من نحن؟ عرب أم فراعنة أم متوسطيون أم "بزراميط"؟ هكذا تساءل حسن النعماني بطل مسلسل "أرابيسك"، معبراً عن الحيرة، تلك الحيرة اعتبرها كتاب أبرز سمات الروائي والسيناريست، أسامة أنور عكاشة، الذي تحل ذكرى وفاته اليوم 28 مايو عام 2010، وربما عكست ملامح جيل من المثقفين، نتيجة "خلل بنية النظام بعد هزيمة يونيو 1967"، أو كما يسميها الكاتب عبد الله السناوي، ظاهرة "المثقف الحائر".
كما بدت شخصيته الرئيسية، علي البدري، في مسلسل "ليالي الحلمية" متناقضة وحائرة، بين انتسابه إلى طبقة الباشوات من ناحية الأب، وعامة المصريين من ناحية الأم، ناصري مغرق في رومانسيته مطلع شبابه، انفتاحي مع الانفتاح، واقعي بالمعايير السارية، لا يستقر على خيار.
اليوم، ومع حلول ذكرى وفاة عكاشة، الذي يعد ولا شك أحد أكثر كتاب الدراما تأثيراً في الجمهور المصري، نعيد فتح السؤال حول الكاتب الكبير الذي ألقى بسهام الحيرة في قلوب النقّاد، تاركاً الأبواب مفتوحة للجميع، ليقيّم كل فرد عكاشة إيديولوجياً، وهل هو ناصري أم وفدي، أم أنه كان نموذجاً للمثقف المستقل الذي أنصف كل التيارات السياسية؟
"صوّر أسامة أنور عكاشة كروائي المجتمع المصري وكأنه تديره شبكة من القوادين، يمارسون أعمالهم في الخفاء متسترين في عدة أوجه"
يرى الناقد الفني كمال القاضي، أن انتماء أسامة أنور عكاشة للفكر الناصري، وقد عبر عن انتمائه في العديد من الأعمال الدرامية، أبرزها "ليالي الحلمية" و"الراية البيضاء"، فقد أيّد قرارات التأميم وتحمّس لمشروع السدّ العالي، وفي نفس الوقت، هاجم الانفتاح الاقتصادي و"كامب ديفيد"، وهناك الكثير من وجهات النظر المتضمنة في أعماله، كمسلسل "أرابيسك"، "عفاريت السيالة" و"زيزينيا"، وهي تعكس قناعاته الشخصية ككاتب ومثقف.
وعن أفلامه السينمائية التي كتبها، مثل "دماء على الأسفلت"، و"الهجامة"، و"كتيبة الإعدام"، فيرى القاضي أنها كانت دليلاً على شجاعته، وليس تردداً أو حيرة كما يروج البعض.
تلك الشجاعة، حسبما يرى القاضي، تحولت لجرأة في سلسلة مقالاته عن شخصية عمرو بن العاص، "بالمواصفات الدرامية، عبر سلسلة مقالات نشرت في جريدة الوفد، وأثارت زوبعة كبيرة ولغطاً، اضطرته للاعتذار فيما بعد".
"متلازمة عبد الناصر"
ينفي القاضي لرصيف22 أن يكون عكاشة موالياً للنظام في الثمانينيات والتسعينيات، وأنه كان يمارس "معارضة متوازنة"، اضطرته للإحجام عن الكتابة لعامين، بعد رفض الجهات المختصة مشروعه في كتابة فيلم عن جمال عبد الناصر، وآخر عن أنور السادات، ما أصابه بحالة "اكتئاب استمرت وقتاً طويلاً، وهذا كله ينفي عنه تهمة مغازلة الأنظمة السياسية أو نفاقها، فلم يلعب دوراً ضد مبادئه".
أما بالنسبة للكاتب والناقد د. أحمد عمار، فيرى في عكاشة "ممثلاً لكل أبناء جيله الذين عاشوا حلم الناصرية والاشتراكية وصدّقوها، وجريوا وراها وفجأة صحيوا على كابوس النكسة".
"أدان عكاشة عصر السادات، واعتبره نقطة تحول أوصلتنا لأزمات كبيرة".
يواصل عمار لرصيف 22: "عبَّر عكاشة عن ذلك في شخصية علي البدري، لكن الفرق إن وقع الصدمة على علي كان أكبر وجعله يتحول للنقيض تماماً، يمكن أسامة حاول فعلاً أن يعبر عن كل الاتجاهات، لكنه كان دائماً يدين عصر السادات في كل أعماله، ويعتبره نقطة التحول التي أوصلتنا لأزمات كبيرة، هذا طبعاً بخلاف أنه قدم لنا النموذج الإسلامي الذي ارتفع صوته في السبعينيات، واستمر بأشكاله المختلفة حتى وقتنا الراهن، ورغم النكسة ورغم الصدمة، بقي أسامة، مثل الكثيرين من أبناء جيله، عندهم متلازمة عبد الناصر، عارفين إنه كان له دور كبير في وصولنا للحظة الهزيمة لكن فضلوا يحبوه، ولننظر مثلاً إلى مسلسل "عصفور النار"، فهناك كثيرون رأوا أن صقر هو نموذج لناصر، رغم كل الاستبداد الذي شاهدناه في شخصية صقر، إلا أنك لا تستطيع أن تكرهه للنهاية، مشهد النهاية مثلاً جعل الكل يتعاطف معه، وأولهم شخصية حورية".
يتابع أحمد عمار: "وطبعاً في "الحلمية" نرى "زينهم السماحي"، والصور التي كان يعلقها في المقهى، وكيف كان يرى أن نموذج ناصر هو النموذج الأكبر والأعلى، صحيح علّق صورة السادات بعد نصر أكتوبر، لكن أظنه لجأ إلى ذلك التفصيل لإحداث نوع من التوازنات، لكن اللي في القلب في القلب".
"سياسات السادات بداية الإرهاب"
ويتذكر الكاتب الصحفي محمد الشماع هو الآخر، بعض اللغط الذي أثير حول المواقف السياسية لأبطال مسلسلاته، يقول لرصيف22: "أذكر أنه في أحد أجزاء مسلسل ليالي الحلمية، وعندما ثارت حناجر وأقلام بعض المثقفين والكتّاب المنتمين فكرياً إلى عصر السادات، بسبب محاكمة أجراها عكاشة للرئيس الراحل في إحدى مشاهد المسلسل، أنه أُرغم على كتابة مشهد مُقحم في الأحداث كان بطله صلاح السعدني أو (العمدة سليمان غانم)، وهو يقول فيما معناه، إن لكل عصر مساوئ ومميزات، إذ تحدث غانم عن عصر السادات، فذكر أنه بطل الحرب والسلام، وأنه استطاع بدهائه وذكائه استرداد الأرض التي اغتصبها الصهاينة في 67، لكنه أيضاً سمح للبعض أن يكونوا ثروة من الانفتاح الاقتصادي الذي طبقه في أواخر السبعينيات".
ويشدد الشماع لرصيف22 على أن "عكاشة" ناصري الهوى، مثل عدد كبير من مثقفي جيله، ينتمي إلى عصر عبدالناصر مثلهم، رغم كل ما قيل من "وفديته"، لكنه ينتقد فترة الستينيات في مسألة غياب الشفافية والديمقراطية وضياع الحلم، وقد جسّد كل هذه الأفكار في شخصية علي البدري في "ليالي الحلمية" في مرحلة ما بعد النكسة، كما أنه كان يعتقد أن عصر الانفتاح كان وبالاً على مصر في الثمانينيات، وكان يعتقد أيضاً أن الإرهاب الذي امتدت يده لتطول المجتمع في التسعينيات، سببه أفعال السادات عندما دعم الإسلاميين في مواجهة اليسار، ولا تستطيع أن ترى أعمال عكاشة خارج هذا الإطار.
"لقد عبر عكاشة عن ذلك بوضوح في أعماله، ونذكر هنا مثلاً فيلم (كتيبة الإعدام) من إخراج الراحل عاطف الطيب، حيث بدأ الفيلم بقتل رجل وابنه من أبناء المقاومة الشعبية في حرب أكتوبر، على يد موظف البنك المكلف بتوصيل مرتبات الجيش، وهذا الموظف صار فيما بعد أحد كبار رجال الأعمال في عصر الانفتاح، هنا عكاشة بوضوح أكد أن رجال الانفتاح هم خونة حرب أكتوبر".
يستكمل الشماع عن تعاطى عكاشة مع عصر مبارك: "عهد مبارك كان في حُسبان عكاشة. نعم، هو لم يحاكمه أو ينتقده بشكل مباشر كما فعل مع عصر السادات، ولكنه كان يشتبك مع بعض القضايا التي تخص الزمن، مثلما صوّر أزمة العصر في روايته (منخفض الهند الموسمي)، التي تحولت فيما بعد إلى مسلسل تليفزيوني باسم (موجة حارة) كتبت له السيناريو مريم نعوم وأخرجه محمد ياسين".
عكاشة في الرواية، بحسب الشماع، صوّر المجتمع وكأنه تديره شبكة من القوادين يمارسون أعمالهم في الخفاء متسترين في عدة أوجه، وانتقد كذلك انغماس الجماعات الإسلامية ذات التاريخ العنيف في المجتمع بشكل طبيعي، ما كان يمهد إلى ثورة على كل تلك السياسيات.
"نعيش بلا هويّة"
أما الروائي والقاص إبراهيم غانم، فيرى شخصية عكاشة "مثيرة للجدل والحيرة والتساؤل، هل كان كاتباً ليبرالياً أم علمانياً أم اشتراكياً أم ناصرياً أم ماذا؟".
يواصل غانم حديثه لرصيف22: "في بعض اللقاءات، كان عكاشة يتكلم عن محنة الإسلام وبداية انهيار الدولة الإسلامية، وكان غالباً يقصد عمرو بن العاص، كما كانت له بعض الآراء "المتطرفة"، لأنه وصف عمرو بن العاص بالمتخلف، وأن الدولة في هذا الوقت تخلفت، ولا أعرف هل كان هذا لعب بالألفاظ وقصد التخلف الحضاري أم ماذا؟ لكن عموماً في أعماله، نجد الكثير من المتناقضات، بمعنى أنه في بعض الأعمال كان ينتقد الناصريين وعبد الناصر والمشروع الناصري، وأعمال أخرى كان يدافع عن المشروع الناصري برمته، مواقفه دائماً كانت متفاوتة ومتباينة".
"وصف عكاشة في مقالاته عمرو بن العاص بالمتخلف، وأن الدولة في هذا الوقت تخلفت، ولا أعرف هل كان هذا لعب بالألفاظ وقصد التخلف الحضاري أم ماذا؟"
ويرى غانم هو الآخر أن "الحيرة الفنية والثقافية" طبعت الكثير من أعماله وآرائه السياسية، "مثل سليمان البدرى في "ليالي الحلمية" وحسن النعماني في "أرابيسك"، مشكلته دائماً كانت الهوية، سليمان البدري مثلاً كان المفروض أنه من الطبقة الأرستقراطية، لكن هويته كانت مختلفة في كل الأجزاء، حتى أني شعرت أن عكاشة يتكلم عن نفسه من خلال الشخصية، وأنه بينسب كل الشخصيات دى علشان يطلع اللي جواه في الشخصيات بحيث يكون هو بطل العمل، وأغرب حاجة ممكن تحيرك أنه مش بيجيب بطل ماشي على خط واحد للنهاية، وإذا رجعنا لمسلسل زيزينيا، سنختلف على شخصية بشر عامر، ومن أي طبقة هو، البشاوات اللي عاش معاهم، أم أنه ينتسب لوالده التاجر في السوق؟ دائما ما أشعر أن أسامة أنور عكاشة يبحث عن نفسه في كل الكتابات، تخبطه السياسي والثقافي واضح في كل الكتابات".
يكمل غانم لرصيف22 عن مشوار عكاشة كما يراه: "لقد تلوّن أسامة في كل المراحل وببراعة، لدرجة أني غير قادر على تصنيف هويته السياسية، لأنه مالوش هوية سياسة، كان دائماً متصالحاً مع السلطة ومتنازعاً معها، متصالحاً مع نفسه ومتنازعاً معها، حتى آرائه في التسجيلات أو اللقاءات في البرامج أو ما كُتب عنه، ستجده في فترة كان يقول إنه ناصري، لكن بعدها هاجم ناصر، أيام السادات كان مع الانفتاح وبعد ذلك في عصر مبارك هاجم الانفتاح، وهناك مقولة له انتشرت على لسانه وهى أنه دائماً "يتوحد مع الفكرة ضد الشخص"، يعنى مش مؤمن بأشخاص ولا مقتنع بسياسات، لكنه ممكن يحب فكرة ما في الناصرية وهذا لا يعني أنه موافق على الناصرية أو حاببها أو إن هويته ناصرية. من جديد أؤكد، لقد تلون أسامة في كل المراحل وببراعة، ولكن هل فعل ذلك بذكاء شديد لتجنب الأنظمة التي مر عليها، أم فعل ذلك بعفوية شديدة، مقدرش أحكم؟".
وفي النهاية يرى غانم "تلوّن" أسامة في كل المراحل، وأنه كان "بارعاً" في "تلونه"، و"غير قادر على تصنيف هويته السياسية"، و"متصالحاً ومتنازعاً مع السلطة في نفس الوقت"، ويستشهد غانم بشخصية حسن في مسلسل "أرابيسك": "يتكلم مع والده أو عمه يقول إحنا فراعنة، ثم يعدد في مزايا التاريخ الإسلامي، وفي النهاية يقول إننا بلا هوية، ولابد وأن يكون لنا بصمة كمصريين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...