أدى فشل المفاوضات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في جنيف بسويسرا منتصف آب/ أغسطس 2024، إلى تصاعد المخاوف من اتّجاه طرفي الحرب في السودان إلى تشكيل حكومتين كلٌ في منطقة سيطرته، لا سيّما مع إعلان قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، خلال لقاء مع الصحافيين في بورتسودان أواخر ذات الشهر، عن نيته تشكيل "حكومة مدنية" من التكنوقراط لإدارة شؤون البلاد.
المفاوضات التي رعتها الولايات المتحدة الأمريكية في حضور السعودية كدولة مضيفة، مع سويسرا والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومصر والإمارات بصفة مراقب، فشلت بسبب رفض وفد الجيش الحضور واشتراطه تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في إعلان جدة الموقع بين الطرفين في أيار/ مايو 2023، وكذلك رفضه مشاركة الإمارات - التي يتهمها بالوقوف خلف الدعم السريع وتسليحه - في المفاوضات، رغم حضور وفد الدعم السريع، ما دفع أطراف الوساطة إلى التعامل مع كل طرف على حدة في ما يتعلق بإيصال المساعدات الإنسانية لضحايا الحرب والتوصل إلى اتفاقٍ جزئي في هذا الصدد.
ورداً على تصريحات البرهان بتشكيل حكومة في بورتسودان، هدّد مستشار قائد قوات الدعم السريع، الباشا طبيق، في منشور عبر حسابه على منصة "إكس"، بإعلان حكومة موازية في العاصمة الخرطوم، حال تعنّت الجيش ورفضِه التفاوض والاتجاه نحو خيار الحرب.
هذه التطورات الأخيرة أثارت في الأذهان مخاوف من تكرار السيناريو الليبي حيث أدت الصراع على السلطة إلى إعلان حكومتين إحداهما شرق البلاد تم تكليفها من مجلس النواب وتتخذ من بنغازي عاصمة لها، وأخرى في غرب البلاد معترف بها من الأمم المتحدة ومقرها العاصمة طرابلس.
"طرفا الحرب لا يمتلكان الشرعية الدستورية والقانونية، بما في ذلك لإعلان حكومة، وأن كل ما لديهما هو قوة سلاحهما المسلّط على أجساد السودانيين"... هل تُفضي تهديدات الجيش والدعم السريع بتشكيل حكومتين منفصلتين، كلٌ في منطقة سيطرته، عن تكرار النموذج الليبي؟ أو ربما الانفصال كما حدي في جنوب السودان؟
ورغم تمسّك البرهان، بشرعية الحكومة التي يقودها حيث يترأس بجانب قيادته للجيش مجلس السيادة الانتقالي الذي يمثل السلطة السيادية في البلاد، تشدّد قوات الدعم السريع على أن الحرب التي اندلعت منتصف نيسان/ أبريل 2023 أدت إلى انهيار شامل للوضع الدستوري.
الدعم السريع يستبعد الفكرة
على الرغم من تهديدات طبيق، يقول مستشار القائد العام لقوات الدعم السريع، إبراهيم مخيّر، لرصيف22، إن "الدعم السريع لم ولن يقتسم الجغرافيا في السودان مع أي من كان"، متابعاً بأنه لا يحق لأي من طرفي الحرب، بما في ذلك الدعم السريع، أن يتملك الأرض أو يتقاسمها مع أي من كان لأن أرض السودان "ملك للسودانيين" جميعهم.
يصف مخيّر ما يحدث بأنه "عملية تحرير للبلاد يقودها الدعم السريع من طغمة فاسدة حكمت السودان بالحديد والنار لمدة ثلاثين عاماً"، لافتاً إلى أن "قيادة الدعم السريع تؤمن بالسودان الموحد والحكومة الوطنية المنتخبة التي تمثل السودانيين جميعاً وليس هناك مجال لحكومتين أو دولتين".
وفي ما يتعلق بالاتفاق في جنيف حول إيصال المساعدات الإنسانية، يوضّح مستشار قائد الدعم السريع أن الدعوة التي أطلقتها الخارجية الأمريكية استهدفت العسكريين إذ تعتقد أن اتفاقهم حول المساعدات الإنسانية سوف يكون مدخلاً مناسباً لوقف إطلاق نار مؤقت ثم دائم في السودان، وأن الأمر ليس له علاقة بالسلطة أو الشرعية لكلا الطرفين.
وهو يشير إلى أن "الوسطاء اجتهدوا في إقناع الجيش بالحضور من أجل شعبه، لكن الأخير يؤمن بأن الإرهاب ونشر الخوف والفزع والجوع هما السلاحان الناجعان في قتاله ضد الدعم السريع".
"سيناريو التقسيم حاضر"
من جهته، لا يبدو الأمين السياسي لحزب المؤتمر السوداني عضو الهيئة القيادية لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)، شريف محمد عثمان، متفائلاً بشأن التطورات الأخيرة في السودان إذ يعتقد أنها ستقود ليس فقط لإعلان حكومتين في بلد واحد، بل ربما ما هو أسوأ من ذلك.
يضيف لرصيف22: "سيناريو التقسيم حاضر، ولنا كسودانيين تجربة سابقة حيث كان انفصال جنوب السودان نتيجة حتمية لرفض السلام واختيار أدوات العنف كوسيلة لحسم الصراع السياسي"، مبرزاً أن المجموعة الحاكمة حالياً - من عناصر نظام السابق والحركة الإسلامية - هي التي أشعلت حرب الخامس عشر من نيسان/ أبريل، وهي التي تعمل على قطع الطريق أمام أي فرص للحل السياسي.
يواصل عثمان: "لذلك أعتقد أن المستقبل، في حال عجز السودانيين عن إيقافها، سيكون حتماً التقسيم، وربما يتمزّق السودان إلى أشلاء وكانتونات يسيطر عليها أمراء تجار الحرب".
ويؤكد الأمين السياسي لحزب المؤتمر السوداني أن أي عملية مرتبطة بإيصال المساعدات الإنسانية "يجب أن تستند إلى إتفاق بين الأطراف التي تسيطر على الأرض" و"لذلك لم يكن أمام الوساطة إلا أن تعقد مشاورات منفصلة مع الطرفين، انتهت باتفاق الطرفين على فتح معبر أدري وطريق الدبة لإيصال المساعدات إلى ولايات دارفور".
وبحسب عثمان، فإن طرفي الحرب لا يمتلكان الشرعية الدستورية والقانونية، بما في ذلك لإعلان حكومة، وأن كل ما لديهما هو "قوة سلاحهما المسلّط على أجساد السودانيين".
"سيناريو التقسيم حاضر، ولنا كسودانيين تجربة سابقة حيث كان انفصال جنوب السودان نتيجة حتمية لرفض السلام واختيار أدوات العنف كوسيلة لحسم الصراع السياسي… أعتقد أن المستقبل، في حال عجز السودانيين عن إيقاف الحرب، سيكون حتماً التقسيم، وربما يتمزّق السودان إلى أشلاء وكانتونات يسيطر عليها أمراء تجار الحرب"
خيار مستبعد؟
في المقابل، لا يعتقد أستاذ العلوم السياسية بالجامعات السودانية، صلاح الدومة، أن اقتسام السيطرة على الأرض وطول أمد الحرب يمهدان إلى إعلان حكومتين منفصلتين في البلاد، ويُرجع ذلك بشكل أساسي إلى أن الدعم السريع لا يمتلك مقوّمات إدارة دولة، والقبول المجتمعي أي الظهير الشعبي.
يقول أستاذ العلوم السياسية لرصيف22: "سلطة الأمر الواقع في بورتسودان في حالة من الضعف ولا توجد جهة تعترف بها وإنما يتم التعامل معها إلى حين وبشكل مؤقت. هذه السلطة لا تستطيع أن تشكّل حكومة نتيجة للخلافات بينها وإصرار حاملي السلاح في دارفور وخاصة جبريل إبراهيم بأن يكون رئيساً للوزراء، بجانب الخلافات بين أهل الشرق وإصرارهم بأن يكون رئيس الوزراء منهم وأيضاً الكيزان – وهو مصطلح يُطلق على الإسلاميين - الذين يرفضون استمرارية البرهان".
وبخصوص الاتفاق حول إيصال المساعدات الإنسانية، يؤكد الدومة أن تعامل المجتمع الدولي مع كل طرف على حدا بشأن الإغاثة لا يعني الاعتراف بأي منهما، إذ لم يكتسب الطرفان اعترافاً، مستدلاً على ذلك بتجميد عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي الذي يعد اعترافه بعضوية السودان أمراً مهماً لأن الأمم المتحدة تهتدي بآراه وتدعم قراراته في ما يخص القضايا الأفريقية.
"الإدارة المدنية" للدعم السريع في الميزان
في آذار/ مارس 2024، أعلنت قوات الدعم السريع تأسيس إدارة مدنية في ولاية الجزيرة (وسط البلاد) ثم في ولايات أخرى بإقليم دارفور (غربي البلاد)، ورغم أن قيادة الدعم السريع ترى أن الخطوة تأتي تنفيذاً لبنود إعلان أديس أبابا الموقّع بينها وبين تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) في كانون الثاني/ يناير الماضي، بالعاصمة الإثيوبية، إلا أن الخطوة جرى اعتبارها تمهيداً لتقسيم البلاد والاتجاه نحو إعلان حكومة موازية.
لكن مستشار القائد العام لقوات الدعم السريع، مخيّر، يرى أن السلطة المدنية في مناطق النزاعات ليست اختراعاً أتى به الدعم السريع، وأن القانون الدولي وخاصة وثيقة جنيف تنص على أن واجب القوات التي تسيطر على منطقة ما، أن تقيم إدارة مدنية لتقديم الخدمات الضرورية للمدنيين، وأن ذلك هو ما فعلته قوات الدعم السريع مع ترك اختيارها وإدارتها لأهالي المنطقة.
يضيف مخيّر: "نعتقد في ظل ظروف الحصار والقصف الجوي المتواصل أن تلك الإدارات حقّقت نجاحات عالية تشهد بأن السودانيين قادرون على أن يديروا أمورهم ودولتهم بأنفسهم متى ما أزلنا العقبات من أمامهم، وهذا ما يعمل عليه الدعم السريع عسكرياً، وننتظر من السياسيين المخلصين في 'تقدم' و'قمم' والتنظيمات الوطنية الأخرى أن يبذلوا جهودهم حياله".
كما يشير إلى أن "قمم"، وهو تحالف جديد للقوى المدنية المتحدة، سوف يشارك في الحوار السوداني حول تشكيل "الدولة الجديدة" في السودان، وبأنه يمثل أكثر من 20 مليون سوداني يعيش أغلبهم في مناطق سيطرة الدعم السريع.
وحول توقعاته باعتراف المجتمع الدولي بأي حكومة يعلنها الجيش أو الدعم السريع، يقول مخيّر إن ذلك افتراض غير قابل للتحقق ولا يعتقد أن هنالك من يتبنّاه.
من ناحيته، يعتقد أستاذ العلوم السياسية بالجامعات السودانية، الدومة، أن الإدارة المدنية لقوات الدعم السريع لم تحقق نجاحاً يُذكر، لكنها بالمقابل حجّمت سلطة الأمر الواقع التي يديرها الجيش من بورتسودان وجعلها تنحصر في 5 ولايات بينما استأثر الدعم السريع بـ13 ولاية.
وفي السياق، يستبعد الدومة إعلان حكومة من كلا الطرفين، قائلاً: "حتّى وإن حدث ذلك، فإن اعتراف الاتحاد الأفريقي بأي حكومة معلنة مهم، والاتحاد لن يعترف إلا بحكومة تأتي عبر انتخابات أو بتوافق الجميع". "لو أن هناك أي طرف هزم الآخر في كل جغرافيا السودان وأعلن حكومة فإن الاتحاد الأفريقي لن يعترف بها وسينتظر إجراء انتخابات حرة ونزيهة مستوفية لشروط التحول الديمقراطي"، يردف.
يذهب الأمين السياسي لحزب المؤتمر السوداني، عثمان، في الاتجاه نفسه، مؤكداً أن المواطنين ما زالوا يعانون في مناطق سيطرة الدعم السريع سواء كان بالعنف من قبل تلك القوات أو سوء الخدمات وتعطلها. ويعتبر أن "الواجب يُلزم قوات الدعم السريع بحماية المدنيين وتقديم الخدمات الأساسية لهم،ما ما دامت هي أعلنت سيطرتها على المنطقة".
كذلك، يشدد عثمان على أنهم يعملون على نزع الشرعية السياسية والدستورية من الطرفين، وأنهم ما زالوا يُذكِّرون العالم بأن النظام الدستوري في البلاد قد انهار في تشرين الأول/ أكتوبر 2021 وأن حرب نيسان/ أبريل 2023 كانت ثمار الانقلاب الذي قاده البرهان وحميدتي، متابعاً "أي حكومة كانت يُعلن عنها في بورتسودان أو في الخرطوم أو أي ولاية، سنعمل على مقاومتها ونزع المشروعية عنها".
القوى الإقليمية والدولية وشبح التقسيم
الأزمة السودانية لم تكن يوماً بعيدة عن التأثير الخارجي على المستويين الإقليمي والدولي، ورغم الرفض المُعلن من جميع الدول لسيناريو تقسيم السودان عبر وجود حكومتين على الأرض، إلا أن الاتهامات تطال بعض الدول بالدفع نحو هذا الاتجاه تحقيقاً لمصالحها الإستراتيجية.
يقول الدومة إن أطرافاً إقليمية ربما تسعى لتفكيك السودان وخلق دولة كسيحة تتمكن من الاستمرار في نهب ثرواتها، لكن في المقابل يرى أن هناك دول عظمى سوف تتضرر مستقبلاً من هذا الوضع، "لذلك هذه القوى لن تسمح إلى أي جهات تسعى لتقسيم السودان إلى دولتين"، على حد قوله
يقول الدومة إن أطرافاً إقليمية ربما تسعى لتفكيك السودان وخلق دولة كسيحة تتمكن من الاستمرار في نهب ثرواتها، لكن في المقابل يرى أن هناك دول عظمى سوف تتضرر مستقبلاً من هذا الوضع، "لذلك هذه القوى لن تسمح إلى أي جهات تسعى لتقسيم السودان إلى دولتين"، على حد قوله.
بدوره، يُشير شريف محمد عثمان إلى أن دولاً في الإقليم ذات تأثير على الطرفين، وهي تبحث عن مصالحها في السودان عبر دعم طرفي الحرب. ويواصل: "هذا الخيار غير صحيح، ولن يحقق مصالحها، بل على العكس سيجر المنطقة كلها إلى حالة من الاضطراب الشديد".
ويوضح عثمان أن منطقة القرن الأفريقي تشهد توترات كبيرة ونزعات مكبوتة مع أوضاع اقتصادية ونسب عالية من الفقر، وأن استمرار الحرب في السودان يهدد المنطقة بعدم الاستقرار والاضطراب.
في الأثناء، ينفي إبراهيم مخيّر علمه بوجود دول تدفع في هذا الاتجاه، معتبراً "ليس هناك منطق في دعم تقسيم السودان. التجربة السابقة في جنوب السودان كما قلت لم تنجح ثم إن السودان صمام أمان لأفريقيا وأوروبا وآسيا، وتاريخياً كانت الهجرات تمر عبره". ويختم بأن وجود دولة منقسمة أو عنف مستمر سيؤدي إلى انتشار الجماعات الإرهابية والجرائم العابرة للقارات، وهذا ليس في مصلحة القريب أو البعيد، على حد قوله.
تجدر الإشارة إلى أن معد التقرير تواصل مع مصدرين من المجموعات السياسية الداعمة للقوات المسلحة، والمؤيدة للحكومة التي كشف البرهان عن نية تشكيلها، للتعبير عن وجهة نظر هذا الفريق. لكنه لم يتلقَ أي إجابة حتى نشر هذه السطور.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 10 ساعاتجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 6 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.