"منذ عام 2019 بنى زوج من طيور اللقلق عشهما قرب منزلي، وفي كل ربيع اعتادا أن يأتيا بفراخ جديدة. في الثلاثين من آذار/ مارس الفائت عاد الذكر وحيداً وهو الآن ينتظر أنثاه لتصل لكنها لم تصل بعد. أطفالنا ينتظرون بفارغ الصبر اللقلق ليعود، أرجوكم اتركوه يعود بأمان، فهو طائر بريء ولا يؤذي أبداً".
بكلمات تقطعها الغصّة والدموع، ناشدت المواطنة الهنغارية نيكوليت ليكتور الشعب اللبناني بمقطع فيديو تناقلته وسائل إعلام لبنانية، بعدما شاهدت صور اللقلق المقتول في لبنان، أثناء رحلة عبوره من إفريقيا إلى أوروبا مروراً بالأجواء اللبنانية.
جبهات محتدمة
تبدأ هجرة طيور اللقلق منتصف آب/ أغسطس من أوروبا إلى إفريقيا في موسم ينتهي في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر، ثم تبدأ رحلة العودة في شباط/ فبراير وتنتهي في نيسان/ أبريل من كل عام.
خلال هذه الرحلة تعبر الطيور سماء بلاد الشام ومنها لبنان، في رحلة فيها ما يكفي من المشقّة نتيجة التيارات الهوائية أو موجات الحر التي تتعرض لها أثناء تحليقها، لتأتي مجموعات من الصيادين وتتربص بها شراً أثناء انخفاضها أو استراحتها في الحقول، ويبدأ مسلسل قتلها الجماعي بغرض التسلية لا أكثر، إذ إن هذا الطائر لا يؤكل، ويتم الأمر باستعمال الأسلحة الحربية الخفيفة والمتوسطة.
والمثير للعجب أن من يقوم بهذه الجرائم لا يتوانى عن نشر جريمته على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف الاستعراض، دون اكتراث بالملاحقة القانونية التي قد يتعرّض لها. فبحسب قانون الصيد البري 580 الصادر عام 2004، تنص المادة الثالثة منه على منع الصيد خلال موسم تكاثر الطيور والحيوانات، وخلال عبورها نحو أماكن تكاثرها أو أثناء رعايتها لصغارها.
وكان لبنان قد صادق عام 2018 على معاهدة المحافظة على الأنواع المهاجرة من الحيوانات، وتأتي أهمية الانضمام إلى هذه المعاهدة الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، انطلاقاً من أنها النص الدولي الوحيد الذي يركّز على الحفاظ والاستخدام المستدامين لأنواع الحيوانات المهاجرة البرية والمائية والطيور وموائلها.
اللقلق من الطيور ذات الأهمية الكبيرة في النظام البيئي، ويعتبر عنصراً بيئيّاً هاماً.
وبحسب دراسة أجرتها جمعية الطيور العالمية، فإن 2.6 مليون طائر مهاجر يُقتل سنوياً بطريقة غير قانونية، ويعد لبنان رابع أخطر بلد في حوض المتوسط على طيور اللقلق.
وكانت منظمة Birdlife Europe and Central Asia قد نشرت في وقت سابق أنها وضعت جهاز تعقب لطائرين من اللقلق، وأسمت الأول تيسلا والثاني ليتا، لتتبع مسارهما خلال رحلة الهجرة، إلا أن جهاز تعقب تيسلا توقف في الرحلة، لأنه قتل في لبنان على يد صيّاد غير قانوني، بحسب المنظّمة.
الناشطون أصدقاء اللقلق وحراسه
أطلق الناشطون صرخة تجاه ما حصل ويحصل في كل موسم هجرة لطيور اللقلق، وهو من الطيور ذات الأهمية الكبيرة في النظام البيئي، ويعتبر عنصراً بيئيّاً هاماً، إذ ينظف الطبيعة من القوارض والحشرات التي تهدد المحاصيل الزراعية.
وعبر منصاتهم ناشد الناشطون المعنيين التدخل لوقف هذه المجازر المتكررة، وتشير الناشطة في مجال حقوق الحيوان غنى نحفاوي في حديثها مع رصيف22 إلى أن الذي حصل هو أشنع ما يمكن أن يحدث على طائر يقصد لبنان ليحافظ على حياته، وتلفت إلى أن لبنان يعد ثاني أكبر مسار في العالم للطيور بفضل ميزاته البيئية، ومنها دفء المناخ الذي يجعل ضغط الهواء خفيفاً على الطيور فتستطيع أن تحلّق بشكل مريح. وتقول: "تخيّل أن ضيفاً يقصدك فتغدر به، أنا أتعاطى مع الموضوع بطريقة شخصيّة، فهذا يمس قلبي، وأعتبر أن الذي يحصل غدر بهذه الطيور".
يتابع الناشطون التعديات التي تطال الطيور المهاجرة، ويرصدون ويبلغون عن الانتهاكات التي تتناول الحياة البرية في لبنان، وقد وثّقوا عشرات التعديات وجرى التبليغ عنها لجهاز قوى الأمن الداخلي، كما ينظمون حملات توعية بأهمية الحياة البرية والتنوع البيئي
كما انتشر المتطوّعون في مركز الشرق الأوسط للصيد المستدام ضمن المناطق التي تعبر في أجوائها طيور اللقلق لمراقبة عمليّة مرورها، ووثقوا المخالفات بحقها، ويقول رئيس المركز أدونيس الخطيب لرصيف22 إن المركز انتقل إلى مرحلة الملاحقة القضائية لكل من قام بهذه الجرائم بحق الطيور، ومن خلال رئيسة قسم الملاحقة القانونية في المركز ستتابع هذه الدعاوى في القضاء. وقد تم توقيف عدد من مطلقي النار على طيور اللقلق ممن نشروا جرائمهم على مواقع التواصل، بعد رفع المركز إخباراً عنهم إلى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي.
عمل المركز ليس مقتصراً على حملات التوعية من قبل الناشطين والصيّادين المحترفين، الذين يسعون إلى نشر ثقافة المحافظة على الأنواع وعدم الصيد خارج الأوقات المسموح بها قانوناً، فهو يشمل إقامة مركز لمعالجة الطيور المصابة بالرصاص. ويشير الخطيب إلى أن قسم الإسعاف الأولي للطيور في المركز وبمساعدة طبيب بيطري متطوع، يستقبل الطيور المصابة، فتتم معالجتها وتأهيلها ليعاد إطلاقها في الطبيعة، وتعطى اسم المتطوع أو المتطوعة الذين ساعدوها، وهو أمر يساعد على التواصل والانسجام بين الناس والطيور.
بدورها تتابع مجموعة "الجنوبيون الخضر" البيئية الناشطة في جنوب لبنان التعديات التي تطال الطيور المهاجرة، من خلال "المرصد الاخضر "الذي يرصد ويبلغ عن الانتهاكات التي تتناول الحياة البرية في لبنان، وقد وثّق فريق المرصد عشرات التعديات وجرى التبليغ عنها لجهاز قوى الأمن الداخلي، ونظمت آلية تنسيق معتمدة بين الجمعية والمديرية لهذه الغاية، بهدف توقيف المعتدين.
أين الدولة مما يجري؟
فور انتشار صور المجازر بحق اللقلق، طلب وزير البيئة ناصر ياسين من وزير الداخلية والبلديات بسام المولوي والمدعي العام البيئي في الشمال القاضي غسان باسيل التحرك ضد مطلقي النار على الطيور المهاجرة وملاحقتهم وسوقهم للعدالة.
لبنان يعد ثاني أكبر مسار في العالم للطيور بفضل ميزاته البيئية، ومنها دفء المناخ.
وبحسب معلومات حصل عليها رصيف22، فإن ضعف الوجود الأمني في بعض المناطق اللبنانية، وتقاعس بعض العناصر في التحرك لتوقيف المخالفين يؤديان إلى هذه الفوضى التي نراها، والطامّة الكبرى بحسب المصدر هي في وجود عناصر أمنية تشارك بنفسها في إطلاق النار على الطيور.
لا بد من الإشارة إلى غياب محافظ الشمال ومعظم البلديات بشكل مريب، وتقاعسهما عن التحرك ضمن نطاقهم لتوقيف المخالفين، أو إبلاغ المعنيين عنهم.
ولفت النائب عن دائرة عكّار في الشمال اللبناني سجيع عطيّة إلى ضرورة ملاحقة المعتدين، داعياً السياسيين لعدم التدخل في حال توقيف مطلقي النار، لأن هذا يزيد الأذى على الناس والطبيعة، والتدخل يدل على أن الدعم الخاطئ والتدخل السياسي في الأجهزة الأمنية والقضائيّة، يدفعان بالناس إلى التمادي في مختلف التعديات التي تحصل بكل أشكالها غير الأخلاقية، وعلى القضاء أن لا يستجيب لأي طلب من أي سياسي لإخلاء سبيل المخالفين.
ويضيف عطيّة: "السياسي يهمه تجميع الأصوات، ومن مصلحته توقيف أي شخص لكي يتدخل ويخرجه ويكسب صوته وأصوات عائلته في الانتخابات، ولو سقط هذا الرصاص على أحد يخصّ السياسيين من عائلتهم ومحيطهم، عندها سيدركون خطورة ما يحصل".
المعالجة تبدأ بتطبيق القوانين
يلفت النائب عطيّة إلى ضرورة إطلاق حملات للتذكير بأهمية التنوع البيئي والمحافظة على الطبيعة بجميع مكوناتها، فالمشكلة ليست في القوانين وإنما في تطبيقها.
بدورهم يشير الجنوبيون الخضر إلى أهمية حملات التوعية بخصوص الطيور المهاجرة وإسهاماتها في المحافظة على التوازن البيئي، وهذا ما لمسته الجمعية من خلال عملها، إذ لاحظ القيمون عليها تقدماً ملحوظاً لدى الناس، وقد وثقت حالات عديدة لاستراحة ومبيت الطيور المهاجرة دون أن يتعرض لها أحد بسوء، بل العكس احتفى بها الناس كما حصل في بلدات خربة سلم وعيتا الشعب وميس الجبل وعيترون وصفد البطيخ في الجنوب، وعالية والشوف ومنحدرات حرمون على تخوم راشيا الوادي في جبل لبنان، وغيرها من البلدات في مختلف المناطق اللبنانية.
ضعف الوجود الأمني في بعض المناطق اللبنانية، وتقاعس بعض العناصر في التحرك لتوقيف المخالفين يؤديان إلى هذه الفوضى التي نراها، والطامّة الكبرى بحسب المصدر هي في وجود عناصر أمنية تشارك بنفسها في إطلاق النار على الطيور
كذلك تلفت نحفاوي إلى ضرورة تشديد العقوبات لأقصى حد ممكن بحق المخالفين، وتدعو القوى الأمنية والقضائية إلى تسيير الدوريات بشكل مستمر من أجل إيقاف هذه المجازر، والتشدد ليس فقط في مصادرة السلاح وإنما بالحبس والغرامات والتشهير بأسماء المعتدين، لكي لا يعيدوا الكرّة في كل موسم هجرة للطيور.
من المعيب أن يبقى لبنان تحت مجهر الجمعيات الأجنبية والناشطين في مجال حقوق الحيوان والبيئة، بسبب مجموعة من المتفلّتين من القانون، الذين لا يعكسون إلا جهلهم وتخلّفهم، فطيور اللقلق وغيرها من الطيور المهاجرة يجب أن يحميها السكان قبل النصوص القانونية، لأنها نعمّة لا تقدّر، فهل يستفيق هؤلاء الجهلة قبل فوات الأوان؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...