ترددتُ كثيراً وأنا أفكّر في الطريقة الأفضل للحديث عن موضوع تعدد الزوجات، فهو موضوع قُتل بحثاً، ورغم ذلك ظلّ تائهاً، معلقاً بين رجال يتمسكون بحقهم "الديني" ونساء يطالبن بحقهن "الإنساني".
وبين هذا وذاك، نسينا أمراً هاماً، بل بالغ الأهمية، نسينا كياناً اسمه الأسرة، وفاتنا أن نسأل: هل التعدد في مصلحة الأسرة، بكامل أفرادها؟
للوهلة الأولى، يبدو السؤال خارج المقرر الدراسي، فنحن اعتدنا على سؤال آخر، جاهز ومعلب: "تريدون تحريم الحلال ودفع الرجال إلى سلوك دروب الحرام؟".
هكذا، اعتدنا أن نسأل السؤال بطريقة تعطينا إجابة واحدة، تبرر النزوة على حساب الاستقرار، وتضع مصلحة الفرد فوق مصلحة الأسرة، بل وتجعل شرع الله سيفاً مصلتاً على رقاب البعض، وليس أداة لنشر العدل، الذي هو من أسماء الله.
لا شك أن ممارسة تعدد الزوجات ليست خاصة بالمجتمعات المسلمة فقط، فقد كانت شائعة قبل الإسلام، في عدة أماكن وثقافات. كذلك نعرف جميعاً أن التعدد ممارسة ثابتة بالقرآن وبإجماع المسلمين.
لكن ربما بقليل من التفكير، سنعرف كذلك أن إعطاء الزكاة للمؤلفة قلوبهم، ومشروعية الرق، وحكم الجزية وقطع يد السارق، أيضاً أحكامٌ ثابتة بالقرآن والإجماع.
الأحكام قد تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، وهو ما حدث بالفعل في الأمثلة السابقة وغيرها، ولكن أحياناً نخشى من تفعيل تلك القاعدة عندما يتعلق الأمر بمنع الامتيازات عن الرجال، ولكن نطبّقها بكل راحة عندما نضع مثلاً تعريفاً جديداً للربا، وفي تلك الأحوال، لا ننبري دفاعاً عن الإسلام ولا نرفض الاجتهاد مع النص.
كيف حدث الاجتهاد مع النص؟
الاجتهاد في مسألة التعدد حدث بالفعل، من شيوخ ومفتين، أصدروا فتاوى لم يُكتب لها أن تصل إلى مرحلة التشريع إلا في تونس.
فمثلاً، رأى الإمام محمد عبده، والشيخ محمد رشيد رضا أن التعدد يُباح فقط للضرورة، نظراً لما ينجم عنه من مشاكل:
ـ سوء معاملة الرجال لزوجاتهم في حالة التعدد، وحرمانهنّ من حقوقهنّ هو الأمر الغالب؛
ـ انتشار العداوة بين أولاد الضرائر نتيجة الكره بين الأمهات؛
ـ من أصول الإسلام منع الضَّرَرِ والضِّرَارِ، فإذا ترتبت مفسدة على شيء في زمن ولم تكن كذلك من قبل، فيجب تغيير الحكم وتطبيق قاعدة "درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح".
كذلك قدّم الشيخ التونسي محمد الطاهر بن عاشور نظرة مقاصدية لمسألة التعدد، فعندما سأله القاضي الشيخ محمود شمام، الذي كان مكلفاً بتحرير النصوص القانونية لمجلة الأحوال الشخصية، عن التعدد، وهل يجوز إيقاف العمل به إذا اقتضت المصلحة ذلك؟ أجابه بأن الجواب عن هذا يقتضي عناصر ثلاثة:
1ـ الاعتراف بحلية التعدد بشروطه؛
2ـ وجود المضرة من التعدد وإقامة الدليل على ذلك؛
3ـ التعدد مباح، ويجوز بصورة محققة لولي الأمر أن يمنع الناس من فعل هذا المباح، لوجود مضرة فيه، والتاريخ الإسلامي حافل بأمثلة تدل على ذلك، من تصرّفات الصحابة.
نرى عمر بن الخطاب، عندما ترمّلت ابنته حفصة، يعرضها على أبي بكر للزواج، ثم عثمان بن عفان، وتزوجت من بعد ذلك بالرسول، وهذه الحالة لم تكن غريبة، مما يخبر عن أن نظام الحماية والأمان الوحيد في تلك الفترة كان هو الزواج
أما الفقيه التونسي الطاهر الحدّاد، فرأى منع التعدد بالكلية، وذلك لأن العرب بشكل عام كانوا يعدّدون لاستعمال النساء في الخدمة، ووضَع الإسلام حداً لذلك باقتصار الرجل على أربعة، ثم اشترط العدالة بينهن، ثم عبّر القرآن عن تعذّر العدل {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم}. والسبب الآخر أن التعدد منافٍ للآية التي تشرح أن الزواج يقوم على المودة والرحمة {ومن آياته خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} (آية 21 من سورة الروم).
أهمية السياق
التعدد مذكور في القرآن في الآية 3 من سورة النساء، في سياق حماية اليتامى والأرامل وتوخي العدل في معاملتهم، لأن الرجال كانوا يسعون للزواج من اليتامى اللواتي في حجورهم، ثم لا يعاملونهن بالقسط. وفي أسباب النزول في هذه الآية ذكر أنها أنزلت بعد موقعة أُحُد واستشهاد كثير من الصحابة، وبالتالي ترمّل نسائهم. وفي حال الأرامل المهاجرات من مكة، لم يكن لديهن عائلات تحميهن. لكن نرى أن التراث الفقهي لم يولِ اهتماماً لدلالة سياق نزول هذه الآية وشرّع معظم الفقهاء بالإباحة المطلقة للتعدد.
كذلك، نرى عمر بن الخطاب، عندما ترمّلت ابنته حفصة، يعرضها على أبي بكر للزواج، ثم عثمان بن عفان، وتزوجت من بعد ذلك بالرسول، وهذه الحالة لم تكن غريبة، مما يخبر عن أن نظام الحماية والأمان الوحيد في تلك الفترة كان هو الزواج.
يقول الباحث في التراث والخطيب في وزارة الأوقاف المصرية ياسر سلمي لرصيف22 إن تحريم أو تجريم التعدد غير وارد، لكن تقييده ممكن، كأخذ موافقة الزوجة الأولى، وإعطائها كافة حقوقها إنْ أرادت الطلاق للضرر، وهو تقييد يتماشى مع تحريم الإسلام للكذب، لأن الزوج إذا لم يخبر زوجته الأولى فحتماً سيكذب عليها. كذلك يرى ضرورة التأكد من قدرة الزوج مالياً وجسدياً على التعدد قبل السماح له بذلك.
هذا التقييد هو ما طبّقته بالفعل بعض الدول العربية. ففي الجزائر والمغرب، يجب الحصول على ترخيص للزواج من المحكمة في حالة اتخاذ زوجة ثانية، ولا يُعقد الزواج دون موافقة الزوجات الحاليات، وتقديم مبررات للرغبة في التعدد، وما يدل على قدرة الراغب على العدل.
في استبيان شمل عدداً من أبناء زيجات متعددة، قال أحدهم: "شعرت برفض للدين لأنه سمح بالظلم والخيانة"... أتمنى أن يقرأ رجال الدين هذه العبارة مراراً وتكراراً، ويفكروا في كيف وصل البعض إلى هذا الاستنتاج؟ وما هو دورهم في ذلك؟
الجدير بالذكر أن وزارة الحقانية (العدل حالياً) في مصر أعدّت مشروعاً لتعديل القانون في عام 1927، بمشاركة رئيس المحكمة الشرعية العليا الشيخ محمد مصطفى المراغي، لتعديل بعض أحكام الأحوال الشخصية، جاء في المادة الأولى منه: "لا يجوز لمتزوج أن يعقد زواجه بأخرى، ولا لأحد أن يتولى عقد هذا الزواج أو يسجله إلا بإذن من القاضي الشرعي"، وهو مشروع لم يبصر النور.
ضرورة أم نزوة؟
يرى سلمي أن التعدد قد يكون ضرورياً في بعض الحالات، كحالة الزواج من امرأة عاقر لا تريد أن تفارق زوجها حتى لو تزوج ثانية بغرض الإنجاب، وكذلك في حال إصابة الزوجة بمرض يمنعها من ممارسة العلاقة الحميمة.
وأنا هنا، ولا أعرف حقاً إنْ كنت أنا الوحيدة، لا أعلم بالتحديد ما هي الأمراض التي قد تجعل الزوجة تمتنع عن العلاقة الحميمة... هي مجرد جملة ظل يرددها الفقهاء حتى أصبحت وكأنها معلومة مثبتة علمياً. أتمنى أن أعلم ما هي تلك الأمراض يوماً ما.
في المقابل، أشارت عدة دراسات محلية في دول عربية إلى أن معدلات خلل الانتصاب في المنطقة العربية تزيد عن 40%، ومن أسباب ذلك زيادة عوامل الخطر، مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري والسمنة، مع عدم السيطرة على تلك الأمراض حال وجودها، والتأخر في استشارة الطبيب، وعدم الالتزام بالعلاج بعد التشخيص.
أيضاً، كم حالة من حالات التعدد في واقعنا المعاصر حدثت بسبب أن الزوجة عاقر؟
قامت كاتبة المقال بعمل استبيان لأبناء في زيجات تعددية، واستقبلت فيه نحو 35 استجابة، وحاولت من خلاله البحث في أسباب التعدد الحقيقية وليس النظرية، وكما توقعت، إجابة واحدة فقط كانت أن التعدد جاء بغرض الإنجاب.
ورأى 13 من أصل 35 أنه لا يوجد سبب للزواج الثاني، أو أن السبب هو الأنانية، أو استجابة غير مسؤولة للرغبات الجنسية، أو قلة تقدير لمجهود الزوجة، بينما رأي ثلاثة مشاركين أنه احتياج للتغيير.
وبالطبع، لم يذكر أحد الأمراض التي منعت الزوجة من العلاقة الحميمة.
على الجانب الآخر، أوحت سبع من الإجابات بأن قرار التعدد ناجم عن خلافات بين الزوجين، أو عن وجود فروقات ثقافية، أو طلباً للمتعة الحلال عاطفياً أو جنسياً.
وعن أسباب التعدد، ترى المستشارة النفسية سمر عبده أن من أشهر أسباب التعدد هي محاولة الزوج الهروب من المشاكل الزوجية، فبدلاً من الإصلاح، يتراءى له أن التعدد سيعطيه الإشباع الذي يحتاجه، ثم يُفاجأ بكم رهيب من المسؤوليات والمشاكل بعد ذلك.
وتضيف لرصيف22 أن الرجال اعتادوا على هذا النمط من التعايش، لأنهم لم يعتادوا التواصل مع أنفسهم ومشاعرهم، فمنذ الصغر يجدون أنفسهم محاصَرين بأوامر من نوعية: إياك أن تبكي، يجب أن تتحمل الأشياء القاسية. وبالتالي يشعرون، بشكل تلقائي، بالخزي إذا تحدثوا عن مشاعرهم، وهو ما يحتاج إلى التغيير في التعامل مع الذكور منذ الصغر.
رفض الدين؟
بالرغم من تنوّع الإجابات التي تشرح أسباب التعدد، وجدتُ الإجابة الأكثر واقعية هي: "سبب التعدد هو عدم الوعي بالعواقب المترتبة عليه". هذا الرد ربما يلخص الكثير من المعاناة.
جاءت العديد من الإجابات تشتكي من غياب الأب: "كأن ما عندناش أب"، "مشفناش أبونا خالص"، "أخويا الكبير كان بالنسبة لي أبويا أكتر من أبويا الحقيقي".
بينما رأى مبحوثون آخرون أن التعدد أثّر عليهم سلباً في النواحي المادية في حياة الأب أو حتى بعد مماته في صورة نزاع على الميراث: "بشق الأنفس استطعنا إكمال تعليمنا"، "اتفوقت في دراستي عشان أبقي بقبض كتير ومحتاجوش".
أما عن الآثار النفسية، فحازت قدراً لا بأس به من الاستجابات، ربما توجزها هذه الإجابة: "نفسية في الأرض"، أو: "فقدت الإحساس بالأمان". هذا بالإضافة إلى بعض الإجابات التي تحدثت عن إصابة أصحابها بالاكتئاب مما حدث للأم: "أهم شيء نفسيه أمي المتدمره المغلوب على أمرها وتحملها فقط العيشة معه لأنها لا تستطع إعالتنا"؛ "حزن أمي الدائم وبكاؤها سراً طوال الليل"؛ "إحساس بالظلم والعجز لما حدث لأمي، اكتئاب".
ترى عبده أن الأولاد يتأثرون بحسب أعمارهم، ففي السن الصغير، نجد الأطفال محملين بمشاعر لا يعرفون مصدرها، وعندما يكبرون، يمكن أن يتحزبوا للأب أو للأم، وهو ما ينعكس سلباً على نفسيتهم ومستوى تحصيلهم الدراسي، ويزيد من معدلات العنف في بعض الأحيان.
وعلى الجانب الآخر، يشعر أطفال الزوجة الثانية بوجود خطأ ما، شيء غير مفهوم، وعلاقة مركبة وشديدة التعقيد مع الأب، فمن ناحية هو مصدر الحب، ولكنه كذلك مصدر الألم.
ربما كانت الاستجابة الإيجابية الوحيدة التي وصلتني لأثر التعدد على الأبناء، كان رد اثنين من المبحوثين رأوا أن التعدد أثرى الحياة الأسرية، وأن كثرة الإخوة كانت إيجابية.
وتعليقاً على ذلك، تقول عبده: "هناك زيجات تعددية، تبدو وكأنها عائلة كبيرة مترابطة، ويراها البعض نموذجاً إيجابياً للتعدد، لكن لو أمعنّا النظر سنجد تحت الشكل الجميل والتعاملات الطبيعية كماً كبيراً من السلوك العدواني السلبي (Passive aggression)، وكماً كبيراً من السلبية والنساء اللواتي اخترن أن يعشن دور الضحية، أو أي طريقة أخرى تحاول بها كل منهنّ التأقلم مع هذا الوضع وإقناع نفسها بأنها سعيدة وهي في الحقيقة ليست كذلك".
كل الإجابات السابقة تشي بالألم، إلا أن إجابة واحدة يجب أن تشعرنا بالخطر، وهي: "شعرت برفض للدين لأنه سمح بالظلم والخيانة".
أتمنى أن يقرأ رجال الدين هذه العبارة مراراً وتكراراً، ويفكروا في كيف وصل البعض إلى هذا الاستنتاج؟ وما هو دورهم في ذلك؟ والآن، هل سيساهمون في الاجتهاد، أو على الأقل، يدعون إليه؟ أم الأسهل أن نستسلم لِما وجدنا عليه آباءنا ونتهم المخالفين بالكفر والزندقة.
للأسف، سؤال يحتاج إلى إجابة عملية ولن تكفي فيه الوعود.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعتين??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 22 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون