كل موسم رمضاني، تبدأ بعض المسلسلات بـ"كروت" تسويقية تكفل لها الجماهيرية والانتشار، وهذا العام لم يكن مختلفاً.
فمثلاً، يمتلك "الاختيار 2" الكثير من هذه الكروت، كتكملة لجزء أول كانت له أصداء واسعة، وكمسلسل يضمّ نجمين في وزن أحمد مكي وكريم عبد العزيز، إضافة لارتباطه بقضايا وصراعات سياسية واجتماعية لا تزال أصداؤها تتردد حتى اليوم. كذلك "موسى"، وهو مسلسل يكفيه اسم محمد رمضان ليضمن ملايين المتابعين، و"نسل الأغراب" وفيه نجمان هما أحمد السقا وأمير كرارة.
نجح "لعبة نيوتن" في التسلل للمنافسة على مقدمة الدراما الرمضانية هذا العام.
يصعب تحديد حجم المتابعة الفعلي للمسلسلات، وترتيبها بشكل مضمون، خصوصاً أن أدوات القياس الخاصة بالإنترنت لا تشتبك مع شريحة جمهور عريضة في مصر والوطن العربي، لكن غالباً ما تصدّرت العناوين السابقة المراكز الأولى من حيث عدد المتابعين.
الحصان الأسود في المقابل كان "لعبة نيوتن" للمؤلف والمخرج تامر محسن، وهو عمل لا يملك نفس قوة الكروت التسويقية السابقة، لكنه نجح تدريجياً في التسلّل للمنافسة على المقدمة، على الأقل وسط شريحة جمهور الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
والسؤال: كيف فعل هذا وسط غابة مسلسلات رمضان؟ 7 أسباب قد توجز الإجابة.
1- مسار تصاعدي وتوزيع متجانس
المعتاد أن الجمهور يجرّب في الأيام الأولى لرمضان عدداً كبيراً من المسلسلات، قبل أن يستقرّ على اختيارات محددة. ولهذا يلجأ صنّاع المسلسلات لنهج "البداية الواعدة"، وهي مدرسة تسويق وجذب أشبه بمدرسة "وش القفص" بين بائعي الفاكهة: ضع أجود ثمارك في الصدارة لتجذب المشترين، وابعد الباقي عن أعينهم. والحيلة أن تضع في أول حلقتين أو ثلاث قصارى جهدك لتجذب الجمهور، فتكون بداية المسلسل ساخنة وتتضمن مثلاً حادثة قتل، لغز جريمة، مشهداً متقناً بصرياً، حوارات جذابة، ظهوراً لضيف شرف كبير، وغيرها من بدايات قد يقول بسببها البعض "حسناً، سأتابع هذا المسلسل"، كما تخلق مساحة للاهتمام والعناوين الساخنة في التغطيات الإعلامية.
لكن، مثل بائع الفاكهة قد يكون "وش القفص" مختلفاً تماماً عما تحته، فتسقط جماهيرية مسلسلات عديدة بمرور الوقت. القاهرة كابول مثلاً بدأ بحلقتين ناجحتين جماهيرياً ونقدياً، قبل أن يفقد أسهمه تدريجياً، ويخسر بريق البداية.
"لعبة نيوتن" في المقابل كان العكس. الأحداث موزعة بتجانس وتناغم بين الحلقات، والمستوى شبه ثابت إن لم يكن تصاعدياً. قد لا يستهوي البعض نوع الفاكهة الموجود أصلاً في المسلسل لأنهم مثلاً يفضلون "الأكشن"، لكن على الأقل لا توجد ثمرات/حلقات رديئة.
وبالتأكيد لا يخلو المسلسل من بطء أحداث، وهو عيب شبه ثابت في ظل قواعد الإنتاج التي تشترط 30 حلقة. لكن لنقل إن "لعبة نيوتن" أقل بطئاً من غيره، أو باللغة الدارجة: "أعور وسط عميان".
2- بشر رماديون وأقرب للواقع
آفة المسلسلات كانت دوماً في تقسيم الشخصيات لأبيض وأسود، ضحية وجلاد، ظالم ومظلوم، وهي نقطة قد تناسب بعض القصص، لكنها لا تصلح كإطار ثابت، أو كمنظور مستديم للواقع، لأن أغلب البشر ببساطة رماديون.
ابتعد تامر محسن وفريق الكتابة عن هذا النهج، فامتلأت مواقع التواصل بتحليلات وقراءات متباينة حول الشخصيات الرئيسية (هنا/منى زكي، حازم/محمد ممدوح، مؤنس/محمد فراج). كل منهم نال حظه من التصنيف كضحية أو جانٍ أو كليهما، ما يدل على أن الشخصيات في المسلسل أقرب للعالم الحقيقي من المعتاد في أعمال أخرى.
مثلاً، تمثل شخصية مؤنس المتديّن التي يلعبها محمد فراج، وأسرته، امتداداً لمدرسة "الصبغ بالرمادي"، على الأقل على مدار الحلقات التي سبقت كتابة هذه السطور. لا وجود هنا لنزعة المتديّن المتجهم العدواني الطاغية، أو المتديّن المثالي المهذب الحنون طوال الوقت، وهما النزعتان اللتان كانت أفلامنا ومسلسلاتنا تسبغها على المتدينين.
مؤنس (محمد فراج) في مشهد من المسلسل
في مشهد مائدة الطعام، تبدو هذه الجزئية أوضح. المشهد نفسه لا يتضمّن نقاشات دينية أو معطيات غير تقليدية. ويحتوي على تفاصيل ورتوش صغيرة، تدفعك للقول: "نعم لقد قابلت هؤلاء من قبل". وقد هاجم بعض المتديّنين هذا المشهد باعتباره نمطياً من حيث أسماء الأطفال والسلوكيات، وآخرون أشادوا به باعتباره أقرب ما يكون للواقع.
مشهد العزومة في "لعبة نيوتن"
3- الإخراج
جرت العادة على اعتبار المسلسلات وسيطاً للمؤلف، وأفلام السينما كوسيط للمخرج، وهي ملاحظة تزداد صحتها في حالة المسلسلات المصرية، لأسباب يطول شرحها، لكن لنقل إن بذرة مسلسلاتنا تاريخياً كانت المسرح والإذاعة، وليس السينما، وأن الحوار هو اللغة المهيمنة على المسلسلات، مقارنة بالمحتوى البصري. من هنا لا عجب أن أسماء مؤلفين مثل أسامة أنور عكاشة ومحمد جلال عبد القوي ومصطفى محرم اكتسبت وزناً في عالم المسلسلات، وأن تجاربهم ظلت حتى اليوم موضع تقليد واستنساخ.
"لعبة نيوتن" لا يعكس الآية. الحوار لا يزال هو العنصر الطاغي على تطور الأحداث، لكن المخرج تامر محسن لا ينسى توظيف الصورة والتفاصيل الصغيرة، لمنح المتفرج حالة شعورية ناحية حدث أو شخصية.
يمكنك ملاحظة ما سبق في مشهد مائدة الطعام السابق الذكر. إحساس ما بعدم الراحة والاغتراب يتسلّل للمشاهد، تماماً مثل "هنا" بطلة المسلسل، التي وجدت نفسها وسط أسرة لا تشبهها وبشر مختلفين عنها. الطريقة البسيطة التي نُفِّذ بها المشهد، جعلته أكثر فاعلية، فغابت الموسيقى ليصبح الفراغ الصوتي وأصوات أدوات المائدة، علامة على فراغ الشخصيات، وأداة جعلتنا نشارك البطلة إحساسها بعدم الراحة.
ابتعد كتاب "لعبة نيوتن" عن تقسيم الشخصيات لأبيض وأسود، ضحية وجلاد، ظالم ومظلوم، وهي نقطة قد تناسب بعض القصص، لكنها لا تصلح كإطار ثابت، أو كمنظور مستديم للواقع، لأن أغلب البشر ببساطة رماديون
4- تمثيل جيد ووجوه لم تفقد رونقها
لنبدأ بالتأكيد على وجود نقاط ضعف تمثيلية في بعض الشخصيات المساعدة، لكن المستوى العام لممثلي "لعبة نيوتن" يميل للجودة، وبالتأكيد أفضل من المتوسط لأغلب منافسيه.
للأبطال الرئيسيين رصيد سابق جيد كممثلين، وهو ما يتواصل هنا، سواء مع منى زكي، محمد ممدوح، محمد فراج أو سيد رجب، والأهم أنها وجوه لم تفقد رونقها، ولم تستنزف نفسها في تكرار ممل وتراكم كمي بلا معنى.
ما انطباعك عندما تسمع عن مسلسل جديد ليسرا، إلهام شاهين أو غادة عبد الرازق؟ إجابتي الشخصية حالياً هي "صفر حماس للمشاهدة، وثقة شبه مطلقة أن هذا المسلسل هو شيء شاهدته من قبل".
5- نسوية أم لا؟
مع حبكة تتضمن رجلاً يجمع بين زوجتين، وآخر لا يتوقف عن تعنيف زوجته وتهديدها، وشخصيات أخرى تتعرّض للقهر سواء من ذكور أو إناث، يسهل قراءة نقاط تلامس "لعبة نيوتن" مع الخطاب النسوي المعاصر وقضاياه.
على صعيد آخر، يميل البعض لقراءة الحبكة من منطلق أنها تروّج للتطبيع مع العنف ضد المرأة، وأنها تسبغ صفة الرومانسية على الزوج "حازم" رغم تصرفاته العدوانية والمهينة مع زوجته.
في الحالتين نجح "لعبة نيوتن" في جذب مشاهدين، واستفاد تسويقياً من هذا الجدل على مواقع التواصل، بخصوص تقييم رسالته.
مشهد الزوج المُعنف من "لعبة نيوتن"
6- قضايا معاصرة
الطلاق الشفوي، شرعية الزواج الثاني وقوانين الأسرة والطلاق، كلها قضايا لامسها المسلسل، واستفاد من الجدل المثار بخصوصها في مصر خلال الشهور الماضية.
القصة في "لعبة نيوتن" غير مقترنة بمغامرات "أكشن" على طريقة مسلسلات "ملوك الجدعنة"، "النمر" أو "اللي مالوش كبير"، أو بعوالم لا تخلو بصرياً وسردياً من بعد أسطوري وفلكلوري على طريقة مسلسل "نسل الأغراب". القصة فيه ارتبطت بمشاكل وأزمات وقوانين نسمع عنها وتتشابك مع حياة ملايين، ولهذا شقَّ المسلسل طريقه وسط شريحة مشاهدين كبيرة، خصوصاً من النساء.
القصة في "لعبة نيوتن" غير مقترنة بمغامرات "أكشن"، أو بعوالم لا تخلو بصرياً وسردياً من بعد أسطوري وفلكلوري. القصة فيه ارتبطت بمشاكل وأزمات وقوانين نسمع عنها وتتشابك مع حياة ملايين، ولهذا شقَّ المسلسل طريقه وسط شريحة مشاهدين كبيرة
7- بدريات عم بدر
يعشق المتفرج الشخصية اللامبالية، أو ما نطلق عليه عادة في مصر: الرايق، صاحب المزاج، اللي مكبر دماغه. وبفضل هذا العشق احتضنت مواقع التواصل وصفحات الكوميك سابقاً شخصيات فيلم "الكيف" مثلاً، رغم تاريخ إنتاجه القديم (1985).
شخصية بدر التي يلعبها سيد رجب لا تطابق فقط هذه التركيبة بوضوح، لكنها تستفيد أيضاً من الطبيعة الانفعالية والهستيرية لباقي الشخصيات الرئيسية، ليصبح ظهورها دوماً أقرب لبقعة ملونة تسقط على قماشة بيضاء كبيرة. والأهم أن فريق الكتابة ينسج تداخل هذه الشخصية مع الأحداث والصراعات، بشكل فعال أغلب الوقت وغير منفر.
بدر في مشهد من لعبة نيوتن
لا أعتقد أن هذا الفريق توقع أن تسجل جملة بسيطة مثل "إزاي ماما؟ ست لطيفة لطف نادر"، كل هذا النجاح في مواقع التواصل، والجملة نفسها لا تملك التركيبة الاستثنائية التي توحي بهذا، لكن ما جعل لها هذا الوقع، هو طبيعة اللحظة الدرامية التي انطلقت فيها كرصاصة قاسية على رأي مؤنس أولاً، والأداء الموفق لسيد رجب ثانياً، وهو يلعب دور "صاحب المزاج" بمنتهى الهدوء والمزاج.
الكل يحتاج لصديق مثل بدر، ولهذا رحّب رواد مواقع التواصل بوجوده، وأصبحت فقرة "البدريات" جرعة مخدرات ينتظرها الملايين يومياً، تماماً كما ينتظر هو العسل بالأفيون!
مشهد "ست لطيفة لطف نادر"
وصلنا للنهاية وسؤالي الختامي لجمهور المسلسل:
ما هي النقاط الأخرى المهمة، التي ترونها ضمن عوامل نجاح "لعبة نيوتن" هذا العام؟
*المقتطف الجديد يعبّر عن آراء كتّابه وكاتباته وليس بالضرورة عن رأي رصيف22
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون