بالقرب من شارع الثورة في وسط العاصمة السورية دمشق، ستأخذك قدماك إلى سوق متخصص في بيع حيوانات الزينة المتعارفة، من طيور "العاشق والمعشوق"، والسلاحف الصغيرة والأسماك وغيرها، ويمكنك الوقوف ساعاتٍ هناك وأنت تبحث عن حيوانك الأليف بالسعر الأنسب والصحة الأفضل. لكن خلف هذه الواجهات هناك سوق مخفي لبيع أي نوع من أنواع الحيوانات التي تشتهيها النفس، من حيوانات مفترسة وطيور جارحة، بالإضافة إلى صفحات في فيسبوك تعمل بالتوازي مع هذا السوق. وكلما ارتفع السعر ازداد العرض، وإن كان على حساب حيوانات مهددة بالانقراض أو انقرضت بالفعل من الغابات السورية.
تُجمَع غالبية هذه الحيوانات بظروف معيشية لا تمت إلى السلامة أو الرحمة بأي صلة، وربما للأفاعي بمختلف أنواعها الحظ الأسوأ في هذه الأسواق، فهي عادةً توضع ملتفةً حول نفسها ضمن عبوات زجاجية أو كما تُسمى محلياً "قطرميز".
الصيد قبل عام 2011 كان مقتصراً على الهواة لكن اليوم بات هناك إقبال كبير نتيجة العوائد المادية الكبيرة.
ويوضح الناشط في حماية الحيوان والمتطوع في جمعية "سنديان" البيئية، عرفان حيدر، أن غالبية التجار ضمن هذه الأسواق والصفحات لا يعرفون طبيعة الأفاعي ولا يميزون إن كانت سامةً أم لا، ولا يعرفون نوع الغذاء الخاص بها، وبسبب هذه الظروف تتعرض غالبيتها للأمراض التنفسية أو الموت.
ويشرح حيدر (35 عاماً)، وهو ابن منطقة القدموس شمال سوريا، أن الصيد قبل عام 2011، كان مقتصراً على الهواة، وكانوا يستخدمون بارودةً أو أعواد دبق، وتالياً كانت كميات الصيد محدودةً، لكن اليوم تغيّر الحال، إذ بات هناك إقبال كبير على الصيد نتيجة عوائده المادية الكبيرة، فالطيور تُباع للمطاعم الفخمة، كما أن الطلب ازداد على الأنواع الغريبة الشكل، مثل البومة ونقّار الخشب، ما يجعلها مهددةً بالانقراض.
وما زاد من سوء وضع الحيوانات والطيور، تراجع الغابات بسبب الحرائق والتحطيب، وتالياً خسارتها لأماكن اختبائها، فأصبحت مكشوفةً أمام أدوات الصيد الجديدة المحرّمة في كل دول العالم، إلا في سوريا.
وجدير بالذكر أن وزارة الزراعة أعلنت في آذار/ مارس الفائت، عن إصدار قانون جديد للصيد البري "قريباً"، لتنظيم مواعيد الصيد وأنواع الأسلحة التي يمكن استخدامها ورخصها، بالإضافة إلى حظر صيد الطرائد البرية حتى شباط/ فبراير من العام القادم، وذلك بالتزامن مع دعوات دورية يطلقها ناشطون بيئيون في سوريا لحماية الحيوانات البرية من الصيد الجائر والعشوائي وتالياً من خطر الانقراض.
متطوعون بيئيون
في محافظة طرطوس، ينشط علي إبراهيم (37 عاماً)، المهتم بالحياة البرية، ويقوم بجولات دائمة للمساعدة في نشر الوعي بين الناس من الصيادين والسكان المحليين، بعدم التعرض لحيوانات الغابة وإيجاد بدائل لحماية بيوتهم أو حيواناتهم، فالقتل والتسميم ليسا الحل الأنسب كما يقول.
استمرار تعدينا على الحيوانات سيسبب خللاً في السلسلة الغذائية، ولن يبقى لنا إلا القوارض كالجرذان، لأن المفترس الطبيعي لها يتناقص مثل البومة وابن آوى، ولمسنا ذلك بالفعل، فالمزارعون يعانون من ازدياد فأر الحقل بشكل كبير
ويهتم علي بشكل خاص بالأفاعي، ونجح بعد سنوات من العمل في خلق نوع من الوعي بين الناس في محيطه لعدم قتل أي أفعى تقع في أيديهم، لهذا يتلقى دائماً اتصالات للاستفسار عن أفعى عثر عليها أحدهم أو أسرها، فيعمل على تقييمها وإن كانت غير سامة يعاود إطلاقها في الطبيعة، وليطمئن الشخص الذي أمسكها من عدم سمّيتها، يجرب لدغتها بنفسه على جسده.
يتأسف الرجل على طبيعة القوانين غير المنصفة في حق الحيوانات في سوريا، فالقانون لا يمنع صيد الخنزير البري، ولشدة ما أقبل الصيادون على اصطياده اختفى من منطقة القدموس. يقول لرصيف22: "لا أذكر متى كانت آخر مرة رأيته أو سمعت به"، ويتابع أن الأمر ذاته ينطبق على حيوانات أخرى مثل غزال اليحمور وبعض أنواع البوم.
عرفان حيدر ضمن أحد الأنشطة البيئية
ويتشارك علي وعرفان ومجموعة من المتطوعين في منطقتهم مهمة السعي إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حيوانات برية، ويهتم عرفان بشكل خاص بالطيور، ويشرح بأن الصيادين يعتمدون عادةً على الشباك للصيد، فعندما يقع في الشبك حيوان لا يريده الصياد كان في الماضي يتركه ليموت جوعاً وعطشاً أو يقتله في أفضل الأحوال، لكن حالياً باتوا يتواصلون مع عرفان وأصدقائه لإطلاق سراحها.
لم يكتفِ عرفان بهذه الجهود، وقرر تحويل منزله إلى ما يشبه المشفى أو المصح لمعالجة أكبر عدد من الحيوانات وتأهيلها، ويقول: "أنقذت قبل نحو سنتين وحتى الآن أكثر من 16 بومةً، اثنتان منها من فصيلة البومة الهرية التي باتت محصورةً بالمنطقة الجبلية، وهي مرغوبة بسبب جمالها، وست بومات قزمية وأربع بومات مخزن وبومتان طويلتا الأذنين، بالإضافة إلى بومة نسارية فرعونية اشتريتها من أحد الباعة بمساعدة عدد من الأشخاص، ثم أطلقتها".
فوضى الصيد تسببت بغياب العديد من الحيوانات التي كانت معروفةً محلياً.
ولا يملك عرفان أي تمويل لهذه الجهود، لذا لجأ إلى جمع المال من المهتمين مثله، وتكبد عناء السفر إلى محافظة أخرى ومن ثم الانتقال بالبومة وإطلاقها في البيئة المناسبة، ولم تقتصر مبادراته على البوم وحدها، بل أطلق طيور لقلق وبواشق، وهو يراقب الأعشاش بشكل دائم ليطمئن على سلامة الفراخ ويضمن عدم صيدها.
الثعلب "برونو"
وفي دمشق، يتشارك عدد من المتطوعين تجربةً مماثلةً، وقد خصصوا جزءاً من نشاطات جمعيتهم "أنا السوري" للاهتمام بالحيوانات ومساعدتها للعودة بأمان إلى بيئتها المناسبة.
اليوم تستضيف الجمعية في مقرها في منطقة الميسات في وسط العاصمة، ثعلباً صغيراً يحمل اسم "برونو"، وصل إليها عن طريق صديق عثر عليه في معمله في منطقة الصبورة غرب دمشق وكان في وضع سيئ، ولم يتمكن أحد من معرفة كيفية وصوله أو مكان وجود أمه.
استقبلت الجمعية الثعلب الصغير بالترحاب، وعرضته على أطباء بيطريين قالوا إنه يعاني من سوء تغذية، وهو اليوم يتعافى في ظل اهتمام متطوعي الجمعية وزوارها، ويقول خالد نويلاتي قائد العمليات الميدانية في الجمعية، إن الصفحة عرضت صور الثعلب، فأثار فضول كثيرين زاروا الجمعية لرؤيته، واقترح المتطوعون تأسيس صندوق لجمع تبرعات تُصرف لمساعدة الحيوانات وعلاجها وتحريرها.
الثعلب "برونو"
تجربة "أنا السوري" مع الحيوانات ليست الأولى، إذ سبقتها تجارب أخرى كمساعدة غزال عثروا عليه في منطقة مشقيتا في شمال البلاد، وبعد متابعته وعلاجه لأشهر عدة أعادوا إطلاقه في منطقته، كما سبق أن اشتروا خنزيراً برياً وأطلقوه.
ومن الحالات المثيرة للاهتمام، قصة لقلق تعرض للصبغ على يد تاجر عرضه على أنه طائر فلامنغ، لكن مهتماً بالحيوانات تمكن من اكتشافه واشتراه واعتنى به، وبعد فترة عجز عن إتمام المهمة بسبب كبر حجمه وارتفاع تكاليف طعامه، فتواصل مع الجمعية التي أخذته واعتنت به، ثم أطلقته في بحيرة 16 تشرين، في مشقيتا، ويقول نويلاتي لرصيف22: "راقبناه لفترة طويلة للتأكد من اندماجه، ثم علمنا من جريدة محلية في لواء إسكندرون أنه موجود هناك، وهو ما زال ملوناً".
اللقلق المصبوغ الذي أنقذته جمعية "أنا السوري"
غياب الدراسات
في الوقت الذي تتسابق فيه دول العالم لحماية حيواناتها النادرة وحياتها البرية من خلال الدراسات والمحميات، لا توجد في سوريا أي دراسات أو إحصائيات لا قبل الحرب ولا بعدها، بحسب ما يشرح أحمد آيدك، الخبير بالحياة البرية، وهو يعمل اليوم مهندساً في مديرية التنوع الحيوي ضمن وزارة الإدارة المحلية والبيئة، ويتابع: وزارة الزراعة نفذت دراسةً قديمةً للتنوع الحيوي، ولكنها تحتوي على أخطاء كبيرة بحسب قوله.
ويعمل آيدك على تحضير دراسة علمية عن الثدييات البرية في سوريا، بالتعاون مع متحف التاريخ الطبيعي في برلين، وهي تضم الأنواع الموجودة في سوريا وخرائط انتشارها، وكذلك دراسة عن الأفاعي بالتعاون مع جامعة أمريكية، ويشرف اليوم على صفحة في فيسبوك مهمتها التعريف بالحياة البرية في سوريا، وحققت متابعةً جيدةً وساهمت في خلق نوع من الوعي عند الناس، وبات من يشاهد حيواناً، يطلقه في الطبيعة ويصوره ويرسله إلى الصفحة بدلاً من قتله، وبرأي آيدك ساعدت المجموعة في معرفة توزع الحيوانات في جغرافية سوريا.
يتشارك متطوعون مهمة السعي إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حيوانات برية، ويعتمد الصيادون عادةً على الشباك للصيد، فعندما يقع في الشبك حيوان لا يريده الصياد كان في الماضي يتركه ليموت جوعاً وعطشاً أو يقتله في أفضل الأحوال، لكن حالياً باتوا يتواصلون مع الناشطين لإطلاق سراحها
ويقول المهندس الأربعيني لرصيف22: "استمرار تعدينا على الحيوانات سيسبب خللاً في السلسلة الغذائية، ولن يبقى لنا إلا القوارض كالجرذان، لأن المفترس الطبيعي لها يتناقص مثل البومة وابن آوى، ولمسنا ذلك بالفعل، فالمزارعون يعانون من ازدياد فأر الحقل بشكل كبير".
وينبّه كافة المتحدثين إلى أن فوضى الصيد فعلاً تسببت بغياب العديد من الحيوانات التي كانت معروفةً محلياً، مثل الدب السوري، وهو يُعدّ منقرضاً من سوريا ولبنان، ولكن في عام 2004 تمكن المصور والباحث عصام حجار من تصوير آثاره في بلودان غرب دمشق، وفي عام 2018 رصد شبان في المنطقة نفسها آثاره، وربما لا زال هناك منه اليوم واحد أو اثنان، أو ربما انقرض بشكل نهائي.
كما انقرض النمر الأناضولي في المنطقة الساحلية، والنمر العربي في محيط تدمر، ويعاني غزال اليحمور من تناقص كبير في أعداده، والتهديد ذاته يعانيه غزال الريم الذي كان موجوداً في البادية لكنه انقرض في خمسينيات القرن الماضي وبقيت أعداد قليلة منه في جبل عبد العزيز في الحسكة وفي السويداء أيضاً، بحسب آيدك.
اللافت أن الحرب في سوريا بالرغم من أنها ألحقت ضرراً بغالبية القطاعات، إلا أن بعض الحيوانات البرية استفادت منها، كما حصل مع غزال الريم الذي تكاثر ثانيةً في البادية وازدادت أعداده، وكذلك الأمر مع حيوانات غابات الفرنلق ونباتاتها، والتي استراحت لفترة من الأسنان وتدميره.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 ساعاتربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 13 ساعةحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ يومينبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي