"ميلاد دولة جديدة بافتتاح العاصمة الجديدة... إعلان جمهورية ثانية". هكذا أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تدشين "دولة جديدة"، في كلمته بالندوة التثقيفية للقوات المسلحة، المنعقدة في التاسع من آذار/ مارس 2021، ما أثار ردود فعل متباينة، انقسم فيها المصريون بين التشكيك والسخرية والتفاؤل والتأييد، وإنْ اتفقوا على غموض التعبير والتباسه.
حديث السيسي عن "دولة جديدة" لم يكن حديثاً عشوائياً أو تعبيراً ارتجالياً وليد اللحظة، فالعاصمة الإدارية هي جزء من خطة أوسع تسير بخطى ثابتة، لتغيّر شكل مصر إلى ما يطمح إليه الرجل.
معلومات أدق تعني أموال أكثر
هذا باختصار هو جوهر مشروع السيسي لتغيير شكل مصر.
أعلن الرئيس المصري أكثر من مرة أن إدخال الاقتصاد غير الرسمي في منظومة اقتصاد الدولة وإخضاعه للمراقبة هو أحد الأهداف الأساسية للدولة، وهو ما ظهر في رؤية مصر 2030 التي أطلقها بنفسه.
تحقيق هذا الهدف يضمن تحقيق حزمة أخرى من الأهداف، منها تحقيق عائد كبير للدولة من الضرائب على الأنشطة الصناعية والتجارية التي لا تزال خارج مظلتها إلى الآن، ما يساعدها على تنفيذ مشاريعها التنموية، فضلاً عن كونه يغنيها ولو نسبياً عن انتظار الدعم الخليجي أو القروض الدولية.
ولتحقيق ذلك الهدف قرر النظام التحرك في مسارين متوازيين: الرقمنة والشمول المالي.
وبعيداً عن اختلاف الرؤى وتباين الانحيازات، يظل مهماً أن ندرك ما الذي يحدث في مصر الآن؟ ولماذا؟
البداية… التقاء الإرادات
كان الاكتتاب في مشروع قناة السويس بمثابة المصباح الذي أضاء ليكشف عن حجم الأموال التي تتحرك في ظلام الاقتصاد غير الرسمي، خارج المنظومة المالية المستقرة (البنوك).
فُوجئ النظام بـ61 مليار جنيه تُجمع خلال ثمانية أيام فقط، 90% منها أتت من الأفراد وفقاً لتصريحات محافظ البنك المركزي المصري حينها هشام رامز.
نتحدث هنا عما يقارب الـ55 مليار جنيه جاء أغلبها "من تحت البلاطة" بعيدا عن البنوك، كانت كافية لأن يكتشف النظام حجم الاقتصاد غير الرسمي، والغير قابل للحصر أو السيطرة.
التقت هنا إرادتان: إرادة الجنرال القوي الباحث عن مشروع كبير لعصره يحدث تغييراً حقيقياً وجذرياً في البلاد يُنسب إليه، وإرادة مصطفى مدبولي، المهندس القادم من الهيئة العامة للتخطيط العمراني، وبحوزته كثير من الخطط التي أعد جزءاً كبيراً منها في عهد حكومة أحمد نظيف، لمشروعات تنتظر مَن يملك الجرأة على تنفيذها.
اختُبر مصطفى مدبولي في منصب وزير الإسكان، وحين أثبت كفاءته، صُعّد في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 إلى قائم بأعمال رئيس مجلس الوزراء، قبل أن يتولى المنصب رسمياً في حزيران/ يونيو 2018، ليبدآ معاً، الجنرال والمهندس، مسيرة "رؤية مصر 2030".
عقل الدولة "تحت الأرض"
رغم مركزية الدولة المصرية الشديدة، إلا أنها عانت دائماً من نقص معلوماتي في منظومتها، فقد كان شاغلها الأساسي دائماً هو الإلمام بالتفاصيل التي تهم أمنها السياسي بمنظوره الضيق والمباشر. أما المعلومات الحياتية الخاصة بالمواطنين، وبرغم كونها أداة أساسية من أدوات الحكم، إلا أنها ظلت لعقود مبعثرة بين جزر الإدارات المنعزلة بلا أدنى استفادة: الضرائب لا علاقة لها بالشهر العقاري، الذي لا يعرف شيئاً عن الصحة، التي بدورها لم تفكر يوماً في التنسيق مع التعليم.
أطنان من الأوراق مكدسة في ملفات الوزارات المختلفة، بلا أدنى تعاون أو رابط.
من هنا بدأ السيسي مشروعه عبر السعي للإلمام بكل تلك "الداتا"، وتجميعها في نقطة مركزية. ولذلك استحدث منصب "مستشار رئيس الجمهورية لشؤون الحوكمة والبنية المعلوماتية"، وأسنده إلى اللواء محمد عرفان، رئيس هيئة الرقابة الإدارية.
قيل حينها إن هذا المنصب مجرد منصبٍ وهمي، خُلق خصيصاً ليكون ترضيه للرجل "بعد الإطاحة به من منصبه في الرقابة"، لكن الدلائل والمؤشرات الظاهرة في تصريحات رئيس الدولة نفسه، تكشف عن اهتمامه الخاص بالمعلومات، التي باتت رأس حربة مشروعه.
حديث السيسي عن "دولة جديدة" لم يكن حديثاً عشوائياً أو تعبيراً ارتجالياً وليد اللحظة، فالعاصمة الإدارية هي جزء من خطة أوسع تسير بخطى ثابتة، لتغيّر شكل مصر إلى ما يطمح إليه الرجل
وهو الاهتمام الذي عبّر عنه في جلسة التحول الرقمي في مؤتمر الشباب السابع، عندما أعلن أن كل البيانات الحكومية سوف تتجمع في نقطة مركزية أسماها "عقل الدولة" في العاصمة الإدارية الجديدة، مبيناً أنه يمكن من خلال هذا العقل تنسيق التعامل والاتصال بين الوزارات والجهات المختلفة، على كافة المستويات.
فلسفة التحول الرقمي
على الموقع الرسمي لوزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ستجد شرحاً لـ"التوجه الاستراتيجي" للتحول الرقمي في الدولة المصرية، والذي يهدف وفقاً لما هو مذكور إلى التحول إلى حكومة مترابطة رقمياً، لتحسين جودة حياة المواطن، وتعزيز قيم الشفافية والمحاسبة والمراقبة.
وبعيداً عن المصطلحات المعقدة، المقصود من الرقمنة ببساطة هو أن تتحول الدفاتر والملفات المكدسة على أرفف الأجهزة الحكومية إلى نسخ رقمية تُرفع على سيستم، يَسهُل البحث فيه عن أي معلومة. وبذلك تظهر كافة بيانات المواطن أو المؤسسة: الصحية، الأمنية، الاجتماعية، إلخ، بضغطة زر.
هذا التحول سيحقق للنظام ثلاثة مكاسب أساسية، بجانب الأهداف الرسمية المعلنة على موقع الوزارة:
- سيقلص من عدد الموظفين في الجهاز الحكومي المترهل. هذا بالطبع لا يعني أن الموظفين سيتم فصلهم، بل ممكن أن يتم ذلك عبر تسويات مبكرة، بجانب التوقف عن تعيينات جديدة، وهو ما بدأت فيه الدولة بالفعل، ومع الوقت تتخلص الدولة من تركة البيروقراطية الثقيلة.
- سيقلل الاشتباك المباشر بين المواطن والموظف، ويحدّ من التلاعب بالدفاتر، وهو ما سيغلق باب فساد في الشريحة المتوسطة والدنيا من الإدارات الحكومية، خاصة وأن مصر مستمرة في التراجع في مؤشرات الفساد، إذ حلت في المركز 117 من ضمن 180 دولة على مؤشر مدركات الفساد لعام 2020.
- أما أهم المكاسب، فهو أن ربط كل الوزارات بعضها بالآخر وتشبيكها بالبنوك يعني سد كل المنافذ أمام "الاقتصاد غير الرسمي" وإجباره على الدخول في المنظومة الحكومية. وتلك هي الجائزة الكبرى من وراء الرقمنة.
آلية الرقمنة وخطواتها
هشام عوف، مدير أحد الشركات المسندة إليها عملية الرقمنة، يشرح لرصيف22 خطة عمل المشروع قائلاً: التحول الرقمي يسير في مسارين: الأول، إنشاء منصات (Software platforms) ضخمة قادرة على تحميل كل هذا الكم من البيانات؛ والثاني تحويل "البيانات" المسجلة في دفاتر الدولة، إلى صيغة رقمية.
وقد تم اختيار ست شركات متخصصة لتنفيذ تلك المهمة، تحت إشراف مباشر من رئيس الوزراء شخصياً.
مشروع السيسي في عمقه سوف يخلق طبقة اقتصادية جديدة، ويقلص دور طبقة قديمة. سينتج فرص عمل، لكنه سيرفع الأسعار ويقلل الدعم، وهو ما يعني ضغطاً على الطبقات الأفقر، ما قد يقود للانفجار. يدرك السيسي ذلك جيداً
يستطرد عوف موضحاً آلية العمل ويقول: أولاً تحدد الوزارة المعنية المستندات المراد تحويلها إلى صيغة إلكترونية، ثم تأتي الشركة المنوط بها رقمنة كل هذا وتنسخها بالمسح الضوئي Scanning ثم تقوم بفهرستها ، وتقدم النسخة المرقمنة الجديدة إلى الوزارة المعنية لمراجعتها فنياً والتأكد من دقة البيانات، بعدها تعرض على وزارة الاتصالات لتراجعها تقنياً، قبل أن ترفع على المنصة الرقمية المعدة لاستقبالها.
من أين البدء؟
مصر دولة كبيرة وجهازها البيروقراطي شديد التعقيد، لذا كان من الحتمي تحديد النقاط المتحكمة في مفاصل الدولة، والتي عن طريق رقمنة بياناتها يستطيع النظام ربط الجزر الحكومية المنعزلة والسيطرة عليها. وذلك سيتم عبر أربعة محاور أساسية أو لنقل مشاريع ضخمة:
1- مشاريع الانتقال إلى العاصمة الإدارية: وهي سبعة مشاريع، عن طريقها ستتم رقمنة كل بيانات وأرشيف 44 جهة حكومية (وزارات وهيئات)، تشمل مجالات الصحة، التعليم، التجارة، الزراعة، الكهرباء وكل ما له علاقة بتعامل المواطن مع الدولة.
2- مشروع مجمع الإصدارات المؤمنة، وهو المركز الذي سوف يتم عن طريقه إصدار أي ورق يحمل صفة الهوية الشخصية للمواطن مثل: البطاقة الشخصية، الباسبور، شهادات الوفاة، إلخ، ومستقبلاً سيتم إصدار كل تلك الإصدارات أونلاين أو عبر ماكينات تشبه ماكينات الصراف الآلي للبنوك.
3- مشروع منظومة العدالة: وهذا مشروع ضخم سيضم وزارة العدل، النائب العام، وزارة الداخلية، والمستهدف منه هو أن تكون جميع مراحل التقاضي بدءاً من المحضر المحرر في القسم، انتهاء بحكم القاضي مروراً بتحريات الداخلية وتحقيقات النيابة ورأي الخبراء وتقارير الطب الشرعي، جميعها مرفوعة على منصة خاصة، يسهُل الوصول إليها في لحظات.
4- مشاريع وزارة المالية: وهي حزمة مشاريع مرتبطة بالأساس بدورة رأس المال، لكن أبرزها هو مشروع الفاتورة الإلكترونية، المزمع تفعليه في شهر تموز/ يوليو المقبل، وبموجبها لن تقبل أي جهة رسمية فاتورة ورقية من أي شركة تتعامل معها، وبالتالي لن يتمكن أحد مستقبلاً من تقديم فاتورة "مضروبة"، فضلاً عن أن التعامل النقدي بين التجار سيتوقف، كل شيء سيتم مستقبلاً عبر تحويلات بنكية يمكن رصدها وحصرها.
تلك المشاريع الأساسية، وما يرافقها من مشاريع فرعية تتحرك سريعا بغية الإلمام بكافة البيانات وحصرها، لتبقى إشكالية أموال اقتصاد الظل، والتي سيتحرك النظام لإخضاعها والسيطرة عليها هي الاخرى عبر خطوات الشمول المالي.
كله بفضل الله ومن مصر بلدنا
في مداخلة هاتفية مع الإعلامى عمرو أديب، أجاب الرئيس عبد الفتاح السيسي على السؤال المتكرر عن المصادر التى تحصل منها الدولة على الأموال لتنفيذ المشروعات المختلفة، قائلاً: "الفلوس بتيجي من مصر بلدنا، وكله بفضل الله".
وفقاً للتقرير الرسمي الصادر من وزارة المالية للعام المالي 2019/ 2020، تمثل الإيرادات الضريبية أكثر من 76% من إجمالي إيرادات الدولة.
ويكشف التقرير وجود نمو ملحوظ في حجم الضرائب المحصلة هذا العام بمقدار 17 مليار جنيه، ويشير إلى أن الضرائب المحصلة من النشاط التجاري والصناعي زادت بنسبة 17% عن العام السابق.
"الدولة الناضجة هي التي تمتلك نظاماً ضريبياً مستقراً". هكذا تستهل أستاذة الاقتصاد والتحول المالي ندى الشاذلي حديثها لرصيف22، وتستطرد شارحة: الدولة المصرية ترى أن الضرائب هي الوسيلة المثلى لحل إشكالية عجز الموازنة والإنفاق على المشروعات الجديدة، كما أنها تدرك أن الاقتصاد غير الرسمي يشكل تقريباً 60% من الاقتصاد الكلي. وعليه، فنحن إزاء تهرب ضريبي يقترب من 80 مليار جنيه سنوياً. "الدولة تريد هذا المبلغ" تقولها الشاذلي مبتسمة، قبل ان تستطرد. وللحصول على تلك الأموال، كان لزاماً على الدولة أن تسعى إلى إدخال الاقتصاد غير الرسمي تحت مظله الاقتصاد الرسمي، وذلك لن يتم سوى عبر الشمول المالي.
"أُدرك طبعاً أن السيسي يواجه استقطاباً حاداً يجعل معارضيه في حالة رفض تام لأي طرح يقدمه، لكن على الأقل كان عليه أن يستعين بالخبرات المصرية في الخارج ويتشاور معهم في المشروع، لكن ذلك لم يتم"
الشمول المالي في أبسط تعريف له هو أن يكون كل المواطنين مسجلين في الخدمات المالية المعلومة للدولة، بتعبير آخر لديهم حسابات بنكية. وبذلك تستطيع الدولة تحصيل ضرائب منهم، وتحديد حجم التضخم الحقيقي بدقة، فضلاً عن رصد حجم "الكاش" في السوق، "ما يمكنها من السيطرة على الشارع ومحاربة الجرائم بشتى أنواعها، بدءاً من غسيل الأموال، وانتهاء بتمويل الإرهاب".
لماذا لا يتعامل المصريون مع البنوك؟
عام 2014، بدأت أول مبادرة للشمول المالي في مصر. حينها كانت نسبة المواطنين الذين يمتلكون حسابات بنكية لا تتجاوز 16% من إجمالي السكان، مع مراعاة أن هناك أفراد وشركات يمتلكون أكثر من حساب في عدة بنوك، وعليه فالعدد الحقيقي أقل من 16% بلا شك. السؤال: لماذا لا يتعامل المصريون مع البنوك؟
"طب وهي فين البنوك أصلاً عشان نتعامل معاها؟". بهذا التعليق الساخر استهل محمد الأحمر، تاجر مواشي في إحدى قرى محافظة المنوفية في دلتا مصر، حديثه لرصيف22. يقول: "في قريتي والقرى المحيطة لا يوجد بنوك، فهل مطلوب مني أن أركب مواصلتين ثلاثة حتى أصل إلى أقرب بنك؟"، ويضيف: "ما حاجتي للبنك؟ أنا تاجر رأس مالي في تلك المواشي، أبيع وأشترى نقداً، كذلك جاري المزارع يبيع المحصول للتاجر نقداً، والأخير يبيعه في السوق نقداً هو الآخر، فلماذا نضع أموالنا عند الحكومة؟".
تاجر المواشي الريفي طرح نقطتين في غاية الأهمية: صعوبة الوصول والتعامل مع البنوك، وعدم الثقه في الحكومة "عشان نديها فلوسنا" على حد تعبيره.
تعلق ندى الشاذلي على هاتين النقطتين بالقول: "بالطبع هناك أزمة ثقة كبيرة بين المواطن والحكومة، فهو يشعر أن كل ما تريده هو أن تضع يدها في جيوبه لتأخذ أمواله".
وتواصل: "للأسف، الرسائل التي قدمتها الحكومة في مسار تسويق فكرة الشمول المالي والتحول الإلكتروني كانت تعزز ذلك الشعور بالخوف.
فهي لم تقل للمواطن تعالَ سجّل نفسك لديّ لنقدم لك خدمات، أو لإعطائك إعفاءات. لا. الرسالة كانت سجل نفسك لدينا حتى نستطيع أن نحصّل منك ضرائب وتأخذ الدولة حقها منك".
وعن نقطه بُعد البنوك وتعقيدات التعامل معها، تقول الشاذلي: "الـ Fintech (الخدمات المالية غير البنكية) هي السبيل الأمثل لتجاوز تلك العقبة. فشركات مثل فوري وتساهيل وغيرهم، ليست بنوكاً، لكن عن طريقهم دخلت الأموال غير الرسمية تحت مظلة الاقتصاد الرسمي.
وحين أدركت الدولة الدور الذي يمكن أن تلعبة الخدمات المالية غير البنكية - والحديث ما زال للشاذلي - في تحويل الاقتصاد غير الرسمي إلى اقتصاد رسمي، أصدرت عدة قوانين وقرارات تشجع ذلك المنفذ الاقتصادي على التحرك، لعل أبرزها هو: قانون تنظيم نشاط التمويل متناهي الصغر.
هو نشاط، وإنْ كان غير بنكي، إلا أنه عن طريقه انتقل ما يقرب من 16 مليار جنيه، من الاقتصاد غير الرسمي إلى الاقتصاد الرسمي في 2019.
وعلى صعيد البنوك، قرر البنك المركزي أن يكون في كل بنك قسم للشمول المالي مهمته جذب عملاء جدد من الفئة التي لا يسمح دخلها بفتح حساب بنكي.
الهدف الأساسي من كل ذلك هو دفع الناس، وربما اجبارهم على إخراج أموالهم من تحت البلاطة وإيداعها في البنوك تحت أعين الدولة.
الكماشة نمط مصري بامتياز
"التجربة المصرية في إحكام قبضة الدولة على أموال اقتصاد الظل شديدة التفرد"، يقول المستثمر المصري إيهاب باسيلي لرصيف22 ويضيف: "السيسي اختار مسار الكماشة ونجح فيه بامتياز".
يواصل الرجل: نظرياً، يفترض أنك لكي تدخل اقتصاد الظل في منظومتك أن تعتمد على المحفزات والتشجيع، بينما طبق هو (السيسي) سياسة سد المنافذ والإجبار، فقلص الحد الأقصى للسحب النقدي من البنوك، وعليه سوف تصبح جميع التعاملات في قطاع العقار (وهو أكبر قطاع في مصر) عن طريق التحويلات البنكية المرصودة من قبله".
كما أنه وضع نظام الفاتورة الإلكترونية، وسيجبر الجميع عليها من شهر تموز/ يوليو القادم، وبذلك أصبح التعامل بين الشركات المصرية تحت أعينه.
أما القطاعات التي لم يستطع الوصول إليها، فقد مارس عليها ضغوطاً عبر التحصيل المباشر والتسويات المرتفعة، ليجبرها على الخضوع والدخول في المنظومة.
وحتى الآن يبدو أن سياسته ناجحة بامتياز. فحصيلة الدولة من الضرائب تزيد يوماً بعد يوم.
المفارقة بالنسبه لي، ولذلك أؤكد على تفرد تجربه السيسي، (والحديث ما زال لبسيلي) هي أن مشروع تطوير أي دولة، ايا كانت مساراته، فهو بالاخير يعتمد على جذب الاستثمارات الأجنبية، وذلك يتعارض تماماً مع الحديث الدائم عن تمدد دور الجيش الاقتصادي، فحقيقة لا أدري كيف سينجح السيسي في مزج النموذجين. لكن كما أسلفت، حتى الآن الرجل يبدو ناجح تماماً في تنفيذ أفكاره، فدعنا ننتظر لنرى القادم".
الفقراء لن يثوروا
مشروع السيسي في عمقه سوف يخلق طبقة اقتصادية جديدة، ويقلص دور طبقة قديمة. سينتج فرص عمل، لكنه سيرفع الأسعار ويقلل الدعم، وهو ما يعني ضغطاً على الطبقات الأفقر، ما قد يقود للانفجار. يدرك السيسي ذلك جيداً.
ولتجنب تكرار سيناريو 25 يناير مرة أخرى، أدرك الرجل أن عليه، بجانب القبضه الأمنيه المحكمة التي لا يُنتظر أن تخف قريباً، أن يعمل على تكوين شبكة حماية اجتماعية كفوءة، تضمن تساقط الثمار على مستحقيها، معتمداً على الداتا الحقيقية التي ستتوفر له من التحوّل الرقمي، وبذلك يضمن أن المظلة الاجتماعية التي يريد تشييدها عبر مشاريع مثل: تكافل وكرامة، منظومة الخبز المدعم، مصر بلا غارمات، إلخ سوف تصل مفاعليها إلى المستهدفين منها، وبذلك يضمن الاستقرار ويتجنب أي انفجار شعبي مفاجئ.
نظرة كُلية على حلم السيسي
يقيّم أستاذ إدارة وتمويل المشروعات الدولية ولاء بكري التجربة، أو ما تحقق منها حتى الآن، ويقول لرصيف22: "لا يوجد أدنى اعتراض على أهمية التحول الرقمي، كما أنه لا يمكن التشكيك في جدوى الشمول المالي وإدخال اقتصاد الظل في المنظومة الرسمية. الخلاف هنا حول التصور الكلي للمشروع، فخطة بهذا الحجم تطمح لتغيير شكل الدولة وآليات التعامل فيها كان يجب أن تعرض على الشعب ويجري نقاش مجتمعي عليها".
يتابع بكري: "أُدرك طبعاً أن السيسي يواجه استقطاباً حاداً يجعل معارضيه في حالة رفض تام لأي طرح يقدمه، لكن على الأقل كان عليه أن يستعين بالخبرات المصرية في الخارج ويتشاور معهم في المشروع، لكن ذلك لم يتم.
السؤال الذي كان من الحتمي مناقشته هو: فرضاً نجحت في تحقيق عائد مالي يُمكنك من تنفيذ مشاريعك التنموية، ما هي تلك المشاريع؟ وما هو شكل البلد الذي تحلم به؟ صناعي أم زراعي أم دولة خدمات؟ هذا ما كان يجب إطلاعنا عليه ومناقشتنا فيه، وذلك لم يحدث للأسف".
تلك هي أبرز ملامح جمهورية السيسي الجديدة التي يبنيها على مهل. تختلف الرؤى حولها، وتتباين الانحيازات حيال صاحبها، وينقسم الناس بين متفائل بغد افضل، ومتشكك في مسار نزعت منه الحريات، وناقم على الرجل ونظامه. ويظل مهماً أن ندرك ما الذي يحدث في مصر الآن؟ ولماذا؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...