ضمن تجربة يمكن النظر إليها على أنها خاصة وجديدة، انطلق، مع أول أيام شهر رمضان، عرضُ مسلسل يناقش قضية اجتماعية لا تحظى عادة بكثير من الاهتمام على الساحة الدرامية، وتتعلّق بحياة الأشخاص ذوي الإعاقة في مصر.
يحمل المسلسل اسم "القضية 404"، ويناقش مختلف القضايا التي تشغل بال ذوي الإعاقة، وهم يشكلون حوالي 10% من سكان مصر، وفق بيانات جهاز الإحصاء. وقد بدأت فكرة المسلسل من مبادرة تحمل اسم "عالم موازي"، وتسعى لدعم هذه الفئة عن طريق دمج أفرادها بالمجتمع من خلال مختلف أنواع الفنون المرئية والدرامية.
ويشكّل الاستغلال والتنمّر اللذان يتعرّض لهما الأشخاص ذوو الإعاقة في مصر محور "القضية 404". نرى في المسلسل أحداثاً تدور حول شركة مملوكة لرجل أعمال مشهور لديه العديد من المؤسسات الخيرية، ويستغلّ ذوي الإعاقة لكسب المال تحت حجّة جمع التبرعات، وفي المقابل، تسعى مؤسسة أخرى لإنقاذهم من الاستغلال، ثم رسم مسار حياة جديد لهم بعد مساعدتهم على اكتشاف مواهبهم وتحقيق أحلامهم.
"المسلسل ببساطة يحاول تحقيق أحلام الأشخاص ذوي الإعاقة، ويناقش كل ما يريدون إنجازه على أرض الواقع"، يقول محمد الأنصاري، مخرج المسلسل ومنسّق مبادرة "عالم موازي"، أثناء لقاء مع رصيف22.
"قضايانا تبقى دون حل"
المسلسل هو من كتابة رامز عباس، الذي اشتهر بأنه "الأصم الناطق" في مصر، إذ يعاني من الصمم لكنه قادر على قراءة لغة الشفاه والحديث بطلاقة.في لقاء مع رصيف22، تحدّث الشاب الثلاثيني عن هدفه من كتابة المسلسل: "أردت أن يتفاعل المشاهدون مع الأشخاص ذوي الإعاقة، وأن تتغير معاملة المجتمع لهذه الفئة، كي يصبح صديقاً لهم بدلاً من معاملتهم بنفور".
وتدور محاور المسلسل حول الاستغلال والعنف الجسدي، كالضرب والاغتصاب والتحرش والفقر المقترن بوجود الإعاقة، وهي جميعها عوامل لا تسمح لهؤلاء الأشخاص بالحصول على التأهيل الجيد الذي يتيح لهم الاندماج بالمجتمع، والحصول على فرص عمل وتعليم موازية لما يحصل عليه الأشخاص من غير ذوي الإعاقة. ويشير عباس، الذي يعمل منسقاً إعلامياً في المجلس القومي للأشخاص ذوي الإعاقة بمصر، إلى عدم وجود أي أرقام رسمية تتحدّث عن حالات العنف أو الاستغلال ضمن هذا المجتمع، الأمر الذي لا بد من العمل عليه نظراً لأهميته.
الدمج عن طريق الفن مهم للغاية ويحقق فوائد كبيرة.
ويضيف: "يعاني ذوو الإعاقة في مصر من الإقصاء على كل المستويات، ففي التعليم هم يفتقدون لوجود اختصاصيين للتعامل مع حالاتهم الخاصة، كما أن بعض الفئات، مثل الصمّ، تحتاج لدمج أكبر، وهذا يمكن أن يبدأ من مرحلة التعليم، بما يضمن تعاملهم مع المجتمع بشكل مستمر. والمشكلة الأكبر هي عدم توافر التدريبات التي تؤهل الطلاب ذوي الإعاقة لسوق العمل، وهنا نصل لعدم وجود فرص مناسبة لهم تأخذ مواهبهم ومهاراتهم بعين الاعتبار، فنرى أن ما يسند إليهم من أعمال يكون بسيطاً مثل عمال النظافة، كما أن أجورهم دائماً ضئيلة ولا تتناسب مع مستوى المعيشة والأسعار الحالية".
وأشار عباس إلى أن كتابة المسلسل استغرقت حوالي أربعة أشهر ونصف، وقد استوحى الاسم من شبكة الإنترنت، فعندما يحدث فيها عطل ينتج عنه توقف الخدمة لفترة مؤقتة، ما يستدعي الحاجة للحصول على دعم أو مساعدة تقنية، وهكذا هو حال ذوي الإعاقة في مصر: "نراهم واقفين مكانهم، فلا أحد يهتم بهم بالشكل الكافي، ولا أحد يساعدهم على الاندماج في مختلف المجالات العملية".
أبواب مغلقة
المسلسل لم يهدف فقط لطرح قضايا ذوي الإعاقة على الشاشة، وإنما أيضاً لدمجهم عن طريق الفن، ما يحقق فائدة لجميع المشاركين، فمن جهة، تفتح فرصاً وآفاقاً جديدة للأشخاص ذوي الإعاقة، وهي عادة نادرة جداً في المجتمع المصري، ومن جهة، يُتاح للمشاركين من غير ذوي الإعاقة التعرف عن كثب على هذه الفئة المهمشة ومواكبة همومها وقضاياها.يعاني ذوو الإعاقة في مصر من الإقصاء على كل المستويات، ففي التعليم هم يفتقدون لوجود اختصاصيين للتعامل مع حالاتهم الخاصة، ولا تتوافر التدريبات التي تؤهلهم لسوق العمل، وهنا نصل لعدم وجود فرص مناسبة لهم تأخذ مواهبهم ومهاراتهم بعين الاعتبار
ويتحدث المخرج محمد الأنصاري عن مرحلة التصوير واختيار الممثلين: "عندما بدأنا بتصوير المسلسل وجدنا مواهب لم نكن نتخيلها لدى الأشخاص ذوي الإعاقة، فهم أبطال ولديهم أحلام كبيرة حاولنا تحقيقها". وأضاف بأن التصوير تضمّن ورشات فنية لتدريب الممثلين على أداء المشاهد التي تتطلّب مهارات معينة، ما يعني بأن المسلسل أيضاً فتح باب تنمية المهارات لهذه الفئة أيضاً.
ويرى الأنصاري بأن الدمج عن طريق الفن مهم للغاية ويحقق فوائد كبيرة، فلا بد من قبول عمل ذوي الإعاقات المختلفة كممثلين في المسلسلات والأفلام، "فهم قادرون فعلاً على الإبهار بعيداً عن الصور النمطية التي يُختزلون بها"، واصفاً مسلسل "القضية 404" بأنه "ليس حدثاً عابراً ولا يجب أن يكون، فالدمج عن طريق الفن يمكن أن يحول قضية التنمّر إلى سلوك سيئ يخاف الجميع من ممارسته، كما سيعزز شعور الثقة والانتماء لدى الأشخاص ذوي الإعاقة، وبالتالي سيكون بداية للحد من السلوكيات السيئة والعنيفة التي يتعرضون لها".
وعن التحديات التي واجهت العمل، تحدث الأنصاري وعباس بشكل أساسي عن صعوبة العثور على شركة إنتاج تقدم الدعم المادي اللازم، وذلك لعدم اهتمام معظم الشركات بهذا النوع من الأعمال، ما اضطرّ الفريق للعمل ضمن إمكانيات متواضعة، وبحسب الأنصاري، فإن "معظم مؤسسات المجتمع المدني والجهات الحكومية تكتفي بالاستماع لأفكارنا دون تقديم أي دعم"، في حين يضيف عباس بأن "الأبواب المغلقة لا تحرم فقط ذوي الإعاقة من النجاح، بل تحرم الدولة من فرصة الاستفادة منهم كموارد بشرية معطلة، وهو ما يتناقض بشدة مع شعار الدولة للتنمية المستدامة ورؤية مصر 2030".
تجربة فريدة للجميع
شكلت المشاركة في مسلسل "القضية 404" تجربة فريدة لكافة الممثلين والعاملين فيه.هبة أسعد التي لعبت دور ابنة أحد رجال الأعمال في المسلسل، وهي من المصابين بمتلازمة داون، أشارت في لقاء مع رصيف22 إلى أن الفن في مصر مقصّر للغاية في عرض قضايا ذوي الإعاقة، وأيضاً في دمجهم، ومع دراستها للتمثيل والمسرح من خلال ورشات فنية، وكونها الآن طالبة في كلية الإعلام، جاءت المشاركة في المسلسل كفرصة غنية بالنسبة لها، وشجّعتها على تحدي نفسها وتحدي نظرة المجتمع لها بأنها لن تكون قادرة على الظهور في عمل فني على الشاشات.
وضمن اللقاء، أشارت سونيا بيومي، وهي والدة هبة، إلى الأثر الإيجابي الكبير الذي تركته هذه المشاركة على ابنتها، وأيضاً على قضايا ذوي الإعاقة بشكل عام، وهي إن عرضت في الأعمال الدرامية، فتكون من خلال نظرة سيئة وسلبية للغاية.
هذا النوع من الدمج يساعد على قبول ذوي الإعاقة للآخرين وتقبّل الآخرين لهم. من أساسيات أي مجتمع وجود مراكز وفرص تتيح لجميع الأشخاص المشاركة العادلة في الحياة العامة، وعدم دمج ذوي الإعاقة يحكم عليهم بالعزلة الأبدية والشعور بعدم الانتماء للمجتمع والبلد
محمد الحسيني هو أيضاً من المشاركين في المسلسل، ومن مصابي متلازمة داون. التقى رصيف22 بالشاب العشريني ووالده، وأشارا إلى أن التجربة كانت فريدة للغاية، "فذوو الإعاقة يحبون الفن والتلفاز، ولدى الكثيرين منهم موهبة الوقوف أمام الكاميرا، ودمجهم في الفن سينقلهم نقلة نوعية في حياتهم، فلا يعودون غرباء عن مجتمعهم، وتتغير النظرة إليهم بشكل تراكمي مع الأيام".
وتابع والد الشاب بالقول: "دور الفن مهم للغاية في حياة ذوي الإعاقة، وتأثيره إيجابي عليهم، لأن لديهم من التحدي والطاقة ما يكفي لإنجاز المهام الموكلة إليهم، خاصة أولئك الذين يتمتعون بالموهبة المطلوبة"، ثم أضاف متسائلاً بلهجة مرحة: "ليه ميبقوش ممثلين ويكون ليهم بوسترات فى الشوارع ويمثلوا مع أحمد السقا وأمير كرارة ويظهروا مع الممثلين المشاهير؟".
بدورها ترى عزة عبد الهادي، وهي من المشاركين في المسلسل، من غير ذوي الإعاقة، بأن "للفن دوراً كبيراً في حياة الإنسان، فكيف إن كنا نتحدث عن أشخاص تتاح لهم عادة فرص قليلة للغاية؟ رأيت من خلال مشاركتي كيف فتح هذا المسلسل الباب لهم للإبداع والمواجهة والظهور أمام المجتمع بشكل لائق".
وأضافت الممثلة الخمسينية في حديثها لرصيف22: "هذا النوع من الدمج يساعد على قبول ذوي الإعاقة للآخرين وتقبّل الآخرين لهم. من أساسيات أي مجتمع وجود مراكز وفرص تتيح لجميع الأشخاص المشاركة العادلة في الحياة العامة، وعدم دمج ذوي الإعاقة يحكم عليهم بالعزلة الأبدية والشعور بعدم الانتماء للمجتمع والبلد، وبالتالي إحساسهم بعدم الأمان".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...