تتنوع أسباب الإعاقات في غزة، من آثار العدوان الإسرائيلي المتقطِّع على القطاع، أو من زواج الأقارب، في مجتمعات تميل إلى المحافظة والانغلاق، خاصة بعد عزلها جغرافياً عن الضفة الغربية من قِبَل الاحتلال، وسياسياً بعد سيطرة حماس.
لا تعكس الأرقام والإحصائيات حجم المعاناة والتحديات التي يجد فيها أصحاب القدرات الخاصة أنفسهم بمواجهتها، البعض استسلم لموجات اليأس والعزلة، ولكن آخرين قرروا، ليس فقط الاندماج، بل ومنافسة الجميع، وحقَّقوا نجاحات ملحوظة.
تطريز كوفية ياسر عرفات بالقدمين
آية مسعود (20عاماً)، تحدّت "الإعاقة" التي لازمتها منذ الولادة، شقَّت طريقها في الحياة بموهبتها عبر الرسم وهي طفلة لم تتجاوز 13 عاماً.
كانت تشخبط وهي طفلة رسومات مثل شخصية ياسر عرفات، وجبال وشمس، وشخصية "معاقة" لكن مُفعمة بالأمل، لم تمنعها "إعاقتها" من دخول المدرسة، أنهت مرحلتها الثانوية بتفوق ونجاح، رغم أنها لا تمتلك يدين، فتقديمها للواجبات المدرسية والامتحانات كان عبر قدميها.
بعد ذلك، التحقت آية بالجامعة، درست تخصص الوسائط المتعددة، ولا تستخدم آية قدميها في مجال الرسم فقط، بل في الكتابة، والتطريز، وبعض الاستخدامات الأخرى.
بدأت قصتها مع التطريز عندما تعرَّفت على صديقتها ناريمان، قبل عامين في إحدى المسابقات التكنولوجية، والتي زرعت في روحها الأمل بالاتجاه إلى فن التطريز ، إلى جانب موهبتها في الرسم، لتعمل على دمج الفنين في فنّ واحد، من خلال تطبيقها على قطع القماش، وبالفعل التحقت بمشروع "فلسطينيات" الخاص بالتطريز والتراث الفلسطيني.
تقول آية لرصيف22 : "في بداية الأمر كنت أخجل من نظرات الناس، والكل يشعر بالاستغراب عند مشاهدتي، لكن تعودت على ذلك، فمثلا عندما يسألني الأطفال أين يداك، أبتسم لهم، وأقول سبقوني إلى الجنة ".
وتكمل وهي تقلّب قطعة القماش بقدميها، وفي عينيها بريق: "لم أستسلم أبداً، فهذا هو قدري، هناك العديد من الصعوبات التي مررت بها لكن بالدعم الذي كان من صديقاتي تغلبت على تلك الصعوبات، وأثبت ذلك عندما قت بتحويل الرسومات من على الورق الى قطع القماش، وأطمح أن يكون لي مشروعي الخاص بالتطريز".
تذهب آية في رحلتها اليومية من مدينة غزة إلى دير البلح، حيث مكان مشروع "فلسطينات"، لتبدأ عملها هناك، في الوقت الذي تجلس فيه على الأريكة، تعطي ناريمان أبو عبيد، وهي مديرة المشروع، الخيط لصديقتها من أجل "برم" إبرة التطريز، وبأصابع قدميها تلتقط آية الإبرة بإتقان. تبدأ يومها السادس في رسمها لصورة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وتحديداً كوفيته الموشحة باللونين الأبيض والأسود على قطعة القماش، تغرس الإبرة بقدمها اليمنى، وتسحبها باليسرى مرَّة أخرى.
تعيش آية في منزل بسيط وسط مدينة غزة مع عائلتها، فهي تمارس حياتها بشكلها المعتاد، وتتمتع بعلاقات اجتماعية جيدة مع أفراد العائلة وصديقاتها.
تقول بديعة (59 عاماً)، والدة آية: "منذ أن كانت آية صغيرة لم نشعرها بأنها عاجزة عن فعل شيء، فكنا نوفر لها كل ما تحتاجه، وعندما تفعل شيء يصعب عليها تنفيذه، نوافق عليه، ونجعلها تحاول كي لا تشعر بالعجز".
وتضيف بديعة، ربة منزل، في تصريحات لرصيف22: "عندما كنت أشاهد صديقات آية يأكلن ويشربن بأيديهن وهي لا تستطيع فعل ذلك، كنت أشعر بالحزن والأسى، ولكني لا أظهر ذلك أمامها حتى لا تشعر بالنقص، بل جعلناها تعتمد على نفسها وتمارس حياتها بشكل طبيعي، وكأنها لم تفقد أطراف جسدها العلوي قط".
"زادت الزبائن بعد تعيين ميساء"
داخل مطعم "سنونو"، والذي يقع على أحد المفترقات الرئيسية في حي "تل الهواء" في مدينة غزة، وقفت ميساء مرتجى، وهي ترتدي قبعة بيضاء، ومريولاً أبيض، لتعمل على وضع الكريمة فوق قالب الكيك حتى يصبح جاهزاً للعرض داخل المطعم.
"هذا المطعم أصبح مقصداً للكثير من ذوي الإعاقة السمعية، من أجل تذوق الحلويات التي تصنعها ميساء، فمنذ قدومها إلى المطعم زاد عداد الزبائن، فهذه الفئة المهمشة داخل غزة يجب الاعتناء بها وتشغيلها ودمجها داخل المجتمع"
"ترجع أسباب وجود أعداد كبيرة لذوي القدرات الخاصة في المجتمع الفلسطيني إلى زواج الأقارب، وعدم الاهتمام بالأطفال حديثي الولادة، خاصة إذا وجد علامات على ذلك، والحروب الإسرائيلية المتكررة"
ميساء مرتجى ولدت وهي تعاني من "إعاقة" في السمع والنطق، لكن على الرغم من إعاقتها عملت على تعلّم صناعة الحلويات قبل عام 2011، عندما قامت بالتسجيل في دورة تختصّ في تعليم أساسيات صناعة الحلويات داخل جمعية "أطفالنا" للصم، وبالفعل تعلمت إعداد الحلويات حتى وصلت حد الإتقان.
تعمل ميساء اليوم داخل المطعم الذي انضمَّت إليه حديثاً، وتصاحبها في العمل صابرين، صاحبة المطعم، تقول : "هذا المطعم أصبح مقصداً للكثير من ذوي الإعاقة السمعية، من أجل تذوق الحلويات التي تصنعها ميساء، فمنذ قدومها إلى المطعم زاد عداد الزبائن، فهذه الفئة المهمشة داخل غزة يجب الاعتناء بها وتشغيلها ودمجها داخل المجتمع".
"رسالتي لا يوجد شخص محدود القدرات"
أما محمد طوطح، فلديه حلم وتطلعات مختلفة تكاد تكون مناقضة لتكوينه الجسماني، فهو يحلم منذ الصغر برياضة الكاراتيه، رغم "إعاقته" قي قدمه، يقول لرصيف22: "منذ صغري وأنا أحلم بأن أكون لاعباً، هذا الشيء خلق عندي حب ممارسة هذه الرياضة، ونظراً لإعاقتي التي كان سببها الاحتلال الإسرائيلي أثناء إصابتي خلال حرب 2008، وأدت الإصابة الى بتر قدمي، لم أتخيل أن أمارس هذه الرياضة في يوم من الأيام، خاصَّة أنّي مبتور القدم".
لم أتخيل أن أمارس هذه الرياضة في يوم من الأيام، خاصَّة أنِّي مبتور القدم".
ويتابع طوطح، مستعرضاً قصته مع الرياضة التي يهواها: "أسكن في حي الزيتون داخل قطاع غزة، وأبلغ من العمر 30 عاماً، في بداية الأمر كانت هناك صعوبة أثناء ممارستي لهذه الرياضة، لكن مع التعود تغلبت على تلك الصعاب، أسعى الى محاربة النظرة المجتمعية السلبية تجاه الأشخاص ذوي القدرات الخاصة، وتحويلها الى إيجابية".
وأضاف: "أتمنى السفر والمشاركة في مسابقات رياضية دولية من أجل تمثيل دولتي فلسطين في المسابقات والمحافل الرياضية، وأقوم بإيصال رسالة بأنه لا يوجد هناك شخص يعاني من إعاقة".
ويعاني ذوو القدرات الخاصة في قطاع غزة من نقص الإمكانيات، والدعم المطلوب الذي يجعلهم يبدعون داخل المجتمع الغزي المحاصر، فمنهم من ينتفض في وجه الظروف، ويصنع من تلك "الإعاقة" مفتاحاً للمستقبل، ويشق طريقه نحو تحقيق هدفه.
وبحسب مركز الإحصاء الفلسطيني، بلغ عدد الأفراد ذوي القدرات الخاصة من الذكور حوالي 27 ألف بنسبة 2.9% من مجموع الذكور، وحوالي 21 ألف للإناث بنسبة 2.3% من مجموع الإناث في قطاع غزة، فيما بلغ عدد الأفراد من الأشخاص ذوي القدرات الخاصة من الذكور حوالي 24 ألف بنسبة 1.9% من مجموع الذكور، وحوالي 20 ألف للإناث بنسبة 1.6% من مجموع الإناث في الضفة الغربية.
وعلى الرغم من وجود مؤسسات تهتم بالأشخاص ذوي القدرات الخاصة إلَّا أنَّ تلك المؤسسات تعتبر قليلة مقارنة بالأعداد الكبيرة، وتفتقر للدعم المطلوب، حيث بلغ عدد تلك المؤسسات التي تقدم خدمات اجتماعية وصحية وثقافية للأشخاص ذوي الإعاقة ما يقارب 55 مؤسسة.
زواج الأقارب وحروب إسرائيل
يعلق حسن الراعي، مدرب مختص بتدريب الأشخاص ذوي القدرات الخاصة، على زيادة أعداد هؤلاء: "ترجع أسباب الأعداد الكبيرة للأشخاص ذوي القدرات الخاصة في المجتمع الفلسطيني إلى زواج الأقارب، والأمراض الناتجة عنه، إضافة إلى عدم الاهتمام بالأطفال حديثي الولادة، خاصة عندما توجد لديه إعاقة بسيطة، ولا يتم متابعته وعلاجها فتتفاقم، مثل الإعاقة البصرية وغيرها من الإعاقات التي يمكن علاجها بالصغر".
وأضاف الراعي لرصيف22: "إنَّ الحروب المتكررة على قطاع غزة جعلت نسبة الإعاقات في تزايد مستمر نتيجة الدمار والقصف".
ويتفق مع الراعي المختصّ الاجتماعي بالأشخاص ذوي القدرات الخاصَّة، ظريف الغرة، يقول لرصيف22: "يعيش ذوو القدرات الخاصة في ظروف اقتصادية واجتماعية غاية في الصعوبة والتعقيد، في ظل الحصار والظروف المعيشية القاسية، إضافة إلى تزايد أعدادهم بفعل الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وتناقص في الخدمات المقدمة لهم على كل المستويات المعيشية".
والحل بالنسبة للغرة: "دعم الأشخاص ذوي القدرات الخاصة عبر تمكينهم من الحقوق التي كفلها لهم القانون الفلسطيني والاتفاقيات الدولية، والتي من خلالها يمكن أن نرتقي بهم".
ولفت الغرة إلى أن تدنِّي فرص المشاركة في الحياة العامة هي السبب الرئيس في اختلاف النظرة المجتمعية للأشخاص ذوي القدرات الخاصة، وينهي حديثه قائلاً: "على الرغم من ذلك إلا أنهم يجدون الكثير من النماذج الإيجابية والابداعية التي يقدمها ذوو القدرات الخاصة، على مختلف المستويات الرياضية والفنية والإدارية والمهارية وغيرها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...