شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
يوميات من غزّة (19)...

يوميات من غزّة (19)... "النظر دائماً بعكس اتجاه الصاروخ"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

في مدن الحرب، الحياة غير الحياة، وإن بَدَت متشابهة، مدن منكوبة هدَمَتْ بهجتها الحروب والنزاعات، مدن تُصْبحُ فيها مهجّرًاً في لحظة، ولاجئاً أو نازحاً في الشوارع. مدن غارقة في الموت، الغبار، الأشلاء والدم لتبقى ندوب الحرب حاضرة على واجهات المباني.

هذه لا تشبه مدينتنا 

منذ اللحظة التي بدأت فيها الحرب على قطاع غزة، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أخذت هذه المدينة الحزينة تتحول شيئاً فشيئاً إلى مدينة أخرى لا يعرفها أبناؤها، ولم يعتادوا عليها.

فقد فرضت هذه الحرب معادلةً جديدة، وروتيناً جديداً على سكان القطاع محملاً بجمل وعبارات تُلخص كل آلام الحرب الشرسة، يومياً يعيش ويكرر أكثر من 2.3 مليون إنسان محشورين في 365 كيلومتراً هذه العبارات: "انقطعت المية، انقطع الإرسال، متى الهدنة؟ طابور الخبز، تهجير، تحت الأنقاض، نايمين في الشارع، في خميرة؟ إخلوا البيت، إشحن البطارية، فش كهربا، سولار، شريحة دولية، أخلينا، لا يُمكن الوصول... إجت الميّة، في مفاوضات، بنزين، رابط استلام الطحين، شقة أو حاصل في الجنوب، سينا، حزام ناري، رابط البلوكات، بدنا ملح، مصابين، قصف، الـ100 شيكل صارت 10 شيكل، فش نت".

سحقتنا الحرب دون رحمة، حتى أصبحت بديهيات الحياة الطبيعية في عداد الرفاهيات بالنسبة لنا.

لا يمكن أن نكون "عاديين" في الحرب 

حين يستشهد أحدهم، تركض الكاميرات الاحترافية اللعينة إلى أمّ الشهيد، أب الشهيد، أخ الشهيد، أطفال الشهيد، عرفنا البكاء قريناً للنساء والأطفال للأسف، وكانوا دائماً يعلّموننا أن ذلك عيباً في الرجال لا فيهنّ.

الرجال في الحرب يبكون، فقد توقفوا عن تصنّع القوّة والخشونة، فلا بيوت للعزاء في الحرب ليجلسوا فيها في الصفوف الأولى لاستقبال الناس، أهل غزة جميعاً يمارسون حقهم الطبيعي في الانهيار وهم ينحتون الصبر في آن واحد، وفي نفس الوقت سوف تجد النساء يزغردن لاستشهاد أبنائهنّ، وهذا غريب، لطالما كان غريباً حين أفكّر فيه. 

انقطعت المي، انقطع الإرسال، متى الهدنة؟ طابور الخبز، تهجير، تحت الأنقاض، نايمين في الشارع، في خميرة؟ إخلوا البيت، إشحن البطارية، فش كهربا، في مفاوضات، رابط استلام الطحين، سينا، حزام ناري، بدنا ملح، مصابين، قصف 

لا يمكن أن تكون في الحرب عاديّاً، الأمر ليس بهذه السهولة، أن تبقى حيّاً بعد هروبك من موت يُوَزَّعُ عشوائيّاً لا يعني أنّك نجوت تماماً. يوجد كثير من الأشياء التي ستعلق بك إلى الأبد؛ مثلاً رجفة يدك وأنت تدخّن وتشاهد الأخبار، ورجفة قلبك عند سماع صوت الطائرة، ورجفة عينك حين تثبت رأسك في اتّجاه عكس اتّجاه الصاروخ، ظانّاً أنّك حين لا تنظر إليه لا يأتي إليك، هي حالة واحدة تغنيك عن كل شيء سيعلق بك، فقط في حال نزل الصاروخ عليك وبعث بروحك إلى السماء أنت وكل ما تحمل من رجفات. 

تعريف الحواس من جديد 

منذ اللحظة الأولى للحرب، دخلتُ في نفق آخر، أشياء كثيرة داهمت حواسي، ساهمت في حرف الاتّجاه، ودفعت الخلايا المرهقة إلى طريق جديد. في هذا الإطار تبادرت إلى ذهني شواهد، لا يمكن تجاهلها، ولا يمكن لجسدي تخطّيها، كما لو أنّه لم يحدث شيء، وأعلم أنني بعد الحرب، لن أعود كما كنتُ في السابق. 

الرجال في الحرب أيضاً يبكون، فقد توقفوا عن تصنّع القوّة والخشونة، أهل غزة جميعاً يمارسون حقهم الطبيعي في الانهيار وهم ينحتون الصبر

إن كنتَ في غزة وسط الهدوء المرعب في الليل، ونظرت من شبّاك غرفتك نحو السماء، ستلحظ ضوءاً غريباً، بشعاً، يولّده اصطدام المتفجّرات الصاروخيّة بالمبنى المستهدف، كل من في غزة من الطفل إلى الكهل يمتلك خبرة واسعة حول ذلك، فهنالك صوت رهيب متوقّع الحدوث، بعد هذا الارتطام. وبالمناسبة هذا التوقّع، لا يفيد شيئاً في تخفيف الألم على الجسد، فهَيُلوليّة الصوت أعلى من أن يتحمّلها جسد ضعيف، تتأثّر أعصابه، وشعيراته العصبويّة، بأدقّ التفاصيل.

هناك حركة تفاعليّة تنتج منا مع هذا الصوت تترجمها أجسادنا إلى حركات لا إراديّة، يمكن اعتمادها كرسوم مبدئيّة لمنحوتات ترمز إلى الحرب. لا شك باختلاف ردّات الفعل هذه من شخص إلى آخر، لكنّني لا أنسى حتّى الآن، كيف كان قلبي ينتفض خفقانً من ذاته، دون تحكّم منّي، وكأنّه يريد الانشقاق عن جسدي، والفرار وحده من هذه الورطة.

اللحظة الّتي تلي انشقاق الصوت، وارتعاش الجسد، هي بمنزلة تعريف للخوف والتسليم، فلا تتوقّف نبضات القلب إلّا بعد وقت طويل، ويزداد الأدرينالين في الخلايا، مع ثبات أيدينا على آذاننا وتثبيت الرأس بين الكتفين المنتفضين للأعلى، وكأنّ الجسد على صفيح ساخن.

ذات مرّة، قصفت آلة الدمار هدفاً قريباً من بيتي في منتصف الليل، كنتُ قد غفوت لأقل من ساعة من شدّة الهزلان، لكنّني استيقظت على صوت انفجار كان كفيلًا بأن يفجّر قلبي لحظتها وينفض جسدي كاملاً من السرير مندفعاً إلى الأرض آخذاً معي اللحاف المجعد حولي، هي فزعة ملأت قلبي بضغط الهواء كبالون، لو زاد الضغط قليلاً لتفتّتت عضلته الصغيرة. كان الشعور بالألم لا يُحْتمل، وهكذا يضمن الصاروخ تحقيق مهمته.  

 أن تبقى حيّاً بعد هروبك من موت يُوَزَّعُ عشوائيّاً لا يعني أنّك نجوت تماماً. يوجد الكثير من الأشياء التي ستعلق بك إلى الأبد؛ مثلاً رجفة يدك وأنت تدخّن وتشاهد الأخبار، ورجفة قلبك عند سماع صوت طائرة

في الحرب لا جدران صالحة للحماية، إلّا تلك الّتي تخلو من الشبابيك في وسط البيت؛ نجري لجوءاً أنا وعائلتي هناك، هذا لا يلغي الصوت، ولا الموت، لكنّه احتمال هشّ للبقاء في أحلك الظروف، إنّها محاولة منهَكة للبقاء على قيد الحياة. بين جداران تخلو من الشبابيك؛ بهدف الحماية من شظايا الصواريخ الإسرائيليّة المتطايرة عشوائياً، وشظايا تحطم زجاج الشبابيك. هذه المساحة الصغيرة، كانت فكرة مغادرتها مرعبة عند وصول بلاغ تهديد لمكان قريب منا، حتّى صرنا نقتصد من عدد مرّات الذهاب لقضاء الحاجة، الّتي تتزايد تلقائيًّا، وقت التوتّر.

أيها الإنسان المقيم خارج محيط الحرب لا يمكن أن تتخيّل ، كم القلق والخوف المرافق لتلك الحالة الناجمة عن التقاطع معها، هذا التقاطع غير الاختياريّ، ينطوي على تجربة مغايرة، غير مستساغة لدى الذات البشريّة. حتّى الحيوانات في الحرب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image