج عن النص بسلاسة لا يشعر الجمهور بها، حيث يعرف متى يخرج ومتى يعود لامتلاكه قدرات فنية كبيرة، رأيناها مثلاً في مسرحية الواد سيد الشغال"... خيط رفيع فاصل بين الارتجال من جهة والابتذال من جهة أخرى

يردف فهيم قائلاً: "يعد الممثل أهم وأخطر هذه الأدوات على الإطلاق، فهو اللسان الناطق بالفكرة والمجسد الواقعي لشخصيات المؤلف التي رسمها في خياله. من هذه النقطة ننطلق للإجابة على إشكالية الارتجال، فهو أمر غير جديد على المسرح لكن بشروط وأسس يتفق عليها الممثل وربما يتدرب عليها أثناء البروفات بالتنسيق مع المخرج والمؤلف، علماً أنه يتطلب موهبة حقيقية من الممثل وسرعة بديهة وقدرة على التفاعل مع الجمهور الذي يتغير كل ليلة عرض وربما يتغير معه مزاجه وطريقة تقبله للجمل المرتجلة".

"الزعيم" و"الواد سيد الشغال"

خلال مسرحية "الواد سيد الشغال" التي تم عرضها عام 1985، خرج الممثل عادل إمام عن النص في مشهد شهير له مع الفنان عمر الحريري، ليتحول ذلك الخروج إلى مشهد ثابت يثير ضحكات الجمهور عند تكراره.

وكرر "الزعيم" الخروج عن النص في المسرحية نفسها مع الفنان الراحل مصطفى متولي، في مشهدهما الشهير الذي طالب فيه متولي إمام أن يكف عن إضحاكه ليستطيع استكمال المسرحية.

يذكر الغرباوي بعادل إمام في إطار الحديث عن القدرات الكبيرة للخروج على النص، ويقول: "عادل إمام واحد من أهم الفنانين الذين لديهم قدرة عالية على الخروج عن النص بسلاسة لا يشعر الجمهور بها فيعرف متى يخرج ومتى يعود لامتلاكه قدرات فنية كبيرة، رأيناها مثلاً في مسرحية الواد سيد الشغال ومسرحية الزعيم، ويماثله في ذلك الفنان محمد صبحي".

يتفق فهيم مع الغرباوي في الرأي عند الحديث عن عادل إمام، فيقول: "هو حالة فذة لتمكن الممثل وثقته بنفسه وتفاهم فريق العمل معه وتفهمهم للمناطق التي يشرع فيها النجم في الارتجال دون الخروج عن سياق الشخصية والأحداث".

ويختلف الخروج عن النص عن الارتجال، وهذا ما أوضحه المخرج المسرحي عمرو قابيل في حديثه لرصيف22 بالقول: "الارتجال يحدث بصورة تلقائية عفوية تماماً وغير مخططة، بينما الخروج عن النص يكون بالاتفاق بين الممثل والمخرج وأحياناً المؤلف، وذلك على قول إفّيه يتوقع الممثل أنه سيضحك الجمهور، ثم يقوم بتكراره في كل عرض، وبالتالي لا يمكن وصف ذلك بأنه ارتجال".

"تخاريف" محمد صبحي

قدم الفنان المصري محمد صبحي من خلال مسرحية "تخاريف" التي تم إنتاجها عام 1989، والتي شارك بها كبار النجوم وعلى رأسهم الفنانة هناء الشوربجي، مشهداً ارتجالياً مع الأخيرة.

يرى الجزار أن "محمد صبحي يتبع طريقة مختلفة في أعماله، فعندما كان الكاتب المسرحي لينين الرملي يقدم له النص كان يدرسه برؤية فنية مختلفة، ويبدأ يراجع النص بصفته مخرجاً وممثلاً، وعندما يقترح عليه ممثل أو تكون له رؤية للخروج عن النص يتم ذلك بالاتفاق معه وبالتنسيق مع المؤلف".

سهير البابلي وأحمد بدير

شهدت مسرحية "ريا وسكينة" التي تم عرضها عام 1982، وشارك في بطولتها الفنانة شادية وسهير البابلي وعبدالمنعم مدبولي، أحد أشهر المشاهد الارتجالية منذ بداية المسرح الحديث، والذي جمع بين الفنانة سهير البابلي والفنان أحمد بدير.

أحمد بدير تحدث عن هذا المشهد وقال في تصريحات سابقة له إنه كان عائداً من السفر وكان يشعر بجوع شديد فأكل حتى شعر بالشبع متناسياً المشهد تماماً، ما جعل سهير تثور عليه.

يقول قابيل: "استطاعت سهير البابلي أن تلفت الأنظار بذكائها وتعاملها مع تصرف أحمد بدير الغريب عليها، فتصرفت بمهارة وذكاء فني ونجحت في إضحاك الجمهور ويعتبر المشهد من أشهر مشاهد الارتجال".

مهارة سناء يونس

في عام 1980، تم عرض مسرحية "سك على بناتك" التي شارك في بطولتها إلى جانب الفنان فؤاد المهندس محمد أبو الحسن، وسناء يونس وأحمد راتب.

في المسرحية، جمع مشهد شهير فؤاد المهندس بالفنانة سناء يونس، حيث كانت تستعرض الرجال الذين تقدموا لخطبتها أمام محمد أبو الحسن الذي لعب دور زوجها بالمسرحية، ثم فوجئ فؤاد المهندس بذكرها لاسمه، فتعامل مع المشهد بحرفية شديدة.

يتحدث الجزار عن فؤاد المهندس في هذه المسرحية قائلاً: "عرف كيف يفرش الإفّيه للفنانة إسعاد يونس وهو من بين قلة من كبار نجوم الكوميديا الذين يتركون المساحة لظهور نجوم آخرين، ويعلمون تمام العلم أن كل ذلك سيكون في صالح العمل ويعود بالنفع على الجمهور في نهاية الأمر".

الجمهور والمشاغبين

تعد مسرحية "مدرسة المشاغبين" التي تم عرضها عام 1973، من أقوى وأشهر الأعمال المسرحية في هذه الفترة، إذ شارك في العمل عدد من كبار النجوم ومنهم سعيد صالح، ويونس شلبي وعادل إمام.

ورغم أن الراحل سعيد صالح لم يكن ذي شهرة واسعة وقتها لكن المشهد الشهير الذي خرج فيه عن النص إلى جانب الفنان عادل إمام والفنانة سهير البابلي حقق شهرة كبيرة.

بدوره، قدم الفنان يونس شلبي في المسرحية نفسها عرضاً مميزاً، فكان له مشهد شهير خرج فيه عن النص جمعه بالفنان سعيد صالح، واستغل فيه يونس قدرته على تكرار المقاطع في إضحاك الجمهور.

مشاهد أخرى

قدم الفنان نجاح الموجي عام 1987 مسرحية "خد الفلوس واجري"، وشارك في بطولتها الفنان حسن مصطفى وميمي جمال. خرج الموجي عن النص في أحد المشاهد التي جمعته بالفنان حسن مصطفى والفنان محمود القلعاوي، فضج المسرح وقتها من ضحك الجمهور.

وخلال عرض مسرحية "علشان خاطر عيونك" عام 1987، كان هناك مشهد شهير للفنان محمود الجندي جمعه بالفنانة الاستعراضية شريهان، وخرج فيه عن النص.

وفي المسرحية نفسها، خرج الفنان فؤاد المهندس في حوار مع الفنان المنتصر بالله عن النص، فجاراه المنتصر بذكاء بالغ.

يتحدث الممثل المسرحي محمود الشبراوي عن أهمية الارتجال للممثل، فيقول في تصريحات لرصيف22: "الارتجال جزء مهم من موهبة الممثل سواء كان ارتجالاً مطلقاً أو بشروط، والارتجال المطلق مطلوب لتنمية مهارة الممثل وتنشيط قدرته الإبداعية وخياله وهذا ممكن أن يحصل في التدريب أو من خلال ما يطلق عليه ورشة إعداد الممثل".

ارتجال أم ابتذال؟

رغم أن الجو العام السائد يؤيد الارتجال، خاصة أنه يفرض نفسه على الواقع المسرحي إلا أن البعض يرفضه، خاصة عندما يتجاوز الحدود ويتخطى القوانين الثابتة.

"يخرج الأمر في بعض الأوقات عن الحد المسموح به ليصل إلى تدخلات شخصية وإّفيهات سطحية مبتذلة تستهدف فقط الإضحاك"... رغم أن الجو العام السائد يؤيد الارتجال، خاصة أنه يفرض نفسه على الواقع المسرحي، إلا أن البعض يرفضه، خاصة عندما يتجاوز الحدود ويسقط في الابتذال

الفنانة المصرية وسيدة المسرح سميحة أيوب تحدثت عن الارتجال قائلة في لقاء لها على "نجوم أف أم": "فيه مسرح اسمه المسرح الارتجالي لكنه غير موجود عندنا... ليس أي مسرح تقليدي تطلعي ترتجلي وتفاجئي الناس إلا لو كان أي كلام، واللي بيرتجلوا هما مش عارفين إيه المسرح وطالعين يعملوا اسكتش ومضحكاتية للناس والناس تضحك لأن دمهم خفيف والناس تضحك للحظة وتخرج ناسية كل حاجة".

الممثل والمخرج المسرحي الراحل عبدالرحيم الزرقاني رفض أيضاً الخروج عن النص، وشرح ذلك بالقول: "لكل كلمة في العمل الأدبي إيحاؤها ولكل كلمة جرسها‏ وكما أنه لا يستقيم أن تستبدل كلمة بكلمة في الشعر‏، كذلك في النثر وفي الدراما، لا يستقيم أن تفعل ذلك".

وبالعودة إلى الكلام مع المخرج المسرحي عمرو قابيل، فهو ينتقد ما يحدث على بعض المسارح من خروج مبالغ فيه عن النص، فيقول: "يخرج الأمر في بعض الأوقات عن الحد المسموح به ليصل إلى تدخلات شخصية وإفيهات سطحية مبتذلة تستهدف فقط الإضحاك، فيسقط الموضوع في الابتذال".

في المقابل، يرفض الممثل المسرحي محمود الشبراوي تقييد الارتجال بالمطلق، إذ يعتبر ذلك برأيه تكبيلاً لجزء مهم جداً في موهبة الممثل وهو خياله، و"رفض الارتجال بهذا الشكل يولد طاقة سلبية للمثل الذي له الحق في تناول الشخصية وتخيلها وتخيل انفعالاتها".

يتفق الغرباوي مع الشبراوي بالإشارة إلى أن "رفض الارتجال بشكل مطلق يكون مقيداً للفنان ولا يصح، لكن هناك بعض العروض التي لا يسمح فيها النص بالارتجال".

من جهة أخرى، يشير الكاتب المسرحي السيد فهيم إلى خوف الممثل من الارتجال أحياناً، فـ"الارتجال يلزمه موهبة فذة وسرعة بديهة وقدرة على التكيف والتفاعل مع أنماط الجمهور المختلفة، لذلك يخشى كثير من الممثلين السقوط في هذا الفخ فيؤثرون السلامة، في حين لا يقبل مخرجون كثر بأن يخرج الممثل عن الخطة المرسومة مسبقاً أثناء البروفات، وهو قرار يحسب لهم لا عليهم".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image