شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
يوميات من غزّة (14)...

يوميات من غزّة (14)... "هل ستخطئنا الصواريخ حتى اليوم الأخير من الحرب؟"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الاثنين 27 نوفمبر 202311:43 ص

بعد مرور أكثر من شهرين على الحرب بدا أن أحداث السابع من أكتوبر وما ترتب عليها، والتي انفجرت كحلم سيتلاشى مع صباح اليوم التالي، قد أصبحت مستمرة في الزمان والمكان بلا هوادة ودون ضوء في نهاية النفق.

فاضت المدارس بالنازحين، والمستشفيات بالجرحى والقتلى، وباتت المنظومة الصحية على حافة الانهيار، فيما أصبحت إقامتنا في منزل النزوح في منطقة النصيرات الذي بات يؤوي ما يقارب السبعين شخصاً أمراً واقعاً نعيشه صباحاً ومساءً وليلاً، ونخشى أن يتحول مع مرور الوقت إلى عادة لا نعبأ لها، لكننا مدفوعين بحكم طبيعتنا البشرية إلى قبولها والتكيف معها. 

تفاصيل أصغر من أن تراها الأخبار 

أصبح شغلنا الشاغل نهار كل يوم السعي خارج المنزل لتوفير احتياجات النزلاء الأساسية، وهي مهمة بات القيام بها مع تعاقب الأيام أكثر إنهاكاً وتعقيداً، إذ توقفت الغالبية الساحقة من المخابز عن العمل، وقفزت أسعار الدقيق، وفرغت المحال من المواد الغذائية الأساسية، وأمسى الحصول على أي منها عملاً شاقاً يتطلب إتمامه دفع مبالغ مضاعفة من المال، بينما سطت جموع من الناس على مخازن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين جنوبي القطاع، ونهبت ما فيها من أغذية ومواد أخرى، وبات لزاماً علينا أن نذهب إلى موظفي البلدية لسؤالهم عن برنامج توزيع المياه في منطقتنا، حيث طالت فترة انقطاع المياه لتصل إلى خمسة أيام في الأسبوع، وأمسينا مضطرين أيضاً للتسجيل في المدارس المجاورة كنازحين للحصول على ما يمكن الحصول عليه من مساعدت غذائية نظراً لشحها في الأسواق وارتفاع أسعارها بشكل كبير. 

 أصبحت إقامتنا في منزل النزوح في منطقة النصيرات الذي بات يؤوي ما يقارب السبعين شخصاً أمراً واقعاً نعيشه صباحاً ومساءً، ونخشى أن يتحول مع مرور الوقت إلى عادة لا نعبأ لها  

أما على صعيد التزود بالوقود وتوفير الكهرباء فقد أصبح الحصول على لتر من السولار أو عدة كيلوغرامات من الغاز أمراً مستحيلاً، فيما بات التفكير في توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية بالحصول على ألواح الطاقة مسألة لا تقبل التأجيل، حيث فرغ منزل النزوح من الغاز تماماً، وتوقف المولد الذي كان يمدنا بالطاقة اللازمة للإنارة وشحن الهواتف عن العمل، فأصبحنا نخرج من المنزل مشياً على الأقدام كل صباح لشحن هواتفنا مقابل المال في حي مجاور.

ولاستلام الحوالات المالية المرسلة من الخارج بتنا مضطرين للذهاب بالسيارة إلى خانيونس أو رفح ودفع مصاريف نقل باهظة جداً، نظراً لإغلاق المكاتب التي تقدم هذه الخدمة أبوابها في المنطقة الوسطى من القطاع. 

الماء 

نتيجة لتداعي التطورات السابقة مع مرور الزمن تضاعفت المشقة التي نكابدها يومياً للبقاء، إذ أصبح علينا أن نعد الطعام بالاعتماد على الفحم أو الحطب، وبات دخان المواقد التي أعددناها كيفما اتفق يلبد الممرات والغرف ويلتصق بثيابنا ويزكم أنوفنا، كما باتت مسألة التعامل مع المياه بدءاً من توفيرها من الموزعين بشق الأنفس وبأسعار مضاعفة، مروراً بتخزينها على سطح البناية والممرات الأرضية ورفعها على أكتافنا، وانتهاء بجدل يومي لا يخلو من المشاحنات حول ضرورة الاقتصاد في الاستهلاك؛ معضلة لا نهاية لها، فبالنسبة للرجال أصبح يمكن الاكتفاء "بكيلة" واحدة للوضوء أو غسل الوجه أو قضاء الحاجة، كما يمكن الاستحمام أو غسيل الثياب "بسطل" مياه واحد، أما بالنسبة للنساء والأطفال فكان الاقتصاد في استهلاك المياه مطلباً بعيد المنال.

 يمكن الاكتفاء بـ"كيلة" واحدة للوضوء أو غسل الوجه أو قضاء الحاجة، كما يمكن الاستحمام أو غسيل الثياب بـ"سطل" مياه واحد

وعلى هذا النحو، نصعد نحن الرجال بعد الغروب إلى مخدعنا في الطبقة الأخيرة من البناية، ونتحلق بعضنا حول بعض في الصالون الذي ضاق بنا والذي سيتحول بعد قليل إلى عنبر للنوم، نتبادل حديثنا المسائي منهكين حول جدوى ما قمنا به خلال النهار من جهد لتلبية حاجات أقاربنا في منزل النزوح، فيشتبك أحدنا بالآخر لإقناعه بحل أكثر عملية لتوفير المياه أو لإمداد الطاقة، كما تتعالى أصواتنا ويحتد أحدنا على الآخر بعد أن نستمع جميعا إلى بيان جديد لأبي عبيدة أو تصريح للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، ويمكن أن نصاب في إحدى جلساتنا بالخرس إثر قصف صاروخي قريب أو سماعنا لخبر مقتلة جديدة، مثلما حدث معنا عندما سقط عشرات الجرحى والقتلى في مستشفى المعمداني ومخيم جباليا.

في الأثناء وبعد توقف الإذاعات المحلية عن العمل واستحالة مشاهدة التلفاز فاقم انقطاع الاتصالات في القطاع من حالة الغموض التي نشعر بها إزاء الحرب ومآلاتها، إذ لم يعد بالمستطاع الاتصال بأحد أو الدخول إلى شبكة الانترنت، وتملكنا شعور عارم في اليوم الأول من الحادثة بأننا سلبنا من آخر نفحة أوكسجين كنا نتنفسها للبقاء على قيد الحياة. 

لا تتركونا وحدنا إذا انقطع الإنترنت 

بالرغم من عودة الاتصالات بعد يومين من حادثة الانقطاع الأولى فإنها عادت للانقطاع للمرة الثانية، ثم عادت للعمل من جديد، ثم انقطعت للمرة الثالثة. لتبقى حالة التيه التي تلفُنا سيدة الموقف، ولتصاب رغبتنا بالاطمئنان على أحبائنا المشتتين في المناطق الأخرى بالشلل، ويصبح حتى إجراء مكالمة للإبلاغ عن مكان للقصف أو انتشال الجرحى أو القتلى في عداد المستحيل.

لكن الحصول على المستجدات ممكن من النازحين الجدد، الذين باتوا يتدفقون بالآلاف يومياً إلى جنوب القطاع عبر محور شارع صلاح الدين، إذ خصصت قوات الاحتلال الإسرائيلي المحور لهذا الغرض بعد اقتحامها البري للجزء الشمالي ومكوثها في عدة محاور على أطراف الأحياء في المنطقة.

بعد توقف الإذاعات المحلية عن العمل واستحالة مشاهدة التلفاز، يفاقم انقطاع الاتصالات في القطاع من حالة الغموض التي نشعر بها إزاء الحرب ومآلاتها، ويتملكنا شعور عارم بأننا سلبنا من آخر نفحة أوكسجين كنا نتنفسها للبقاء على قيد الحياة  

سمعنا من بعض النازحين الذين مروا بمنزلنا لالتقاط الأنفاس عن تجربتهم المريرة في المشي لمسافات طويلة قبل وبعد عبورهم لمحور صلاح الدين الذي تحول إلى حاجز عسكري للتدقيق في هوياتهم والتفتيش الشخصي إن كان أحدهم موضع اشتباه، كما حدثونا عن الأوضاع المزرية التي آل إليها النازحون في مستشفيي الشفاء والقدس، والضغط الهائل الذي مورس عليهم للخروج من أماكنهم والنزوح جنوباً، حيث القصف الجوي والمدفعي والاشتباكات البربة في محيط المستشفيين، فضلاً عن القصص التي رووها عن تحول غزة إلى مدينة أشباح ونهب البيوت والمحال التجارية هناك، ورؤيتهم للعديد من الجثث الملقاة في طريقهم دون أن يستطيع أحد الوصول إليها لانتشالها ودفنها. 

كنت أرى في عيون النازحين العابرين وشحوب وجوههم وإنهاك أجسادهم علامات المرارة والانكسار والعجز تجاه ما تركوه خلفهم من منازل وممتلكات وذكريات، وأتذكر ما حدث معنا قبلهم بعدة أسابيع، لكن هذه المرة مع قدر من الذهول إزاء ما آل إليه الميدان في مدينة غزة بتحوله إلى ساحة قتال ومساحات شاسعة من الأنقاض، فضلا عن خلو البيوت التي لم يطلها الدمار بعد من الناس والحياة. 

كيف يرى النازح القديم النازح الجديد؟ 

ومع استمرار تدفق النازحين من شمال القطاع إلى جنوبه، وغياب الأفق لوقف مؤقت لإطلاق النار، وتصاعد التهديد بتوسيع العملية البرية لتشمل جنوب القطاع؛ أصبحت معاناتنا اليومية للنجاة بأنفسنا هي الثابت الوحيد، كما بات ما سيحدث في اليوم التالي لتوقف القتال لغزاً عصياً على الجميع، بمن فيهم من أشعل الحرب وأخذها بالتصعيد إلى هذا المربع المرعب.

بتنا نسأل أنفسنا كل يوم هل ستخطئنا صواريخ الطائرات الحربية وقذائف المدافع وطلقات الرشاشات النارية حتى اليوم الأخير من الحرب؟ هل سنمتلك ما يكفي من جلد لتدبر ماءنا وخبزنا وكهرباءنا إلى ذلك الحين؟ وماذا عن اليوم التالي لتوقف القتال؟ هل سنكون عنده قادرين على العودة إلى ديارنا في شمال القطاع إذا بقيت على حالها الأول ولم يطلها القصف؟ وكيف سنمضي قدما في حياتنا آنذاك؟ وما هو الوضع الإداري والأمني القادم الذي سنكون مدفوعين إلى التعاطي معه كأمر واقع في قطاع غزة عندما تضع الحرب أوزارها؟

كان الظلام قد حل عندما حملت على ظهري كيس الطحين وهممت بالعودة مشياً إلى منزل النزوح، اختفى الدفق البشري الذي كان شارع مخيم النصيرات يضج به خلال النهار، وتبددت رائحة الدخان المنبعث من المواقد البدائية التي أعدتها النساء على مداخل المدارس، فيما توارت المباني المدمرة على جانبي الطريق وكأنها لم تكن، آخذة معها الرائحة الثقيلة للنفايات وروث الحيوانات وسيول المجاري.. لم يتبق في هذا الشارع المهيب بتفاصيله التي لا تحصى سوى بعض العابرين والكثير من الظلام ووقع الخطى المترنحة على الوحل وصوت المطر. 

أصبحت معاناتنا اليومية للنجاة بأنفسنا هي الثابت الوحيد، كما بات ما سيحدث في اليوم التالي لتوقف القتال لغزاً عصياً على الجميع، بمن فيهم من أشعل الحرب وأخذها بالتصعيد إلى هذا المربع المرعب. 

كنت أمشي غير آبه بما يعنيه هبوط الليل في الحرب، يلوح أمامي وجه العجوز الوحيد الذي افترش الأرض في مدرسة بنات النصيرات الإعداداية، والطابور العشوائي لاستلام الطحين، وصياح الأطفال العابثين على شرفات الفصول، وهلع النازحين الذي انفجر في باحة المدرسة بعد انفجار مدو قريب، وهزيم الرعد وهبوب الريح وانهمار المطر في لحظة، في مشهد لم يستدع إلى ذهني سوى كلمة "القيامة".

"كيف وصلت إلى هناك وإلى متى سأبقى هنا ؟" كنت اسأل وأنا أتابع المسير حتى ضللت الطريق، وكان الحمل الثقيل على امتداد المسافة يشعرني أني أراوح مكاني في الطين، لم تكن هناك وسيلة نقل إلا رجلاي المرتجفتان وجذعي النحيل.

"مواجهة جذرية ولعبة كسر عظم وتحطيم للأرقام القياسية ووضع أمني وسياسي جديد في قطاع غزة؟؟" لا يهم الآن، إنها اللحظة الراهنة وحسب، بوضعها الاستثنائي النموذجي، بما تحمله من غموض وإثارة ومغامرة، متجسدة أمام عيني بمعطياتها الكاملة، لا أملك معها إلا أن أكون يقظاً ومقداماً، وأكون صياداً؛ أشبع يومي قدر ما أستطيع بالحياة دون أي التفات للغد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

لعلّ تعريفنا شعوباً ناطقةً بالعربية لم يعد يستقيم من دون الانتباه إلى أننا صرنا شعوباً متفلّتةً من الجغرافيا. الحروب الدائرة في منطقتنا والنزاعات الأهلية والقمع، حوّلتنا إلى مشردين، بين لاجئين ونازحين، وأي تفكير في مستقبلنا لم يعد ممكناً من دون متابعة تفاصيل حياة الجميع، أينما كانوا، وهو ما نحرص عليه في رصيف22. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image