باستخدامهم المظلومية السنّية، يُخرج سوريون كثر أيّ نقاش حول أوضاع البلاد، عن السياسة، ويدرجونه سريعاً في الثأر والانتقام، حيث لا حلول ولا تسويات، وإنّما دمّ يستدعي دماً مقابلاً.
والخروج عن السياسة هنا ليس محواً كلياً لها، بل لجعلها امتداداً للثأر، خادمةً عنده، وظيفةً لتنفيذه، بمعنى تجريد السياسة من كونها مؤسسات ودساتير وقوانين وانتخابات ومنافسةً حزبيةً وقضاءً ورأياً عاماً وصحافةً ومجموعات ضغط ومجتمعاً مدنياً، وتقليصها إلى حدود بناء سلطة، هي في مخيال مؤيّديها "المظلومين"، أداة ثأر. والأخير يتدرج من طلب فردي للقتل انتقاماً لقتل سابق، مروراً بتهميش وقمع طوائف وإثنيات وشيطنة السنّي غير النمطي، وصولاً إلى احتكار مطلق للسلطة. وانطلاقاً من تركيبتها الحالية، من ميليشيات منفلتة وقوى سلفية ومجموعات "فزعة"، فإنّ قوى الأمر الواقع الحاكمة تؤمّن تحقيق درجات الثأر هذه، وإن في أوقات متفاوتة، وتحت ذرائع مختلفة.
لكنها، في الوقت ذاته، تحرم السنّة، بتنوعهم الواسع في سوريا، من إمكانية الذوبان في أبنية التمثيل السياسي المفترض تأسيسها، ونظام المصالح الناتج عنها، وتحيلهم إلى جماهير تجري تعبئة أجزاء منهم عند الحاجة. وما حصل في السويداء ضد الدروز، وفي الساحل ضد العلويين، مثالان واضحان على ذلك.
من نتائج اللاسياسة واللاتاريخية، تحوّل المظلومية السنّية إلى دين يوظّف الضحايا الذين سقطوا في السجون والقصف والبراميل المتفجرة، ويحيلهم إلى مادة تُستخدم كقرينة على سردية المظلومية، أو ككتل شعبوية يجري تحشيدها لشنّ حرب ضد جماعة أخرى عادةً ما يستبق مؤثّرو قوى الأمر الواقع المعركة ضدها بخطاب شيطنة
وإخراج المظلومية السنّية من السياسة يستلزم أيضاً جعلها لاتاريخيةً، أي غير قابلة للضبط الزمني والتعيين المكاني. الفعل هنا موظّف لدى المظلومية، وليس جزءاً من نسيجها التاريخي. المجازر مثلاً، لا تُستعاد كتفاصيل مادية حول الضحايا وقصصهم وآلامهم وضرورة جبر الضرر ومحاسبة المرتكبين المباشرين. بل تُستعاد كذكرى هدفها تغذية سردية المظلومية وتصليبها. ليس مهماً من قُتل وكيف يُحاسب المرتكب، المهم كيف يُستثمر دم الضحية في بناء سلطة تقتل آخرين، وتولّد مظلوميةً مضادةً. وما يُبذل حول العدالة الانتقالية من جهد يتمثل في لجان ومؤتمرات ووعود، هو المقابل لتعميم المجازر ودفعها خارج التاريخ، فلازمنية الجريمة تعادلها لازمنية العدالة وتفريغ محتواها، بلجان تفرّخ لجاناً ومؤتمر يلد مؤتمراً، بدل اتخاذ خطوات جدّية.
وإخراج المظلومية السنّية من التاريخ، يعني جعلها قابلةً لاستقبال أيّ معلومة دون مراجعة وتدقيق وعودة إلى السياق. المعلومة تتحوّل إلى حقيقة غير قابلة للنقاش. تُرفّع عن الواقع لتصبح جزءاً من سردية مصدرها الغيب.
وعليه، فإنّ من نتائج اللاسياسة واللاتاريخية، تحوّل المظلومية السنّية إلى دين يوظّف الضحايا الذين سقطوا في السجون والقصف والبراميل المتفجرة، ويحيلهم إلى مادة تُستخدم كقرينة على سردية المظلومية، أو ككتل شعبوية يجري تحشيدها لشنّ حرب ضد جماعة أخرى عادةً ما يستبق مؤثّرو قوى الأمر الواقع المعركة ضدها بخطاب شيطنة تتنوع مفردات قاموسه الفقير بين "فلول" و"انفصاليين" و"عملاء إسرائيل"، ليتكشّف الفرق بين مظلومية تستدعي تعويض الضحايا ومحاسبة المجرمين، وبين صناعة مظلومية تهدف إلى الثأر ودعم سلطة لهذا الغرض.
الحق لا يُستعاد بخلق ظلم جديد، وإنما بتعويض ضحايا الظلم السابق. السنّي السوري الذي يفترض أنّ حقّه يُسترد بقتل سوري آخر أو إذلاله أو تهميشه، يجعل حقّه مولّداً لمظالم مفتوحة. والأهم أنّ حقه لا يُستردّ، إذ لا محاسبة جدّية للمرتكبين، بل تكريم لبعضهم.
السنّي الذي فقد أخاً أو أمّاً في حيّ التضامن الدمشقي، يجري تصريف مظلوميته في قتل دروز السويداء وعلويّي الساحل، فيما فادي صقر، القيادي في ميليشيات "الدفاع الوطني"، والمسؤول عن مجزرة في الحيّ نفسه، "مُنح الأمان" من قبل لجنة السلم الأهلي التابعة لسلطة قوى الأمر الواقع.
هكذا يفتح التديين، المظلومية على الثأر، بدل تعيينها تاريخياً، وتسييسها وضبطها باسترداد حقوق الضحايا ومحاسبة المرتكبين، فيخسر السنّة مرتين؛ مرةً بجعل الظلم الذي تعرّضوا له مولّداً لمظالم أخرى بدل معالجته وجبر الضرر، ومرةً ثانيةً بعدم تمثيلهم سياسياً، والاستعاضة عن ذلك بدعم سلطة تؤمّن الثأر عبر التحشيد الشعبوي و"الفزعات"، بدلاً من خلق مؤسسات منتخبة تستوعب مصالح الناس وتخضع لرقابتهم.
السنّي الذي فقد أخاً أو أمّاً في حيّ التضامن الدمشقي، يجري تصريف مظلوميته في قتل دروز السويداء وعلويّي الساحل، فيما فادي صقر، القيادي في ميليشيات "الدفاع الوطني"، والمسؤول عن مجزرة في الحيّ نفسه، "مُنح الأمان" من قبل لجنة السلم الأهلي التابعة لسلطة قوى الأمر الواقع!
ومادة التحشيد، جماهير قوامها أجزاء من سنّة الأرياف والبدو والمناطق الطرفية وأبناء المخيمات، فضلاً عن مجتمع إدلب الذي قولبته "هيئة تحرير الشام" على صورتها، خلال سنوات سيطرتها، فيما يجري استبعاد أو ترهيب أجزاء أخرى، هم سنّة المدن، وما تبقّى من طبقات وسطى، وتجّار، ورجال دين وسطيين، ونخب، ما يشكّل خسارةً ثالثةً للسنّة، إذ يقودهم الأقل كفاءةً وتعليماً والأكثر شعبويةً وتطرفاً، على حساب المؤهلين لتشكيل رافعة لأيّ تغيير إيجابي في البلاد وقاطرة لصياغة وطنية تستوعب التنوع السوري وتطرح رؤيةً عادلةً لإدارته.
هؤلاء لا يُستبعدون فحسب، بل تجري شيطنتهم، كلما عبّروا عن أنفسهم على وسائل التواصل والإعلام، ويُسألون: "أين كنتم؟" خلال 14 سنةً، ويوصمون بـ"كارهي أنفسهم"، و"القاطنين في الغرب بعيداً عن معاناة أهلهم"، و"السنّة الكيوت"، لتكتمل دائرة خسائر السنّة، بواحدة رابعة، تتمثل في نبذ الاختلاف والتعدد واعتماد أحادية قمعية تمارس الإرهاب ضد المختلف الذي يجري تخوينه عملاً بتقليد جماعات الممانعة في منطقتنا، والحركات التوتاليتارية بتنويعاتها في الغرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.