شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"خرجنا من ظروف شبه مستحيلة"... فرقة "أوسبري في" والروك الغزّاوي بالإنكليزية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 19 سبتمبر 202103:56 م

داخل غرف منازل بسيطة، يعمل شبان غزيّون على إنتاج موسيقاهم وأغانيهم التي تحاكي واقع حياتهم اليومية، في المدينة المحاصرة، وحكايتهم مع السلام الذي يريدونه. يتمركز كل عضو منهم، في ركن من أركان الغرفة، ويثبّتون آلاتهم في الكهرباء، وعلى الأرض، غير عابئين إن كانت الغرفة صغيرة، فالمهم التأكد من أنها معزولة، ولا تتأثر بالأصوات الخارجية، لينطلقوا في صناعة عالمهم الخاص، وأداء أغاني الروك.

بدأت حكاية هؤلاء الشبان، منذ سنوات طويلة، عندما تعرّف اثنان منهم، على موسيقى الروك للمرة الأولى، وهما بعد طفلين. لم يكونا يعرفان الكثير عن هذا النوع الموسيقي، بحكم عيشهما في مجتمع إمكانياته الموسيقية محدودة جداً، لكن الفضول قادمهما إلى التجربة، ثم الاحتراف، وشكّلا مع أعضاء آخرين فرقة "أوسبري في"، وهي أول فرقة في قطاع غزة، تؤدي أغاني الروك وموسيقاه، باللغة الإنكليزية.

تعلّم ذاتي

كان ابنا العم، مؤمن وراجي الجرو، يُحبّان الاكتشاف، والاطلاع على الأغاني الغربية. تعرّف مؤمن (32 عاماً)، على موسيقى الروك عام 2003، عندما أُعجب بإحدى الفرق، ورسائل موسيقاها، على الرغم من إثارتها للجدل. كانا يقضيان ساعات للاستماع إليها، ومعرفة مغزاها، ومعانيها، لكنهما كثيراً ما صُدما بالواقع الذي أحبطهما مراراً، كلما حاولا التفكير في تأسيس فرقة خاصة بهما.

أولى هذه الصدمات، كانت بحث مؤمن عمن يعلّمه العزف على آلة الغيتار، لكنه لم يجد، نتيجة قلة عدد الموسيقيين المحترفين في القطاع المحاصر. "حينها، أيقنت بوجوب الاعتماد على الذات، لتعلّم ما أحب من الموسيقى، مستخدماً الوسائل المتاحة كلها والإنترنت"، يقول الشاب الحاصل على ماجستير في القانون.

تعلّم مؤمن العزف على الآلة التي أحبَّها، وانتقل منها إلى العزف على "غيتار الباص" bass guitar، وتعلّمه، من خلال متابعة يوتيوب، والاستماع المكثف إلى فرق الروك العالمية. في الوقت ذاته، كان راجي، وهو محامٍ في الثامنة والعشرين من عمره، يستمع إلى أغنيات الروك، محاولاً فهم كلماتها، وما تسعى مختلف الفرق إلى أن تحكيه، وقرر الشقيقان، عام 2017، إطلاق فرقتهما الخاصة مع موسيقي ثالث من عائلتهما، هو سائد الجرو.

كلمة "أوسبري Osprey" تعني طائر العقاب، وهو رمز الكبرياء وعزة النفس، ويُعدّ صياداً ماهراً يخرج من أقسى الظروف ولا يسمح لأي طائر بأن يحلّق على ارتفاع أعلى منه، وهي صفات تمثّلنا كفرقة، إذ خرجنا من ظروف شبه مستحيلة لتكوين فرقة احترافية في غزة بأقل الإمكانات

عام 2019، انضم إليهم سراج الشوا، وهو مهندس زراعي، يعمل منتجاً للموسيقى الإلكترونية، وعازفاً على الكيبورد الإلكتروني، والسويسري توماس كوخرهانس، وهو مغنٍ وعازف على آلة الدرامز، وكان يعمل حينها موظفاً في إحدى المنظمات الدولية، ضمن القطاع المحاصر.

بذلك، أسس الخماسي فرقةً، اختاروا لها اسم "أوسبري في"، فكلمة "أوسبري" Osprey، تعني طائر العقاب، وهو رمز الكبرياء وعزة النفس، ويُعدّ صياداً ماهراً يخرج من أقسى الظروف، ولا يسمح لأي طائر بأن يحلّق على ارتفاع أعلى منه، "وهي صفات تمثّلنا كفرقة، إذ خرجنا من ظروف شبه مستحيلة، لتكوين فرقة احترافية في غزة، بأقل الإمكانات"، وفق ما يقولون لرصيف22، في أثناء لقاء معهم خلال أحد تدريباتهم، وحرف "V"، هو رقم خمسة في الرموز اللاتينية، في إشارة إلى عددهم.

وتعرّف الفرقة بنفسها على أنها "تعتمد على الموسيقى كلغة عالمية، لمخاطبة الناس في كل مكان، وإثبات أن فلسطين تتحدث بلغة الحب والسلام".

رحلة الإنتاج الصعبة

لم تكن انطلاقة فرقة "أوسبري في"، سهلةً، ولعلها كانت محبطة أيضاً، فهي تغنّي لوناً غير مألوف في الأذن الموسيقية العربية، وبعيد عن التراث الفلسطيني، الذي اعتاد الجمهور أن تؤديه غالبية الفرق الفلسطينية.

ومع كونها تحمل رؤية متطورة، أنتجت الفرقة ألبوماً غنائياً خاصاً بها، يتضمن كلماتٍ وموسيقى من إنتاجها، فكانت أغنية "Marble" مستوحاةً من كلمات العالم كارل سيغان، إذ يتحدث عن المشكلات البشرية من كره وحقد، وما شهده التاريخ من قتل أعمى لأرواح الأبرياء، كله، وتحدثت أغنية "Lost and Secure" عن صديقهم الذي لجأ إلى أوروبا، باحثاً عن حلم جديد له، ولخطيبته، لكنه فقدها في إحدى الحروب التي عاشتها غزة، ولم يكن له أن يودّعها.

ومع تركيزها على القضايا الإنسانية، والعنصر البشري، تسرد الفرقة في أغنية "Drops" عن تكون الإنسان من الماء، وتشابه نقاء الماء بنقاء المخلوق البشري في الفطرة، وهو قد خُلق لزرع الحب حوله، وكيف يتحول من شدة الاضطهاد الوحشي، إلى كائن يفتقد النقاء والبراءة.

وشاركت الفرقة، بعد ذلك، في فعاليات عديدة، محلية وعالمية، منها فعالية جرت عن بعد، لدعم الموسيقيين في قطاع غزة، قبيل أيام من الاعتداء الإسرائيلي الأخير عليها، في نيسان/ أبريل الفائت، وكان من ضمن المشاركين فيها، المغنّي الفلسطيني محمد عساف، والفنان البريطاني روجر ووترز، من فرقة "بينك فلويد"، والفنان الأمريكي توم موريلو، من فرقة "ريج أجينست ذا ماشين".

تعتمد الفرقة على الموسيقى كلغة عالمية لمخاطبة الناس في كل مكان، وإثبات أن فلسطين تتحدث بلغة الحب والسلام.

يتمتع المغنّي الرئيسي في "أوسبري في" راجي الجرو، بأسلوب احترافي في غناء الروك، ويتقن اللغة الإنكليزية بتميّز، ويعزف على الغيتار العادي، والإلكتروني، والبيانو. ويرى أنه صنع بيئته الموسيقية من الصفر، نتيجة الشغف، إذ لم يتدرب ضمن بيئة احترافية، كغيره من مغنّي الروك حول العالم.

يقول راجي: "تعرفت إلى الروك قبل نحو عشرين عاماً، وربيت على هذا اللون الموسيقي، إلى درجة أصبح معها حياتي كلها، وتبنّيت رسائله المنبثقة من الألم، والمعاناة التي نشعر بها في أعماقنا. الأداء الذي أظهر فيه هو ترجمة سنوات طويلة من الاستماع، والتعلّم، والتدريب، كما أننا نعطي لوناً مميزاً، واحترافياً، كما وصفنا موسيقيون عالميون، ونعكس الوجه المختلف لغزة، وتميزها الثقافي والحضاري".

تأثر راجي بالكثير من الفرق الموسيقية العالمية، وهوياتها المختلفة، وبحث عن خلفياتها الموسيقية، وقصصها، وتجاربها، في غناء الواقع المجتمعي، والقضايا التي تناصرها، ويرى أن تجربة "أوسبري في"، لا تختلف في هذا المنحى، فهي انعكاس لحكاية غزة، بعيونهم، باللغة الإنكليزية التي يرغبون من خلالها، إيصال رسائلهم إلى جمهور عريض، على الرغم من المعوقات اليومية التي يواجهونها، كلها.

طموحات لا تتوقف

ينوّه راجي بأن لكل فرد من أفراد الفرقة، حكاية صعبة، في مجتمع يفتقر إلى ثقافة الموسيقى، والمعدات، والآلات الموسيقية، بحكم الانغلاق الاقتصادي والثقافي، ومحدودية حرية التنقل بينهم، وبين العالم الخارجي، ويتابع حديثه بالقول: "انبثاق فرقة من المجتمع الغزّي المحافظ، هو كفاح ونجاح، ويقودنا بقوة للوصول إلى العالمية، لإيصال الرسالة إلى العالم الخارجي عن غزة تحديداً وعن فلسطين عموماً".

ويضيف مؤمن، وهو من يكتب كلمات أغاني الفرقة: "استمرّيت في حلمي مع الفرقة، على الرغم من عقبات جمة، منها عدم توافر أماكن احترافية، وملائمة، لتسجيل هذا النوع من الأغاني، مما يدفعنا للاجتماع في منازلنا، لنعزف ونؤلف معاً، وقلة توافر المعدات الموسيقية، فما نملكه كله الآن، من معدات، وآلات، وفّرناه بجهودنا الفردية، كما أن صعوبة تنقلنا، وسفرنا، تحدّ كثيراً من إمكانية تواصلنا مع الجمهور الخارجي، وانتشارنا بشكل أوسع".

وتستعيض الفرقة لتلافي بعض هذه الصعوبات بنشر أغنياتها عبر حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، لضمان الوصول إلى المزيد من المستمعين والمهتمين.

وينظر أعضاء الفرقة إلى موسيقى الروك، على أنها تتميز بكلماتها العميقة، وتجابه واقعهم المعيشي في غزة، في ظل تعرضهم باستمرار، لظروف سياسية، واجتماعية، ونفسية، لا يمكن تحملها إلا من خلال التعبير الفني. ويشير مؤمن إلى أنه يقضي ساعات مع كتبه، وموسيقاه، باحثاً عن عالم آخر، فيه بعض من المنطقية التي يفتقر إليها المجتمع.

واصلت بحلمي مع الفرقة رغم عقبات جمة، منها عدم توفر أماكن احترافية للتسجيل، مما يدفعنا للاجتماع في منازلنا لنعزف ونؤلف معاً، وقلة توافر المعدات الموسيقية، فكل ما نملكه وفرناه بجهودنا الفردية، كما أن صعوبة سفرنا تحد من إمكانية تواصلنا مع الجمهور الخارجي

بدوره يتحدث سراج الشوا (28 عاماً)، عن تطلعات الفرقة المستقبلية، "فنحن نسعى إلى إنتاج ألبومات تسرد حكاياتنا الإنسانية، وأحلام الأطفال والنساء والكبار في تغيير واقعهم، وكيف ينظر الغزّيون إلى العالم، على الرغم من عزلتهم، وكذلك مبادئ الانتماء لقضيتنا، والصعوبات التي يواجهها من يتمتعون بمواهب تدفعنا لاستخدامها، للدفاع عن حقنا كفلسطينيين، في التمتع بأبسط الحقوق والامتيازات".

وبعدّ موسيقى الروك، من أقوى أنواع الموسيقى في توصيل المعاناة والألم، تهدف الفرقة، كما يشير الشوا، إلى توصيل رسالتها إلى البلدان كلها، على اختلاف ثقافاتها، وهي بذلك ستنتقل في المرحلة اللاحقة، إلى إنتاج أغانٍ باللغة العربية، لضمان وصول رسائلها إلى الوطن العربي أيضاً.

تتلقى الفرقة تعليقات إيجابية بالاستمرار، بالإضافة إلى تعليقات سلبية، ترفض الغناء بأسلوب غربي، لكن الشوا يرى أن استمراريتهم ونجاحهم، يشكلان إلهاماً للآخرين في غزة، وهو يأمل أن يتغير الواقع، وأن يمتلكوا حرية التنقل بسهولة، فتنتقل عروضهم إلى خارج قطاع غزة، لتفعيل تبادل الخبرات والثقافات، والمشاركة في مهرجانات موسيقية عالمية، ليعزفوا للعالم قصصهم الغزّية، والفلسطينية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard