"2020: مغرب بدون معتقلي رأي". عبارةٌ كانت أكثر من حبرٍ على وثيقة. كانت صرخة أمل أطلقها حقوقيون وسياسيون وصحافيون مغاربة، مطلع العام الماضي، معبّرين عن رفضهم لاستمرار ملاحقة منتقدي السلطة، واستعدادهم للعمل المُوحّد من أجل إنهاء الاعتقالات السياسية في البلاد.
في الـ11 من كانون الثاني/ يناير 2020، وقّع مئات النشطاء المدافعين عن حقوق الإنسان وثيقة تطالب بإطلاق سراح معتقلي الرأي وإنهاء الاعتقال السياسي، على غرار وثيقة المطالبة باستقلال المغرب التي قدّمها قادة الحركة الوطنية إلى فرنسا في اليوم ذاته عام 1944.
وكتب مُحرّرو الوثيقة نصّها بنفس الشكل الذي صدرت به المطالبة بالاستقلال قبل 76 عاماً، ما عكس أمل الواقفين خلف الوثيقة الجديدة في إعلان "مغرب بدون معتقلي رأي"، مثلما جاء إعلان الاستقلال بعد وثيقة "11 يناير".
لكن يبدو أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، كما قال أبو الطيب المتنبي، فعام 2020 لم تتوقف فيه السلطة عن اعتقال أشخاص عُرِفوا بكتاباتهم المنتقدة لسياسات الحكومة، وأبى إلا أن ينتهي بتوقيف المؤرخ والحقوقي البارز المعطي منجب في الـ29 من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وهو أحد الموقّعين على الوثيقة المذكورة.
ووضعت السلطات المغربية الناشط الحقوقي المعطي منجب في السجن رهن الاعتقال الاحتياطي بعد أشهر من إعلان القضاء فتح بحث تمهيدي معه ومع أفراد من عائلته بشبهة "غسل الأموال"، وهو ما استنكره سياسيون وحقوقيون داخل وخارج المغرب، معتبرين أن "التهمة ملفّقة" من أجل استهداف نشاط منجب وآرائه المنتقدة.
الاعتقال ليس الزجر الوحيد الذي يلاحق المعارضين. الانتهاكات الحقوقية استهدفت قيمتين ثمينتين لدى المواطن المغربي في 2020: مشاركة صوته عبر "حرية التعبير"، والاحتفاظَ بأسراره عبر قيمة "الخصوصية".
والآن، السؤال: كيف سيكون الوضع في 2021؟
قيدٌ بدون محاكمة
سليمان الريسوني صحافي بارز في المغرب، معروف بافتتاحياته التحليلية، والناقدة لسياسات الحكومة على الصفحة الأولى من جريدة "أخبار اليوم" المستقلة، والتي يشغل منصب رئيس تحريرها.
اعتقلته قوات الأمن في 22 أيار/ مايو بتهمة "هتك العرض بالعنف والاحتجاز" في حق شاب مثلي، وما زال الاعتقال مستمراً إلى اليوم، رغم مطالبة دفاعه بإطلاق سراحه مع توفير ضمانات حضوره للمحاكمة، وعدم ظهور أي إثبات للتهمة التي جاءت بناء على تدوينة على موقع فيسبوك لشخص لم يظهر هويته الحقيقية.
يبدو من خلال التجارب المتكررة، حسب الصحافية هاجر الريسوني، عضو لجنة التضامن مع سليمان، أن "الهدف الأول من وضعه في السجن الاحتياطي كل هذه المدة هو إسكات صوت مزعج وقلم ناقد يضع إصبعه على الخلل، ويسمّي الأشياء بمسمياتها، بالإضافة إلى عدم السماح له بتجهيز دفاعه، والترافع في قضيته".
وقالت لرصيف22 إنها رسالة لكل مَن سولت له نفسه أن يكتب حرفاً أو يبدي رأياً، مفادها "نحن فوق القانون، يمكننا سجنك شهوراً أو سنوات بدون مسوغات قانونية"، وأضافت: "للأسف هناك تغوّل لجهاز الأمن على كل الأجهزة الأخرى ويتحكّم فيها".
وتعتقد الصحافية المستقلة أن "القادم أسوأ" بالرجوع إلى المؤشرات التي صاحبت ملف سليمان الريسوني، "لأنه لم يتم احترام المسطرة القانونية منذ الدقيقة الأولى من اعتقاله، وشروط المحاكمة العادلة".
مع ذلك، تتشبث هاجر بالأمل، وتتمنى أن تَحِل الحكمة محلّ العبث "الذي نعيشه، ويُطبّق القانون، وترفع النيابة العامة يدها عن الملف"، مشيرة إلى أن عائلة وزملاء المعتقل ومجموعات واسعة من الحركة الحقوقية والسياسيين يتشبثون ببراءة الصحافي سليمان الريسوني، ويعتبرون اعتقاله "تعسفياً" ومحاكمته "سياسية".
وأعلنت هيئات حقوقية من بينها جمعيات مدافعة عن "الحريات الفردية" رفضها ما اعتبرته "استغلالاً" لملف "الأقليات الجندرية"، وقضايا العنف ضد النساء من طرف الدولة، لتصفية الحسابات السياسية والانتقام من الريسوني.
إذا كانت قضبان السجن من حديد، فيبدو أن حملات التشهير التي تستهدف المعارضين والحقوقيين في المغرب هي قضبان من حرير، إما تقيّد حركة المُستهدَف أو تخنقه وتقتله رمزياً
وأدانت "خميسة"، وهي حركة نسائية حقوقية، "استغلال قضية المرأة، وإقحامها زوراً في تصفية حسابات سياسية"، مشيرة إلى أن هذا "سيؤدي إلى مزيد من الإضرار بحقوق النساء، ويسهم في تعزيز الأنماط السلبية ضد المرأة، مما يؤدي إلى استفحال ظاهرة العنف ضدها في النهاية".
يُذكر أنه بعد أسبوع من اعتقال الصحافي سليمان الريسوني، أعلنت شابة على صفحتها على فيسبوك أنه يتم الاتصال بها من طرف محامية المشتكي لتقول إنها ضحية للريسوني.
وقالت: "لا أعرف ماذا يُحبَك لكني أقول: لا تربطني أية صلة بالشخص، ولم أتعرض من قبل لأي تحرش من طرفه".
صحافي جاسوس!
سليمان ليس الوحيد الذي سُجِن بتهمة "الاعتداء". يوجد أيضاً الصحافي الاستقصائي عمر الراضي الموقوف منذ 29 تموز/ يوليو الماضي، على خلفية قضية تتعلق بـ"اغتصاب" قال إنها كانت علاقة رضائية بينه وبين زميلته في العمل.
القضية الرئيسية في ملف عمر الراضي بدأت منذ أواخر حزيران/ يونيو، بعد صدور تقرير لمنظمة العفو الدولية اتّهم السلطات المغربية بالتجسس على هاتفه بواسطة برنامج "بيغاسوس" الإسرائيلي. حينها أعلنت النيابة العامة التحقيق مع الراضي "حول الاشتباه في تلقيه أموالاً من جهات أجنبية بغاية المس بسلامة الدولة، ومباشرة اتصالات مع عملاء دولة أجنبية بغاية الإضرار بالوضع الدبلوماسي للمغرب"، دون تحديد اسم الدولة المعنية.
في هذا السياق، يقول ميلود قنديل، محامي الصحافي عمر الراضي، إن اتهام عمر بالعمالة والتجسس "ينقصه الإثبات الجنائي على اعتبار أن النيابة العامة لم تثبت أية واقعة من شأنها أن تُكيَّف على أنها مس بالسلامة الداخلية أو الخارجية للبلاد، خاصة مع عدم وجود أي ضرر يمسّ الدولة".
وبالتالي، وأمام غياب هذا الضرر، يضيف قنديل لرصيف22: "لا يسعنا إلا وصف اعتقال عمر الراضي بالتعسفي الذي يستهدف حرية التعبير، وحرية ممارسة مهنة الصحافة بالشكل المتعارف عليه دولياً"، مشيراً إلى أن علاقاته مع أجانب يُتّهم بالتخابر معهم "تدخل في صميم عمله الصحافي".
يُذكر أن الصحافي ذاته أدين في آذار/ مارس بالسجن أربعة أشهر مع وقف التنفيذ بتهمة "إهانة القضاء" على خلفية تغريدة على تويتر، انتقد فيها الأحكام بحق معتقلي حراك الريف.
محاصرة أنفاس المعارضين
عمر الراضي واحد من بين ثمانية نشطاء سياسيين وحقوقيين نصفهم أعضاء في جماعة العدل والإحسان المعارضة، أعلنوا تعرضهم للتجسس عن طريق اختراق هواتفهم بواسطة برنامج "بيغاسوس" الذي تبيعه المجموعة الإسرائيلية "أن س أو" (NSO) للحكومات والأجهزة الأمنية.
"الأجهزة الأمنية ازدادت تغولاً وصارت لا تراعي حتى الحد الأدنى من التزامات المغرب في مجال حقوق الإنسان"... حقوقيون مغربيون متخوفون من المشهد الحقوقي في عام 2021
وكان النشطاء، ومن بينهم الحقوقي المعطي منجب، رفضوا في بيان مشترك في تموز/ يوليو الماضي، ما سمّوه "محاولة السلطة المغربية التنصل من مسؤوليتها عن التجسس على مجموعة من المعارضين والانتهاك الصارخ لحقوقهم الأساسية".
وأشاروا إلى أن تطبيق "واتساب" سبق أن أخبرهم في بداية تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 باكتشاف تعرض هواتفهم للاختراق بـ"قصد التجسس عليهم، وانتهاك حقهم في الخصوصية"، وذلك بالتزامن مع صدور تقرير لمنظمة العفو الدولية يظهر أن "سلطات عدد من الدول ضمنها المغرب استعملت برنامج بيغاسوس للتجسس لاستهداف معارضيها"، وهو ما تنفيه الحكومة المغربية.
"نرفض اقتحام حياتنا الخاصة وإخضاع كل حركاتنا وسكناتنا للتنصت والتجسس خارج القانون"، يقول عضو الأمانة العامة للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان حسن بناجح، مشيراً إلى وجود قوانين تنظم مثل هذه العمليات بأمر قضائي، ولضرورة قصوى مقيّدة بإجراءات قانونية صارمة في حفظ المعلومات الخاصة بكل مواطن.
ويلفت بناجح، في حديثه لرصيف22، الانتباه إلى أن الأمر لا يتوقف عند التنصت الأمني وجمع المعطيات الخاصة بالمواطنين، "بل تجد هذه الأخيرة طريقها إلى صحافة التشهير لتصبح مادة يومية تُستعمَل من أجل التشهير والقتل الرمزي المعنوي"، والأكثر خطورة هو "تعدّي استهداف خصوصية المعارضين إلى محيطهم وأقربائهم".
التشهير... قيدٌ من حرير
يعيش المعارضون الذين اختاروا التغريد خارج السرب، وانتقاد سياسات السلطة، هاجس تعرّضهم لحملات تشهير، مع وجود وسائل إعلام تصلها معطيات عن شخصيات محددة لتقوم بالتشهير بهم، ومشاركة تفاصيل من حياتهم الخاصة.
يحكي هشام (اسم مستعار) لرصيف 22: "لم أعد أجرؤ على انتقاد أي جهة في الدولة من هول ما أصبحت أصادفه من معطيات خاصة على بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي"، ويضيف: "أخاف أن تُستهدف عائلتي".
إذا كانت قضبان السجن من حديد، فيبدو أن حملات التشهير التي تستهدف المعارضين والحقوقيين في المغرب هي قضبان من حرير، إما تقيّد حركة المُستهدَف أو تخنقه وتقتله رمزياً.
يقول القيادي في جماعة العدل والإحسان حسن بناجح إن هذه الأساليب ليست مفاجئة له مع "وجود نظام غير ديمقراطي يبتعد عن معايير المحاسبة، ويفتقر إلى قضاء مستقل"، شأنها شأن "التجسس، والاعتقال السياسي، وغياب شروط المحاكمة العادلة، وعدم احترام قرينة البراءة".
كيف سيكون عام 2021!
ترى الناشطة الحقوقية خديجة الرياضي أنه يتضح من خلال أحداث نهاية العام المنصرم أن انتهاكات الحقوق والحريات ستتصاعد في 2021، لأن "الأجهزة الأمنية ازدادت تغولاً وصارت لا تراعي حتى الحد الأدنى من التزامات المغرب في مجال حقوق الإنسان".
وأشارت إلى ظهور مؤشرات على تدهور الأوضاع في العام الجديد من بينها "قرارات اتخذتها الدولة على عدة مستويات أبرزها قانون المالية، وقوانين الشغل والإضراب"، بالإضافة إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل ما سيضعها في "مواجهة مع الشعب المغربي بدأت نهاية العام المنصرم بقمع متظاهرين ضد القرار".
وتقول الصحافية هاجر الريسوني: "باعتقال المؤرخ المعطي منجب، سقطت آخر أوراق أمل التغيير بعد أن كان لدي بصيص أمل قبل أيام فقط"، مشيرة إلى أن المغرب "يعيش نكوصاً في كل شيء، وتراجعاً في الحريات والحقوق"، بما في ذلك حرية التعبير، والصحافة، التجمهر والظاهر.
وتشدد على أن "الخوف أصاب الجميع ونتج عنه صمت مريب لأغلب القوى السياسية والحقوقية والثقافية"، متوقعة حدوث كارثة في حال استمر المغرب على النهج ذاته.
نفس الرأي ذهب إليه ميلود قنديل رئيس الفيدرالية المغربية لحقوق الإنسان، إذ رأى أن اعتقال المعطي منجب وعمر الراضي وسليمان الريسوني "مؤشر سلبي يؤدي إلى توقع أن 2021 ستكون سنة للدوس على حقوق الإنسان في المغرب"، معبّراً عن أمله في "تعقّل السلطات المغربية" بالكف عن الاعتقالات السياسية، وإفساح المجال لحرية التعبير والرأي.
ومن جهته، قال القيادي في العدل والإحسان حسن بناجح إن "سلطوية النظام ستفتت بنيته، وتقوّي مكانة المعارضين والجسم المجتمعي"، موضحاً أن "الضغط يولد الرفض العام، ويزيد من الوعي بضرورة تأمين مجتمع ديمقراطي".
ويضيف المتحدث أنه لا يمكن لدول "مبنيّة على الحد من حرية التعبير أن تصمد مدة زمنية طويلة".
ويتفق كل من بناجح والرياضي حول أن الحل رهين بصمود الحركات التغييرية، "كقوة رادعة". تقول خديجة: "هذه الحركات تقف ضد السياسات المعادية لحقوق الإنسان"، مؤكدة على ضرورة استعداد النخب السياسية والتنظيمات الحقوقية للعمل المشترك.
إعلان استقلال المغرب عن فرنسا تم بعد سبع سنوات من تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال التي نسج على غرارها النشطاء المغاربة وثيقتهم في 2020، فهل يتحقق مطلب الحركة الحقوقية أيضاً بإعلان مغرب بدون اعتقال سياسي في عام 2021 أو بعد عام أو ربما سبعة أعوام من توقيع وثيقة 11 يناير الأخيرة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون