"أرجوكِ أنقذيني، زوجي سوف يقتلني، وقد يطردني من البيت في أي لحظة"، هذه صرخة استغاثة امرأة ضمن عشرات النداءات التي لا تفارق آذان مَرِيَّة، المستمعة لشكاوى النساء ضحايا العنف، داخل شبكة مراكز جمعية "فدرالية رابطة حقوق النساء".
مرية طاهر، لم تكن تعتقد طيلة عملها مع الجمعية أن تشبه في يوم من أيام جائحة كورونا ذلك الصندوق قاتم السواد، الذي تُفرِّغ فيه النساء المُعنَّفات أوجاعهن وآهاتهن وتفاصيل حياة الجحيم التي يعشنها خلال الحجر المنزلي. معها ومع زميلاتها نستعيد قصصا لنساء ضحايا العنف من رجال العائلة خاصة الأزواج في فترة الحجر.
بكاء ونحيب ومرارة
"حياتي خلال الحجر المنزلي كانت صعبة، وتجربة الاستماع للنساء المعنَّفات كانت استثنائية، كنتُ أبكي كثيراً لأن القصص التي كنتُ أستمع إليها كانت تفوق الخيال في عنفها"، تقول مرية لرصيف22، مؤكدة أن حياتها أصبحت خلال الحجر المنزلي مِلكاً لكل النساء اللواتي يتّصلن بالجمعية، باحثات عن حل لما يعشنه من عنف داخل بيت الزوجية.
"نساء طلبن مني أن أنقذهن سريعا وأخبرنني برغبتهن في الانتحار، ومنهن من طلبت مني توفير المأوى في دور للرعاية لأنها لم تعد تُطيقُ العيش مع زوجها بسبب عنفه في فترة الحجر"
لم تكن مرية تميز بين وقت الراحة ووقت النوم، لأن اتصالات النساء ضحايا العنف كانت ترد عليها في كل وقت، حتى تناول وجبات الأكل لم يكن منتظماً بسبب الرد غير المنقطع على مكالمات النساء في كل الأوقات.
تحكي مرية: "كنتُ أحيانا أجيب عن الاتصالات في الواحدة صباحاً، مكالماتٌ واردة من نساء يبكين ويحكين عن ألمهن بصوت شجي يخفي الكثير من الغصة، يتوسلن مني مساعدتهن من أجل الخلاص، كان دوري هو الاستماع ومحاول تهدئتهن على المستوى النفسي أولاً، ثم تجميع معطياتهنّ لمواصلة الإجراءات القانونية إن لزم الأمر".
تستطردُ مرية، وملامحها تشي بالتعاطف الإنساني، "من النساء من طلبن مني أن أنقذهن سريعا وأخبرنني برغبتهن في الانتحار، ومنهن من طلبت مني توفير المأوى في دور للرعاية لأنها لم تعد تُطيقُ العيش مع زوجها، شكاوى النساء خلال الحجر كلها نحيب وبكاء ورغبة في الهروب، لم يكن الاستماع سهلا بالنسبة إليّ لكنني كنت مؤمنة بالقضية، وهذا ما جعلني لا أتردد في تقديم أي خدمة".
ضربٌ وتهديدُ بالقتل
لم يكن العالم يتوقع أن تُفجِّر جائحة كورونا، جائحة العنف ضد النساء، في ظروف اقتصادية واجتماعية ألقت بظلالها القاتمة على ما تبقى من كرامة النساء المسحوقة.
ومنذ بداية الإعلان عن تدابير حالة الطوارئ الصحية في المغرب خلال شهر آذار/مارس 2020، وضعت رابطة حقوق النساء المغربية شبكة "إنجاد" ضد عنف النوع، وهي منصة هاتفية للاستماع للنساء، هدفها استقبال اتصالات النساء من مختلف مناطق المغرب. وقد استقبلت المنصة 1774 اتصالاً هاتفياً للتصريح بالعنف من 1038 امرأة من مختلف مدن المغرب.
يحتل العنف الجسدي نسبة 15,2 في المائة، إذ تم تسجيل 709 فعل عنف جسدي منها حالة قتل لسيدة وحالة محاولة قتل لسيدة أخرى
ليلى (اسم مستعار) لم تتردد في الاتصال بشبكة الجمعية، بعدما تفاقم جو العنف المشحون داخل أسرتها، وهي الأستاذة في سلك التعليم الثانوي، والأم لثلاث بنات، أكبرهن مهندسة والثانية طالبة في كلية الطب.
لا غرابة في وضع ليلى الأستاذة، فالجائحة أكدت أن العنف لا يطال النساء غير المتعلمات وغير الموظفات فقط، ولكنه يجرفُ كل النساء. وقد دفع الوضع الذي لم يعد بالإمكان تحمله الضحية إلى التبليغ لدى الجمعية، والبوح للمستمعة بما تعرضت له من ضرب وسب وإهانة وتحقير من طرف زوجها.
سببُ العنف الذي تعرضت له ليلى يعودُ حسب ما حكته لشبكة الاستماع، لمواجهتها زوجها بعدما اكتشفت خيانته لها وتفننه في التحرش بفتيات على مواقع التواصل الاجتماعي، إحداهن صديقتها، هي من أخبرتها بالموضوع، فلم يكن أمام الزوج إلا خيار إهانة زوجته وإذلالها أمام بناتها، لتبحثَ عن آذان تصغي لأنينها وتحتضن زفراتها المشحونة.
حياة أو موت
صرخة استغاثة أخرى وردت على شبكة "إنجاد"، أطلقتها حنجرة فدوى المبحوحة، الزوجة ذات العشرين سنة، من مدينة الفقيه بن صالح وسط المغرب)، وقد اعتادت على تعنيف زوجها لها، وشتمها، وضربها. لكن ظروف الحجر أججت الغضب داخلها، ولم تعد تحتمل الخضوع لعُرف الصبر الذي تنصح به نساء المنطقة كل شابة متزوجة، الصبرُ المريرُ على عنف الزوج.
لم يكتفِ زوجها بتعنيفها وإهانتها كما اعتاد، ولم يلِن قلبه لظروف الحجر القاسية، بل طردها من بيت الزوجية وجرّدها من ابنها القاصر
فدوى، لم تكن سوى شابة سحبت شهادة الباكالوريا من الجامعة، لتستبدلها بالمكوث في البيت، والخضوع لسلطة زوج متحكم ومتسلط، قدّم لها "دفتر تحملات" العلاقة الزوجية منذ اليوم الأول: ممنوع السؤال عن أسباب تأخره، والاستجابة الفورية لكل نزواته الجنسية ولو لم ترضها، وطلب حاجياتها ولوازمها من والديه وليس من أهلها.
شروطٌ قاهرة لم تقوَ فدوى على سطوتها، ولو باسم الحفاظ على عُشّ الزوجية، لأنها مسألة حياة أو موت، دفعتها إلى الاستغاثة بشبكة "إنجاد"، بالرغم من ظروف الحجر التي قيدت حركة المواطنين وتنقلاتهم.
تدخلت المنظمة واتصلت بالنيابة العامة وبالضابطة القضائية والمصالح الإدارية للترخيص لفدوى بمغادرة بيت الجحيم، كما تراه، إلى بيت أسرتها الصغيرة. خاصة بعد أن تقدم فردان من عائلتها بدورهما بطلب رسمي للمساعدة من الجمعية، خاصة أن حالتها النفسية لم تكن تسمح لها بذلك، بسبب التهديد بالقتل من طرف زوجها.
يتكرر العنف النفسي بكل أنواعه، لا سيما أفعال السب والشتم والإهانة وسوء المعاملة والتهديد مع أشكال العنف الأخرى وخاصة منها العنف الجسدي والجنسي، في فترة الحجر المنزلي في المغرب
تتكرر القصص التي وردت إلى الجمعية وأصوات الضحايا صدى لعنف الرجال. وفاء البالغة من العمر تسعاً وثلاثين سنة، تنحدر من مدينة الحسيمة، وتقيم بمدينة سلا. لم يكتفِ زوجها بتعنيفها وإهانتها كما اعتاد، ولم يلِن قلبه لظروف الحجر القاسية، بل طردها من بيت الزوجية وجرّدها من ابنها القاصر.
بالنسبة لوفاء، بدا الطرد من بيتٍ لم يكن آمناً بمثابة ورقة التحرر من فضاء حطم كرامتها وأذلها. لكن الحظ السيئ أنها لم تعرف من تلجأ إليه، ولم تكن تملك رخصة تنقّل تمنحها السلطات الحكومية لمن يرغب في السفر بين المدن، ولم تستطع بهذا الذهاب عند أهلها بالحسيمة.
عويلٌ قاهر وصرخات كثيرة تجنّدت لها شبكة "إنجاد"، طيلة شهور الحجر المنزلي في المغرب. نساء تعرضن للشتم والتعنيف والحرمان من أبنائهن، وإحداهن قتلت من طرف زوجها
وبين مطرقة العنف الزوجي القاهر وسندان ظروف الجائحة القاسية، لم يكن لدى وفاء أي خيار آخر سوى الاستغاثة بمنصة الرابطة، والاتصال على رقم الهاتف الموضوع رهن الإشارة، لتحتضنها الجمعية وتصاحبها إلى المصالح الإدارية للحصول على رخصة اللقاء بحضن عائلي يقِيها شرَّ الجائحتين،"كورونا وعنف الزوج" كما تصفهما.
المُستمعة: المنقذة من الموت
عويلٌ قاهر وصرخات كثيرة تجنّدت لها شبكة "إنجاد"، طيلة شهور الحجر المنزلي. كانت المُستَمعات بمثابة المنقذات ومخلصات النساء المعنفات من حياة البؤس، وبمثابة النور الذي سيضيئ عتمة حياتهن الزوجية، التي أنهكت بجميع أنواع العنف.
تقول إحدى المستمعات لرصيف22: "كنت أبذل قصارى جهدي لإيجاد مأوى لهذه، وكتابة شكوى لتلك والاتصال بالشرطة لأخرى تريد الرجوع إلى بيت الزوجية ورابعة تطلب التنقل حيث يوجد مسكن والديها هروباً من بطش الزوج وجبروته، في ظل ظروف قاسية جداً واستثنائية وغير مألوفة".
وتضيفُ المستمعة، التي كانت تبكي وهي تحاولُ امتصاص آلام النساء: "كنتُ أسارع الزمن لإيجاد حلول مناسبة لأغلبهن، ضغط الوقت وبطء الإجراءات وكثرة المساطر الإدارية، وتعقيداتها، لدى بعض المؤسسات والإدارات، هواتف ثابتة ومداومة لا تفي بالغرض، معاناة مضاعفة بين جدران الحجر وحالة الطوارئ الصحية وهموم النساء ومعاناتهن، كل ذلك تطلّب مني مجهوداً كبيراً لإنجاز عملي والمسؤولية الملقاة على عاتقي اتجاه النساء المعنفات، حيث أن الملف الواحد كان يستغرق أسبوعاً كاملاً لإتمامه إذ يتم الاتصال بالعديد من الإدارات العمومية".
اثنتا عشرة مستمعة ومساعدة اجتماعية هو العدد الذي جنّدتهُ الجمعية لدعم النساء ومواكبتهن، عبر نشر أرقام المستمعات الخاصة على منصة عملت الفدرالية وشبكة إنجاد على نشرها وتوزيعها عبر مواقع التواصل الاجتماعي ولدى بعض المواقع الصحفية.
وخصصت الجمعية منصّتين لخدمة النساء، الأولى للدعم النفسي عبر أخصائيات وأخصائيين في علم النفس والتنمية الذاتية بلغ عددهم ثمانية من أجل الإصغاء والدعم النفسي والمصاحبة الذاتية والتخفيف من آثار العنف والمعاناة، قدَّموا وقتهم بشكل تطوعي والتزموا طيلة هاته الفترة بإماطة اللثام عن أوجاع الضحايا.
وخصصت المنصة الثانية للمساعدة القانونية عبر شبكات المحاميات والمحامين التابعة للجمعية، الذين بلغ عددهم 10 تجندوا لتقديم الاستشارة والمساعدة القانونية للنساء، وتبنوا ملفات العديد من النساء عبر مصاحبتهن خلال الإجراءات أو حتى كتابة الشكاوى نيابة عنهن، لأن أغلب النساء كُنَّ يجدن إشكالات مرتبطة بكيفية تحرير وإرسال الشكاوى للسلطات القضائية والأمنية بوسائل إلكترونية، إضافة إلى تعقيد وبطء المساطر والإجراءات القانونية.
جراحٌ غائرة
أعدت المنظمة غير الحكومية دراسة حصل رصيف22 على نسخة منها، تؤكد فيها أن نسبة العنف ارتفعت بنسبة 31,6 في المئة خلال فترة الحجر المنزلي التي جعلت كل مكونات العائلة من رجال ونساء يقتسمون نفس الفضاء طيلة أيام الأسبوع، وبالتالي أصبحت الضحية تقضي كل وقتها مع الرجل العنيف، بالإضافة إلى سيادة الفكر الذكوري. إذ أن الضغوط الاقتصادية والنفسية تزامنت مع الحجر وجعلت الرجال يصبون غضبهم وعنفهم على النساء والفتيات وهن الحلقة الأضعف داخل الأسر.
وجاء في الدراسة نفسها، أن من مسببات العنف الأساسية فقدان الكثير من النساء والفتيات المعيلات للأسر لمورد رزقهن خاصة العاملات في القطاعات غير النظامية، الشيء الذي جعل عنف الأزواج وباقي أفراد العائلة يتضاعف عليهن لعدم قدرتهن على الاستمرار في الإنفاق والاستجابة للطلبات المادية للرجال العنيفين، وهي طلبات لا تنتهي خاصة من طرف المدمنين على المخدرات والكحول.
وأحصت الجمعية 4663 فعل عنف مورس على النساء والفتيات خلال الحجر المنزلي (8 أشهر خلال عام 2020)، يتصدر العنف النفسي الحالات بعدد يصل إلى 2235 حالة عنف، ثم الاقتصادي والاجتماعي مع 1256 حالة فالجسدي والجنسي الذي بلغ 946 حالة. ويحتل العنف الجسدي نسبة 15,2 في المائة، إذ تم تسجيل 709 فعل عنف جسدي منها حالة قتل لسيدة وحالة محاولة قتل لسيدة أخرى، وفق المعطيات التي نشرتها الجمعية، حصل عليها رصيف22.
ويتكرر العنف النفسي بكل أنواعه، لا سيما أفعال السب والشتم والإهانة وسوء المعاملة والتهديد بشتى أشكاله، باعتباره عنفا ملازماً لباقي أشكال العنف الأخرى وخاصة العنف الجسدي والجنسي في جميع الحالات تقريباً، بالإضافة إلى الحالات التي يمارسُ فيها العنف النفسي معزولاً عن باقي أنواع العنف الأخرى.
وأكدت الجمعية أن النساء عشن العنف النفسي بشكل مضاعف خلال الحجر المنزلي وحالة الطوارئ الصحية، بالإضافة إلى الضغوط المرتبطة بالخوف من الوباء ومن مستقبل باتت معالمه غير واضحة، وهو المعطى الذي أكدته المندوبية السامية للتخطيط في بلاغ سابق لها، الذي اعتبر أن ربات البيوت تعرضن للضغط بسبب الخوف من خطر فيروس كورونا أكثر من نظرائهن من الرجال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون