بعد نحو عام ونصف العام من الحرب الأهلية التي تشهدها البلاد، استيقظ السودانيون على وقع أنباء تفيد بتعرض بعض المتاحف الوطنية للنهب والسرقة، أبرزها المتحف القومي الذي يقع في قلب العاصمة الخرطوم. ما عزّز تلك الشكوك هو رصد رواد مواقع التواصل الاجتماعي بعض القطع الأثرية السودانية معروضةً للبيع على منصات التجارة الإلكترونية عبر شبكة الإنترنت، الأمر الذي دفع منظمات دولية، في مقدمتها اليونسكو، إلى الدعوة إلى تعزيز آليات حماية لمنع الإتجار غير المشروع بتلك الآثار المنهوبة.
المتحف القومي في السودان قبل بداية الحرب.
يضم السودان العديد من المتاحف والمناطق الأثرية التي تحتوي على قطع نادرة لا تقدر بثمن تعود لآلاف السنين بجانب المعابد والمدافن والنُصب التذكارية والتماثيل، ولعل أبرزها المتحف القومي بالخرطوم والذي تم افتتاحه في العام 1904 واُعيد افتتاحه في العام 1971، ويحتوي على آثار الممالك السودانية النوبية القديمة، ثم ممالك العصر المسيحي وصولاً إلى المالك الإسلامية.
"مخازنه تُعتبر المستودع الرئيسي لكل آثار السودان"... مسؤولة المتاحف في الهيئة القومية للآثار والمتاحف في السودان تؤكد لرصيف22 ما تردّد حول تعرّض المتحف القومي إلى عملية نهب كبيرة وخروج شاحنات كبرى محمّلة بمواد أثرية كانت مخزّنة، منوهةً بحدوث ذلك في آب/ أغسطس 2023. أي مصير ينتظر آثار السودان؟
كذلك هناك متحف بيت الخليفة عبدالله التعايشي بأم درمان، غرب العاصمة السودانية. وخارج الخرطوم، ثمة متحف قصر السلطان علي دينار بمدينة الفاشر بإقليم دارفور الذي يضم أيضاً متحف السلطان بحر الدين بمدينة الجنينة ومتحف مدينة نيالا.
أما المناطق الأثرية الأخرى، فتقع غالبيتها في ولايتي نهر النيل والشمالية ومنها منطقة النقعة والمصورات الصفراء والبجراوية وجبل البركل وجزيرة صاي، وهي خارج دائرة العمليات العسكرية التي تشهدها البلاد منذ منتصف نيسان/ أبريل 2023.
متحف بيت الخليفة قبل بداية الحرب الأهلية.
مخاوف وتأكيد رسمي
وبينما تداول العشرات أنباء نهب المتحف، شكّك وزير الثقافة والإعلام السوداني السابق فيصل محمد صالح، في صحة أنباء عرض آثار سودانية للبيع وربط ذلك بنهب المتحف القومي، من خلال مقال نشره في صحيفة "الشرق الأوسط"، قال فيه: "أجمع معظم المتخصصين والخبراء الذين بحثوا ودققوا في الصور التي رافقت الخبر في عدد من الأجهزة الإعلامية والمواقع الإخبارية، وقيل إنها لآثار معروضة للبيع في بعض المواقع، على أنها ليست من مقتنيات متحف السودان القومي، وربما لا تكون من الآثار السودانية المحفوظة في أي مكان".
لكنه عاد وأوضح أن هذا النفي لا ينفي إمكانية حدوث عملية السلب والنهب، لأن متحف السودان يقع في إحدى المناطق المشتعلة فيها المواجهات العسكرية منذ بداية الحرب، وهي منطقة تقع تحت سيطرة قوات الدعم السريع، منوّهاً بأن لهذه القوات سجل كبير في عمليات السلب والنهب والتدمير للممتلكات الخاصة والعامة، وأن احتمالية وقوع الحدث كبيرة.
إلى ذلك، تؤكد مسؤولة المتاحف في الهيئة القومية للآثار والمتاحف، إخلاص عبد اللطيف، لرصيف22، ما تردّد عبر وسائل الإعلام حول تعرّض المتحف القومي إلى عملية نهب كبيرة وخروج شاحنات كبرى محمّلة بمواد أثرية كانت مخزّنة في المتحف عن طريق مدينة أم درمان. تضيف إخلاص أن الشاحنات المذكورة اتجهت نحو غرب البلاد ومن ثم جرى توزيعها على المناطق الحدودية خاصة مع دولة جنوب السودان، مبرزةً أنهم علموا بخروج هذه الشاحنات في آب/ أغسطس 2023.
وتتابع مسؤولة المتاحف: "المجاميع المتحفية ترجع إلى جميع العصور التاريخية القديمة منذ العصر الحجري وحضارة كرمة ونبته ومروي وما قبل المسيحية والمسيحية والإسلامية، حيث أن مخازن متحف السودان القومي تُعتبر المستودع الرئيسي لكل آثار السودان".
وحول وضع المتاحف الأخرى في ظل الحرب، تقول إخلاص إن متاحف أخرى تعرضت للنهب و/أو التدمير، شارحةً "متحف نيالا بدارفور نُهبت جميع ممتلكاته والمجاميع المتحفية، بالإضافة إلى الأثاث وفترينات العرض، وأيضاً متحف الخليفة عبدالله التعايشي بأم درمان تعرّض للسرقة وتدمير أجزاء من المبنى".
خبير قانوني لرصيف22: "غياب الدولة، والحدود المفتوحة، وغياب الشرطة بمختلف وحداتها، هذه جميعها عوامل تساعد على رواج الاتجار بالآثار… ولا بد من الإشارة إلى أن حركة الأنشطة غير المشروعة ترتبط بمسارين، أحدهما يصدّر إلى الداخل كالعقاقير المهرّبة والمخدرات والمسار نفسه يعود إلى الخارج في الغالب محمّلاً أو مرتبطاً بتهريب البشر، و/أو الذهب، وكذلك الآثار"
أما عن الأضرار التي جرى رصدها في مباني المتحف القومي، فتلفت إخلاص إلى أنه لم تصلهم معلومات عن مدى تضرّره، مردفةً "لكن بالتأكيد قد تأثّر مثلما تأثّر من قبل متحف نيالا ومن بعده متحف بيت الخليفة عبدالله التعايشي".
ثاني أهم متاحف السودان تحت القصف
متحف قصر السلطان علي دينار في مدينة الفاشر هو ثاني المتاحف السودانية بعد المتحف القومي، ويعرض آثاراً من الفترة التي حكم فيها السلطان علي دينار والتي انتهت في عام 1916، وتشمل تلك الآثار طبولاً نحاسية وملابس السلطان وعرشه وأواني مطلية بالذهب، ومخطوطات إسلامية وبنادق عتيقة.
يقع هذا المتحف داخل مدينة الفاشر، عاصمة إقليم دارفور، التي تشهد منذ شهور معارك عنيفة بين القوات المشتركة لحركات الكفاح المسلح التي تقاتل بجانب الجيش السوداني من ناحية وقوات الدعم السريع من ناحية أخرى.
المتحدث باسم القوات المشتركة، الرائد أحمد حسين مصطفى، يقول إن المتحف بحالة جيدة ولم يتعرّض إلى إتلاف منذ بداية الحرب وإن قوات الدعم السريع التي يتهمها بـ"تدمير وسرقة التراث القومي"، لا تستطيع الاقتراب منه، لوقوعه وسط المدينة، مبرزاً أنهم يساهمون في حمايته.
ويؤكد مصطفى، لرصيف22، أن الكثير من الآثار والتراث القومي السوداني تم تدميره وسرقته من قبل قوات الدعم السريع على مستوى كل المدن التي دخلتها "لأنهم لا يعرفون قيمة هذه الآثار"، على حد قوله.
وهل كانت الآثار التي تعرّضت إلى الدمار والسرقة في إقليم دارفور؟ يجيب: "نعم، مثل الآثار الموجودة في مدينة الجنينة وبالتحديد قصر السلطان بحرالدين، تم تدميره وسرقته ووثّقت ذلك (المليشيا) بنفسها".
لكن قوات الدعم السريع سبق أن نفت بشدة الاتهامات الموجهة إليها بنهب المتحف القومي في الخرطوم، عبر مقطع فيديو بثته على قناتها الرسمية على يوتيوب. وبحسب ما ذكر أحد المتحدثين عن "الدعم"، الذي ظهر في مقطع الفيديو من أمام المتحف، فإن محتوياته سليمة وإن من يتهمونهم بذلك "يسعون إلى تشويه سمعة الدعم السريع".
وشدّد المتحدث على أن من واجبهم حماية تراث الدولة وتاريخها، وأنهم لن يتهاونوا مع من يعبث به، متعهّداً أن لا جهة يمكنها أن تمسه بسوء.
تجارب مشابهة وتدابير دولية
وفي حين أن السودان ليس أول بلد يتعرّض إرثه الحضاري إلى النهب والسرقة، فهناك عدة دول خاضت هذه التجربة خلال فترات الحروب التي شهدتها أو في ظروف مشابهة مثل العراق وسوريا، إذ شهدت الأولى غزواً أمريكياً والثانية حرباً أهلية لم تتوقف حتى الآن، وتعرضت متاحفهما للسرقة والنهب وآثارهما للتدمير، لكن كثيراً من الدول أوقفت عمليات بيع وصادرت مقتنيات أثرية للدولتين بموجب القرار الرقم 2199 لعام 2015 الصادر من مجلس الأمن الدولي بمنع الإتجار في آثار هذين البلدين، وكذلك اتفاقية اليونسكو لعام 1970 لمنع الاتجار غير المشروع في الآثار والمقتنيات المسروقة التي وقعت عليها أكثر من 140 دولة.
وتنص الاتفاقية في الفقرة (ب) "2" من المادة الرقم 7: "بخصوص القطع المدرجة في قوائم الجرد والمسروقة من متحف أو من أثر عام، ديني أو علماني، على أن تتعهّد الدول الأطراف في الاتفاقية اتخاذ التدابير المناسبة لمصادرة واسترداد وإعادة الممتلكات الثقافية المسروقة والمستوردة". وتنص المادة 13 على تحمل الدول الأطراف على الصعيد الوطني مسؤولية استرداد الممتلكات، والتآزر في ما بينها بهذا الخصوص.
واستناداً إلى هذه الاتفاقيات الدولية، طالب مؤتمر حول آثار السودان المجتمع الدولي ومؤسساته المختصة بحماية الآثار والمتاحف في السودان، ودعم الجهود الرامية من أجل استعادة الآثار التي تم نهبها أخيراً، فضلاً عن تعزيز التعاون الدولي في عمليات المراقبة والتتبع للقطع الأثرية المسروقة. وذلك بحسب البيان الختامي لـ"المؤتمر الدولي للدراسات المروية" الذي عُقد في مدينة مونستر الألمانية في دورته الثالثة عشرة، خلال الفترة الممتدة من 9 إلى 13 أيلول/ سبتمبر المنقضي.
غياب الدولة يضاعف المخاطر
وعن طبيعة نشاط تجار الآثار في ظل الحروب وكيف تساعد أطراف النزاع في هذه الجريمة، يؤكد الخبير القانوني والباحث في المركز الأفريقي للعدالة ودراسات السلام، محمد بدوي، أن السلاح والمخدرات والاتجار في الأعضاء البشرية والآثار هي الأنشطة الرائجة في الحروب عادةً.
ويذهب إلى أنه في حالة السودان، فإن طبيعة الحرب ومركز بدايتها ونسقها وتطوراتها جميعها تشير إلى فكرة غياب الدولة التي تُشرف على الحماية والضبط والتعقب.
ويضيف الخبير القانوني لرصيف22: "غياب الدولة، والحدود المفتوحة، وغياب الشرطة بكل وحداتها، هذه جميعها عوامل تساعد على رواج الاتجار بالآثار والمخدرات وحتّى الأعضاء البشرية. ولا بد من الإشارة إلى أن حركة الأنشطة غير المشروعة ترتبط بمسارين، أحدهما يُصدّر إلى الداخل كالعقاقير المهرّبة والمخدرات والمسار نفسه يعود إلى الخارج في الغالب محمّلاً أو مرتبطاً بتهريب البشر، و/أو الذهب، وكذلك الآثار. وفي هذه الممارسة تنشط عصابات منظمة وعابرة للحدود في الإشراف، ومصادرها قد تكون أطرافاً متعددة ليست أطراف الحرب فقط لأن طبيعة هذه الحرب داخلية بين طرفين كانا في السلطة".
ويلفت بدوي إلى ظهور أحد أفراد الدعم السريع داخل المتحف القومي بالخرطوم خلال فترة الحرب، وفق المقطع الرائج عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ثم غياب أي تحديث عن وضع المتحف.
ويواصل: "تظل المسؤولية على ما يحدث في المتحف القومي على الطرف المسيطر على المنطقة التي يقع فيها، أما متحف السلطان بحر الدين فإنه تصعب الإشارة إلى الدعم السريع بالاسم لأن هنالك مليشيات قبلية متحالفة معه، شاركت في الصراع، والمهنية تقتضي استصحاب طرف ثالث له مصلحة في الصراع وعدم استقرار الفترة الانتقالية آنذاك كافتراض أيضاً حتّى يثبت العكس، الأمر يحتاج إلى تحقيق يقود إلى الجهة التي اقتحمت المتحف".
تعقّب الآثار السودانية قانونياً حال سرقتها يعتمد على سجلات هيئة المتاحف والآثار بالاعتماد على السجلات التي تثبت الملكية والتي يمكن أن تشكل سنداً للمطالبة بها في حال ظهورها، "لكن سرقة الآثار وإخفاءها عملية معقدة لأنها تدخل احياناً في دائرة غسيل الأموال، إذ يقوم بعض الأشخاص بشرائها والاحتفاظ بها في أماكن آمنة ومؤمن عليها لفترات طويلة أو قصيرة" لذا من الأجدر حمايتها من النهب
عملية معقدة ولكن...
تضم قائمة التراث العالمي المُسجلة لدى اليونسكو في السودان 3 مواقع فقط، هي منطقة جبل البركل الأثرية ومواقع المنطقة النوبية شمالي البلاد، والمواقع الأثرية في جزيرة مروي، وهي مناطق تظل حتى الآن بعيدة عن دائرة الحرب، إضافة إلى المحمية البحرية القومية لسنجانب والحديقة البحرية القومية لخليج دنقناب في جزيرة مكوار على ساحل البحر الأحمر.
وبحسب الخبير القانوني، بدوي، فإن تعقّب الآثار السودانية قانونياً حال سرقتها يعتمد على سجلات هيئة المتاحف والآثار بالاعتماد على السجلات التي تثبت الملكية والتي يمكن أن تشكل سند للمطالبة بها في حال ظهورها.
وأضاف: "لكن سرقة الآثار وإخفاءها عملية معقدة لأنها تدخل احياناً في دائرة غسيل الأموال، إذ يقوم بعض الأشخاص بشرائها والاحتفاظ بها في أماكن آمنة ومؤمن عليها لفترات طويلة أو قصيرة" لذا من الأجدر حمايتها من النهب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 18 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع