"كان الطائر صغيراً، منظره يدمي القلب وهو يئن بحركات منهكة تشي بقضائه فترة طويلة عالقاً. انتزعت جناحيه من الدبق برفق قدر الإمكان، لكنه لم يستطع الطيران من جديد إذ كان جناحاه ملتصقين أحدهما بالآخر. أخذته إلى المنزل كيلا يتعرض للافتراس، ووضعته في قفص قديم وبجانبه ماء وبعض الحبوب، لكنه لم يأكل"، يحكي علي شاش (27 عاماً)، وهو ممرض يعيش في قرية رأس الكتان في ريف طرطوس، لرصيف22 قصته مع طير رآه عالقاً على أحد عيدان الدبق قرب منزله.
ويتابع: "تواصلت مع أحد الأصدقاء المهتمين بالحياة البرية وحماية الطيور، فنصحني بتبليل خرقة بماء ساخن وتمريرها على الريش، وهذا كفيل بحل المشكلة إن كان الدبق مصنوعاً من السكر، أما إن كان يحوي مواد أخرى فيجب دهنه بالزيت، وإلا فإن الحل الأخير هو نزع الريش الملتصق والاهتمام بالطائر حتى ينبت له ريش جديد ويصبح قادراً على الطيران. ولحسن حظه كان الماء كفيلاً بفك الالتصاق، ففتحت له باب القفص بعد يومين وأخرجته ليطير".
تحول الأمر من الصيد إلى إبادة للطيور باستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة.
حول هذا الأمر، يتحدث علي نجوم (30 عاماً)، وهو طبيب يعيش في ريف طرطوس، حول الصيد في المحافظة بعد الحرب: "اللافت تهافت فئات المراهقين على صيد الطيور بعد عام 2011، وتحول الأمر إلى إبادة للطيور باستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة".
ويشير نجوم إلى تذمر عدد كبير من الصيادين المستدامين من عدم احترام مبادئ وأخلاقيات الصيد: "يوجد أشخاص ينصبون السكسيكات أو أجهزة مناداة الطيور، ويضعون إلى جانبها عيدان الدبق، ثم يأتون صباحاً إلى المكان ليجدوا رفوفاً من الطيور قد خدعت بالأصوات وعلقت، والأغرب من ذلك هو قيام البعض بإطلاق النار على الطير العالق على الدبق!"، ويتساءل: "أين متعة الصيد في هكذا أساليب لا تمت للمنطق بأي صلة؟ ناهيك بأن جميع أنواع الطيور تعلق بهذه العيدان من الصغير جداً إلى الكبير إلى تلك التي لا تؤكل".
الصيد الجائر وصعوبة إنفاذ القوانين
بحسب دراسة أجرتها منظمة حياة الطيور الدولية، يقتل 3.9 مليون طائر بشكل غير شرعي في سوريا كل سنة، وهي تقع على ثاني أهم مسار لهجرة الطيور في العالم، وبسبب عدم تطبيق وإنفاذ قوانين الصيد، فإنها تعتبر منطقة مثالية لعمل الصيادين غير الشرعيين، رغم حظر الصيد في سوريا منذ عام 1994.
وقد استشعرت وزارة الزراعة الخطر المحدق بالتوازن البيئي وحظرت صيد الطرائد بجميع أنواعها لمدة سنة واحدة اعتباراً من شباط/ فبراير 2022، وفي تصريحه لوسائل الإعلام المحلية أكد مدير الإنتاج الحيواني أن الهدف من القرار حماية الطيور المهاجرة التي تتكاثر خارج البلاد وكذلك الطيور العابرة، مضيفاً أن هذه الطيور تشكل 3% من إجمالي الطيور العالمية، فيما يؤكد ناشطون على ضرورة تطبيق القرارات النافذة بشكل أكثر جدية.
وعن تبرير الكثير من الصيادين صيدهم الجائر بالأوضاع المعيشية السيئة وارتفاع أسعار اللحوم بجميع أنواعها، يقول نجوم: "هذه محاولة حجب الشمس بالغربال، إذ ارتفعت أسعار بنادق الصيد بشكل جنوني، وحتى من يملك واحدة منذ زمن، فمصروف 'الضروب' أو الطلقات المختلفة باهظ الثمن، آخذين بعين الاعتبار أن الطائر لا يملك لحماً مثل الدجاج، ناهيك بالوقت الطويل الذي يقضيه الصيادون في انتظار الطيور والجهد الذي يمكن استثماره في أي عمل يعود بالنفع على صاحبه".
أما مقلدات صوت الطيور فقد يتجاوز سعرها المليون ليرة سورية وفق حديثه، وكثيراً ما تسرق، فيلجأ أصحابها إلى حمايتها بالأسلاك والإسمنت ويفشلون مع ذلك وتسرق من جديد، "ومن يعيش في سوريا يدرك أن هذه المصاريف لا يقدر عليها مواطن عادي"، وفق تعبيره.
تتعرض الطيور الجارحة في الساحل السوري لتهديد حقيقي، بعد انتشار أخبار عن بيع "طير حر" اصطيد شرق سوريا بمبالغ باهظة، ما أدى إلى تهافت الناس على صيد أي طير جارح يعثرون عليه أملاً ببيعه، لكن معظم هذه الطيور لا تباع ويكون مصيرها الموت
وصدر عام 2023 القانون 14 الناظم للصيد البري، الذي يهدف لحماية أنواع الطيور والحيوانات البرية، والحفاظ على الأنواع المهددة منها بالانقراض، وتنظيم الصيد البري وفق المعايير والنظم البيئية والضوابط القانونية، لكن تطبيقه على أرض الواقع ما زال بحاجة للكثير من الجهود.
تهديد للتوازن البيئي
يقول عمار شاش، وهو مختار قرية رأس الكتان في ريف طرطوس، لرصيف22: "في وسط القرية غابة كبيرة من أشجار السنديان، تشكل نظاماً بيئياً متكاملاً ومتنفساً لأبناء القرية. وبسبب التغيرات المناخية والصيد الجائر للطيور التي تتغذى على الديدان، انتشرت الأخيرة في الأشجار، وبدا اللون الأصفر واضحاً عليها، وباتت عشرات شجرات السنديان المعمرة معرضةً لخطر الموت". ويؤكد أن قلة أعداد الطيور في قريته والمناطق المجاورة في السنوات الأخيرة بات واضحاً: "يمكن ملاحظة الأمر بالعين المجردة، أو من شكاوى الصيادين".
عمل شاش على رش الأشجار المصابة بالتعاون مع شباب القرية كمبادرة محلية، ثم منعوا الصيد داخل الغابة تحت طائلة المسؤولية، ونشروا لافتات للتذكير الدائم بالأمر"، ويشير إلى أن نسبة الالتزام بمنع الصيد ممتازة لأنهم ينفذون جولات دورية شبه يومية لمنع الصيد والاحتطاب داخل الغابة.
إلى ذلك يقول علي محمد (29 عاماً) وهو حلاق وفلاح وصياد سابق في ريف طرطوس: "لا شك أن الصيد الجائر أدى لقلة أعداد الطيور، لكن لا يمكن إهمال دور الاحتطاب الجائر بسبب الارتفاع الجنوني لأسعار الحطب والاعتماد عليه في التدفئة، وما نتج عنه من اختفاء مساحات واسعة من المناطق الحراجية والأدغال التي كانت تشكل ملاذاً آمناً لمختلف أنواع الطيور، وبزوالها تشردت وأصبحت خائفة وقلقة وغير آمنة".
وعن نسبة التزام الصيادين بالامتناع عن الصيد في أوقات التكاثر، يشير محمد إلى أن جلّ من يعرفهم ملتزمون بشكل كامل، ما عدا الصغار في العمر الذين لا يمتلكون المعرفة الكافية بتلك المواعيد.
صيد الطيور الجارحة للبيع والزينة
لا تقتصر المخاطر على الطيور المفضلة على موائد الطعام، إذ تتعرض الطيور الجارحة في الساحل السوري لتهديد حقيقي، بعد انتشار أخبار عن بيع "طير حر" اصطيد شرق سوريا بمبالغ باهظة، ما أدى إلى تهافت الناس على صيد أي طير جارح يعثرون عليه أملاً ببيعه، لكن معظم هذه الطيور لا تباع ويكون مصيرها الموت.
وفي هذا السياق يؤكد الناشط البيئي يمام عمران، ورود الكثير من الأسئلة من أشخاص اصطادوا طيوراً جارحة ويريدون التأكد إن كانت من تلك الأنواع التي يمكن بيعها لدول الخليج، مؤكداً أنهم كناشطين بيئيين يرفضون الإجابة على تلك الأسئلة أو إعطاء أي معلومة في هذا الشأن.
يضاف إلى ذلك اصطياد الطيور الجارحة بغرض تحنيطها وبيعها للزينة، كبشلون الليل والثعلب الأحمر من الطيور المائية والباشق والعقاب وغيرها. وعليه يعلق يمام لرصيف22: "المثير للسخرية هو أننا نجد هذه المهازل منشورة بحرية على الكثير من مجموعات فيسبوك التي تهتم ببيع طيور الزينة، إذ تنشر صور لطيور جارحة محنطة، وتعرض للبيع دون أي خوف أو حرج، ولنضع مصطلح (طيور الزينة) بين قوسين".
يوجد أشخاص ينصبون السكسيكات أو أجهزة مناداة الطيور، ويضعون إلى جانبها عيدان الدبق، ثم يأتون صباحاً إلى المكان ليجدوا رفوفاً من الطيور قد خدعت بالأصوات وعلقت، والأغرب من ذلك هو قيام البعض بإطلاق النار على الطير العالق على الدبق
ويتساءل: "إلى متى ستستمر هذه المشاهد والعروض التجارية على مواقع التواصل مع فوضى الصيد، وهذا التدمير الغوغائي العبثي للحياة البرية في سوريا؟".
ويوضح: "تصطاد الصقور ذات الأسعار الباهظة في البادية حصراً وليس في غابات الساحل، وأنواعها محدودة جداً، أما الصور التي تعرض فيها الجوارح للبيع على صفحات الصيادين والصفحات العامة فليست لها أي قيمة مادية، وقد أدت تلك الممارسات الخاطئة إلى الإمساك بمئات الطيور الجارحة وقتلها من دون فائدة، والقضاء على فئة من الطيور تعتبر في أعلى السلم الهرمي الغذائي، وبالتالي التأثير بشكل كبير على النظام البيئي".
سجال بين البيئيين والصيادين
في رحلة جمع المعلومات والشهادات، صادف رصيف22 أشخاصاً رافضين لقوانين منع الصيد الجائر ومبادئ حماية التنوع البيئي. يقول محسن (37 عاماً): "يفوق تعداد الطيور الخمسين مليار طائر، وعندما يرى جماعة حماية البيئة صورة صيد ثلاثين طائراً، يهاجمون الصيادين".
ويقول محمد (26 عاماً): "ظلوا يقولون لنا إن صيد طائر الدوري ممنوع، لنكتشف أنه أكثر الطيور عدداً، كذلك الزرزور الذي يحتل المركز الثاني عالمياً من ناحية العدد"، ويضيف: "يطالبنا الناشطون البيئيون بعدم صيد طائر الصفرون لأنه يحمي شجر الصنوبر، وهل بقيت أشجار صنوبر أساساً؟ احموا الصنوبر بالأول بعدين احكوا على حماية الصفرون".
تحيلنا التصريحات السابقة إلى ارتفاع صوت الناشطين البيئيين في التوعية البيئية، والمغالطات المنطقية التي تعترض طريقهم، فوجود الطيور بتلك الأرقام -التي قد لا تكون كبيرة في عالم الطيور- لا يسوغ اصطيادها دون ضوابط أو دون احترام مواعيد تكاثرها، والواضح أن طريق التوعية البيئية لا يزال طويلاً وشاقاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com