من على شرفة منزله في ريف السويداء جنوب سوريا، ينفث غسان حامد، دخان سيجارته، ويقول بحسرة: "قبل عقود عدة، كنا نشاهد غزلان الريم في المناطق المحيطة بالقرية، تقترب من البيوت أحياناً بحثاً عن طعام. لم يكن أحد يزعجها، حتى بدأت يد الصيد تنقضّ على المنطقة وتفتك بهذه الكائنات الجميلة، فابتعدت عن قرانا واختفت".
يشرح غسان (75 سنةً)، أنه في طفولته وشبابه اعتاد رؤية هذه الغزلان في مناطق عدة في ريف السويداء، وكان الجيران والمحيطون يتفاءلون برؤيتها. ويتابع: "ولكنها اليوم أصبحت ذكرى استرجعناها بغصة حينما رأينا صوراً مؤلمةً انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لمجازر ارتُكبت في حقها".
الصور نشرها عدد من الأشخاص من أبناء المحافظة من خلال صفحاتهم على فيسبوك، متفاخرين بما "أنجزوه" من صيد وأسر لأعداد كبيرة من هذه الغزلان، مستخدمين مختلف أنواع الأسلحة وسيارات ضخمة تساعدهم في التنقل وسط الصحراء، حيث يقيم غزال الريم عادةً.
الصيادون يستخدمون غزال الريم للأكل أو التحنيط.
وغزال الريم، الذي يُسمى أيضاً بالدرقيّة بسبب انتفاخ عنق الذكور وحلقها خلال موسم التزاوج، هو نوع من الغزلان القادرة على العدو بسرعة كبيرة، وتتميز بجسدها الرشيق ولونها الجميل وقدرتها على التسلق والمناورة، وتتحمل درجات الحرارة العالية وقلة المياه.
وتسكن الغزلان الدرقية السهول الرمليّة والحصويّة، بالإضافة إلى الهضاب الكلسيّة، ومن أبرز أماكن تواجدها شبه الجزيرة العربية وروسيا وباكستان وأفغانستان وإيران والتيبت ومنغوليا والعراق والقوقاز وتركيا وجنوب سوريا والأردن. وهي مهددة بشدة بالانقراض بحسب الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة IUCN.
يصطادونه للأكل أو التحنيط
يقول ناشط بيئي في السويداء فضل عدم ذكر اسمه، إن غزال الريم كان موجوداً بأعداد كبيرة في الماضي في المحافظة، ويُعدّ هذا المكان موطنه، ولطالما تواجد في أطراف السويداء وفي القرى الحدودية القريبة من الصحراء، وفي سبعينيات القرن الماضي كان يتواجد في سهول قرية عرى ومنطقة تل الحديد.
"لكن بعد دخول السلاح والصيد تراجعت أعداده، واستقر في مناطق أبعد، وفي فترة ما بعد عام 2000، أصبح تواجده في القرى الحدودية الشرقية على تخوم البادية فقط، ثم اختفى تقريباً"، يضيف في حديثه إلى رصيف22.
ويتابع الناشط، أنه بعد اندلاع الأحداث في بادية السويداء بين عامي 2015 و2019، والتي شملت توترات أمنيةً وهجمات لتنظيم الدولة الإسلامية، نال هذا الغزال فرصةً ممتازةً للتكاثر، بسبب انقطاع الصيادين عن المنطقة. ويُقال إنه توفرت قطعان منه، تضم مئات الغزلان، لكن هذا الهناء لم يدم طويلاً، فبمجرد استقرار الأمور عاد الصيادون إلى ارتكاب المجازر وبشدة أكبر كما تكشف صورهم وأحاديثهم.
ويضيف أن الصيد يتم في البادية الشرقية لمحافظة السويداء في منطقة شرقي الزلف، ولا يمكن تحديد الأعداد المنكوبة من هذه الغزلان، لكنها بالتأكيد بالمئات كما يقول الناشط، مضيفاً: "كان الصيادون يصطادون في شهر نيسان/ أبريل كي يلتقطوا الغزلان الصغيرة بعد ولادتها، ولكن هذا العام لم يراعوا أي ظرف وأي حرمة للصيد، وتجاوزوا القانون الصادر عن وزارة الزراعة الناظم للصيد، والذي يمنع صيد الحيوانات البرية عدا الخنازير، وبعضم باتوا ينامون هناك لصيد أكبر عدد ممكن".
وعن استخدامات هذا الغزال، يوضح أن الصيادين يستخدمونه للأكل أو التحنيط، أو استغلال جلده، والغزلان الصغيرة الحية للتجارة، وأحياناً يمكن أن يصاب غزال فيعالجوه وبعدها يعرضوه للبيع.
قبل عقود عدة، كنا نشاهد غزلان الريم في المناطق المحيطة بالقرية، تقترب من البيوت أحياناً بحثاً عن طعام. لم يكن أحد يزعجها، حتى بدأت يد الصيد تنقضّ على المنطقة وتفتك بهذه الكائنات الجميلة، فابتعدت عن قرانا واختفت
"إبادة للغزلان"
ويشرح المهندس أحمد أيدك، المتخصص في الحياة البرية والتنوع الحيوي، في حديثه إلى رصيف22، أن غزلان الريم (واسمها العلمي Gazella subgutturosa marica)، كانت تتواجد بالمئات في سوريا، وكانت تسكن البادية السورية بقطعان كبيرة حتى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، ولكن للأسف انقرضت بعد ذلك بسبب جشع الصيادين.
وبمواجهة هذا التناقص الخطير، عمدت سوريا وفق حديث أيدك، إلى محاولة إعادة تواجد هذا الحيوان في أراضيها، فنُقلت غزلان الريم من مركز الملك خالد في السعودية في شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 1996، وأدخلوها إلى محمية التليلة التي تبعد 20 كيلومتراً إلى الجنوب الشرقي من مدينة تدمر، واستقبلت هذه المحمية أيضاً في الشهر ذاته غزلان المها العربية من محمية الشومري في الأردن، وبعدها وُزعت الغزلان على المحميات البيئية في سوريا بإشراف الهيئة العامة لإدارة وتنمية البادية، لكن لم يُكتب لها العيش طويلاً، فقُتل معظمها في أثناء الحرب وهرب قسم منها.
الريم هو الكائن الوحيد الذي استفاد من الحرب، إذ ساهمت العمليات الأمنية في المنطقة في حمايته، وازدهرت أعداده.
ووفق المتحدث، وصلت أعداد غزلان الريم إلى 400 غزال في محمية العضامي جنوب شرق حلب، و60 غزالاً في بلدة مرج السلطان في ريف دمشق، و20 غزالاً في محمية طوال العبا في الرقة، و20 غزالاً في محمية الغضاريات في محافظة حمص، و330 في محمية التليلة، وكل هذه الأرقام تعود إلى فترة ما قبل الحرب.
وعن تواجدها في بادية السويداء، يوضح أيدك أن هناك جيوباً صغيرةً تتواجد فيها هذه الحيوانات منذ زمن، وليس مصدرها محمية التليلة. ويتابع أن الريم هو الكائن الوحيد الذي استفاد من الحرب، إذ ساهمت العمليات الأمنية في المنطقة في حمايته، وازدهرت أعداده لتصل إلى قطعان بالمئات.
وعن الصيد الحالي في السويداء، يشرح بأنها "إبادة"، وأهم أسبابها الحالة الاقتصادية، والتفاخر بقتل أكبر عدد، وبرأيه تكمن المشكلة الأسوأ في التركيز على صغار هذه الحيوانات من قتل وبيع وبشكل علني، إذ يصل سعر الغزال الصغير إلى نحو ثلاثة ملايين ليرة سورية (قرابة 600 دولار وفق سعر الصرف في السوق غير الرسمي)، أما الكبير فبحدود المليون ليرة، ما يعني أن الحالة في بادية السويداء تشير إلى إمكانية وصول أعداد هذه الحيوانات إلى حافة الانقراض.
ولحماية هذا الغزال وغيره من الحيوانات، أصدر وزير الزراعة السوري مطلع هذا العام، قراراً بمنع صيد الطرائد بأنواعها كافة لمدة سنة واحدة اعتباراً من 27/ 2 / 2022 ولغاية 26/ 2/ 2023، وسمح القرار بصيد الخنازير البرية خلال موسم الصيد، لكن للأسف لم يلتزم الصيادون بهذا القرار ولا بغيره، وما زالت عمليات الصيد غير القانونية مستمرةً من دون أي رقابة.
الصيد الحالي في السويداء بمثابة "إبادة"، وأهم أسبابها الحالة الاقتصادية، والتفاخر بقتل أكبر عدد، وتكمن المشكلة الأسوأ في التركيز على صغار هذه الحيوانات من قتل وبيع وبشكل علني، إذ يصل سعر الغزال الصغير إلى نحو ثلاثة ملايين ليرة سورية (قرابة 600 دولار)
في الأردن والعراق أيضاً
غزال الريم مهدد بالانقراض في الأردن أيضاً، فقد خلصت دراسة علمية حول الأنواع المهددة بالانقراض، إلى أن الأردن يضم ثلاثة أنواع مهددة عالمياً، مشيرةً إلى تصنيف غزلان "الريم والعفري والجبلي" ضمن القائمة الحمراء التي يعدّها الاتحاد الدولي لصون الطبيعة، وهي ذات علاقة بالأنواع المهددة بالانقراض.
كما يعاني من ظروف مماثلة في العراق، إذ شهد هذا العام تراجعاً كبيراً في أعداده بسبب قلة الغذاء والماء بالرغم من تواجده في محميات مخصصة لهذه الغاية.
من المؤسف الواقع الذي يعانيه هذا الغزال، وهو أصلاً ابن المنطقة، حتى أن الكثير من النقوش والكتابات المسمارية والآشورية والأكادية في العراق القديم، أشارت إليه، كما ذكره الأنباط في أخبارهم وآثارهم، وكان يُعدّ من أهم المنتجات الحيوانية في غذائهم اليومي، واستُخدمت جلوده في صنع الأحذية وقِرَب صنع اللبن والزبدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين