"الاثنين الأسود" كما تصفه منى هو اليوم الذي سيظل عالقاً في ذاكرتها ما بقيت حية، حين فقدت شقيقها ولم تحسن حتى دفنه، فترك جثمانه ملقى وحيداً.
في الثالث عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، خرجت منى ياسين (29 عاماً)، التي نزحت مع أهلها من منطقة الشجاعية إلى الخيم في ساحة مستشفى الشفاء في غزة، مع شقيقها حسام لشراء بعض الأغراض، حرصاً منه على عدم تركها وحدها. يومذاك كان قد هدد جيش الاحتلال مجمع الشفاء الطبي بمن فيه للخروج تمهيداً لاقتحامه، فخرج صحافيون وأطقم طبية ونازحون ومرضى مصابون إلى الجنوب، لكن عائلة منى رفضت النزوح مجدداً.
ما لحقتش أودع أخوي ولا حتى ندفنه، ظلت جثته مرمية لمدة أسبوعين.
وبعد رحلة التجول القصيرة جداً كان الشقيقان عائدين مسرعين إلى خيمتهم، وفي الطريق أمام بوابة الشفاء قصفت طائرات الاحتلال المكان فتفرقا، أصيبت منى بجروح متوسطة، أما شقيقها فقتل على الفور وأصبح جثة هامدة.
هرب أهل منى مجدداً دون أن يعلموا ما حدث لشدة القصف ومجازر الإبادة التي حدثت في ساحات الشفاء كبداية لتوغل آليات الاحتلال، فنقلت الفتاة بسيارة الإسعاف إلى مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، ووجدت عائلتها هناك وأخبرتهم بما حدث لها ولشقيقها.
تقول منى التي لا تزال تعاني ألم الإصابة بصوت يجهش بالبكاء: "ما لحقتش أودع أخوي ولا حتى ندفنه، ظلت جثته مرمية بساحة الشفا، لمدة أسبوعين ما حدا قدر يوصل إله، لأن الاحتلال كان توغل في المشفى وحاصرها وكان يطلق النيران على أي شخص بيتحرك".
كان حسام الأقرب لقلب شقيقته، فكانت أمنيتها الوحيدة أن يحظى بدفنه مباشرة ولا تنهشه القطط أو الكلاب المفترسة، ولا يترك جثمانه وحيداً يتحلل أو يتعفن، لكن الحرب تقتل حتى أبسط الأمنيات التي هي حق بالأساس.
الدفن اللائق شبه مستحيل
تروي الشابة لرصيف22: "حاولنا التواصل مع الصليب الأحمر للوصول إليه وعلى الأقل لدفن جثته، لكنهم اعتذروا فالمنطقة أصبحت ساحة قتال وخطيرة جداً، لا أحد يقترب منها، علمنا من بعض الموجودين أن الجثث تحللت، وبعضها داستها آليات الاحتلال، وجثث أخرى تعفنت تحت أشعة الشمس. طلبنا من الأطقم الطبية محاولة التعرف على شقيقي، لكتابة اسمه على جثته، لكنهم لم يتعرفوا عليه فجسده كله محروق وأعضاء منه متحللة".
وأشارت إلى أنه بعد انسحاب قوات الاحتلال من الشفاء، دفنت جثة شقيقها المتحللة من قبل الأطقم الطبية في مقبرة جماعية حفرت في الساحات، لكن دون أن يكتبوا اسمه، فبقي جثمانه مجهول الهوية.
تختم بحزن: "أخوي كان بيستاهل وداع يليق فيه، كنت بتمنى أحضن جثمانه قبل دفنه وأقبل جبينه وأتلو عليه القرآن، وأنثر عليه الورد لأنه مات شهيد، قتل بدون أي ذنب".
وخلال مؤتمر صحافي سابق للناطق باسم وزارة الصحة في غزة أشرف القدرة في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت، قال "إن الوزارة أخذت على عاتقها حفر مقبرة جماعية في ساحة الشفاء ودفن ما بين 100 إلى 200 جثة منها ما هو مجهول الهوية".
ولا يستطيع بعض الغزيين في المناطق التي يتوغل فيها الاحتلال الإسرائيلي الوصول إلى أقاربهم الذين يقتلون لدفنهم، نتيجة شدة القصف، فيتركونهم جثثاً ملقاة لا يعرف مصيرها، إما في الشوارع أو ساحات المشافي أو تحت أنقاض المنازل المهدمة، ومن يستطيع الحصول على فرصة الدفن يجد نفسه محظوظاً، فيتم الأمر على عجالة دون أي مراسم أو إقامة بيوت عزاء أو وداع، ويأخذ مسؤولية الدفن المارون أو الجيران أو الدفاع المدني، بعضهم يتم التعرف على أسمائهم، وآخرون يدفنون في مقابر جماعية ويبقون مجهولي الهوية.
ووفق شهادات شهود عيان نقلتها وسائل إعلامية فلسطينية، جاءت على لسان من بقوا في منازلهم أثناء توغل الاحتلال لمناطقهم لا سيما في حي النصر غرب غزة ومخيم جباليا شمال القطاع، فإن جثث الشهداء كانت ملقاة على قارعة الطريق في الشوارع متحللة، وبعضها كانت أشلاء وضعت في أكياس، ولم يستطع الدفاع المدني أو الإسعاف الوصول إليها، ولم يتواصلوا مع ذويهم، فأخذوا على عاتقهم دفنهم في أقرب ساحة أرض واسعة في ذات المكان. وقد وصل عدد ضحايا الحرب المستمرة في غزة منذ تشرين الأول/ أكتوبر الفائت إلى نحو 25 ألفاً.
حاولنا التواصل مع الصليب الأحمر للوصول إليه وعلى الأقل لدفن جثته، لكنهم اعتذروا فالمنطقة أصبحت ساحة قتال وخطيرة جداً، لا أحد يقترب منها، علمنا من بعض الموجودين أن الجثث تحللت، وبعضها داستها آليات الاحتلال، وجثث أخرى تعفنت تحت أشعة الشمس
"الحمدلله لقوا حد يدفنهم"
في فناء منزله في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، قرر بسّام فضل (50 عاماً) دفن جثتين مغطاتين ببطانية، كان قد عثر عليهما قريباً من منزله، وهما لشخصين من جيرانه.
يقول الرجل لرصيف22: "منذ بداية توغل الاحتلال في مخيم جباليا، نزحت لإحدى المدارس مع أسرتي، بسبب شدة القصف والقذائف والاشتباكات في كل مكان. خرجنا صباحاً مسرعين دون معرفة من تبقى من الجيران أو من نزح، واستمرينا طيلة شهر تشرين الثاني/ نوفمبر حتى منتصف كانون الأول/ ديسمبر، عدنا لتفقد حاراتنا والمنزل بعد انسحاب الآليات العسكرية من المنطقة".
ويكمل: "وجدت جثتين ملقاتين على الأرض، لم يتمكن أحد من دفنهما أو الوصول إليهما، وكانت روائح الجثث تفوح في الشارع، فارتديت كمامة وقفازاً، ولفيتهما بكفن أبيض من قماش موجود عندي، تعرفت عليهما بصعوبة بالغة فملامح وجهيهما تغيرت وتآكل جسداهما، أحدهما كان جاري والجثمان الآخر لم أتعرف عليه. يبدو أنهما قتلا بقناص، فإصابة الأول كانت في رأسه والثاني في الصدر".
ويتابع أنه بعد مضي فترة على دفن الجثتين تواصل بسام مع أحد أقرباء جاره النازحين للجنوب، وهم لا يستطيعون المجيء للشمال، فكان ردهم: "الحمد لله أنهم لاقوا حد يدفنهم وما ضلوا بالشارع تاكلهم الحشرات والقوارض".
كوارث منتظرة
وما زالت مئات الجثث التي لا يمكن انتشالها ملقاة على الطرق في مختلف أنحاء قطاع غزة، لا سيما في المناطق التي نفذ فيها الجيش الإسرائيلي توغلات برية.
تداعيات هذا الأمر على البيئة خطيرة جداً، في حال تسرب دماء الجثث أو الأشلاء وإفرازاتها المتحللة إلى المياه، فتنتج عنها تفاعلات خطيرة تسبب تلوث مصادر المياه والصرف الصحي، ومن الممكن أن تنتقل الفيروسات والبكتيريا المتحللة مع الهواء فتؤدي إلى تلوثه
وقد حذر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان من مقره في جنيف، من أن كارثة صحية تلوح في القطاع، حيث لا تزال الجثث في الشوارع وتحت أنقاض المباني التي دمرها العدوان الإسرائيلي. وقدر بأن آلاف الأشخاص ما زالوا في عداد المفقودين مع أمل ضئيل في البقاء على قيد الحياة.
وأشارت المنظمة الحقوقية إلى خطورة انتشار أمراض مثل الكوليرا واضطرابات الجهاز المناعي بين السكان.
ووضح التقرير الحقوقي افتقار قطاع غزة إلى الخدمات الأساسية اللازمة للبحث عن الجثث تحت الأنقاض، والتي تتمثل بالآليات والمعدات الثقيلة التي تحتاجها فرق الإنقاذ والدفاع المدني، إلى جانب الشلل الكامل لسيارات الإسعاف والفرق الطبية. كما أن انقطاع التيار الكهربائي يجعل من الصعب وضع الجثث في المشرحة، مما يؤدي إلى عمليات دفن غير لائقة.
ونتيجة لذلك، فإن كوارث صحية قادمة لا محالة كما يقول المرصد، فالتحلل العلني لجثث الموتى لفترات طويلة يسبب أمراضاً خطيرة، منها الكوليرا والطاعون والإسهال، التي يمكن أن تنتشر بين السكان.
وطالب المرصد "بتمكين الطواقم المختصة من انتشال الجثث ودفنها بشكل سليم، وفتح طرق وممرات آمنة تسمح بإيصال الجثث للمقابر ودفنها".
وينصح الباحث الفلسطيني في المجال البيئي وليد مصطفى، بعدم البقاء بالقرب من الجثث المتوفاة خاصة إذا كانت متعفنة أو متحللة، تفادياً لانتشار الأوبئة والأمراض، في ظل عدم توافر مصادر مياه للتغسيل أو ندرة وجود المعقمات.
ويشير في حديثه لرصيف22 إلى أن تداعيات هذا الأمر على البيئة خطيرة جداً، في حال تسرب دماء الجثث أو الأشلاء وإفرازاتها المتحللة إلى المياه، فتنتج عنها تفاعلات خطيرة تسبب تلوث مصادر المياه والصرف الصحي، ومن الممكن أن تنتقل الفيروسات والبكتيريا المتحللة مع الهواء فتؤدي إلى تلوثه، كذلك تسبب اضطرابات نفسية للسكان.
التحلل العلني لجثث الموتى لفترات طويلة يسبب أمراضاً خطيرة.
كما نبه المتحدث إلى أن الدفن غير السليم يساهم في مضاعفة انتشار القوارض والحشرات والديدان، التي يمكن أن تتسرب إلى الغذاء.
ومن التعليمات التي ينصح بها بعض الخبراء أيضاً، ارتداء القفازات وتعقيم الأيدي وغسلها عند الإمكان لمن يتعامل مع الجثث، وعدم وضعها قرب مصادر المياه خاصة مياه الشرب، وضرورة عدم الاقتراب منها خاصة بالنسبة للأطفال الذين قد يفعلون ذلك دون إدراك.
ويختم مصطفى حديثه بأن بعض الدول تعمل على تحنيط الجثث لتفادي مخاطرها البيئية والصحية، لكن هذا يتنافى مع الواقع الفلسطيني والإسلامي، فوفق الشريعة الإسلامية يجب دفن المتوفى بطريقة كريمة. وبالتالي فإن المطلب الأول والأخير يكمن في إيقاف الحرب وإتاحة المجال لأهالي غزة لدفن أحبائهم كما يليق بهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه