شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
يوميّات من غزّة (21)... ليس الموت فقط، هذا ما نخافه في الحرب

يوميّات من غزّة (21)... ليس الموت فقط، هذا ما نخافه في الحرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الخميس 4 يناير 202411:26 ص

كيف تورطت في قبول إجراء هذه المقابلة؟ ما الذي جعلني أوافق على عرض الصحيفة دون تردد؟ ولماذا أنا خائف إلى هذا الحد؟ فها هي الخطوط العريضة للحوار جاهزة أمامي، فضلاً عن قائمة العناوين والأشخاص الذين سيوصلوني إلى الرجل.

إنها فرصة أتت إلي على طبق من ذهب بعد أن أوشكت على التعفن بين رفوف الكتب وإلقاء محاضرات الفنون الصحفية ونشر مقالات لا يقرؤها أحد. لمَ الخوف إذن؟ هل هي الحرب؟ بالطبع، فليس هناك ما يضاهي الحرب في بث الخوف في نفوسنا؟

نخاف من العاهات المستديمة

ماذا تفعل "سما" الآن؟ تقتل الوقت في رسم لوحة جديدة أم تنتظر انتهاء الحرب كي أصطحبها معي إلى إيطاليا كما وعدتها؟ ماذا لو ماتت "سما" وبقيت أنا حياً في هذه المقتلة؟ هل سأواصل حياتي مقبضاً على معنى آخر لها في "بأس لا ينكسر مهما حدث" كما أزعم دائماً؟ 

ليس الخوف من الموت وحسب ما كنت أشعر به كلما دنت انفجارات الصواريخ مني؛ بل الخوف أيضاً من إصابتي بجرح خطير أو إصابة أحد أقربائي بعاهة مستديمة.

وماذا لو مت أنا وبقيت هي حية؟ هل ستواصل حياتها دون صعاب كثيرة بعد أن تفقد أباً كانت بالكاد قد تعرفت إليه للتو وهي على أبواب سن المراهقة؟

ليس الخوف من الموت وحسب ما كنت أشعر به كلما دنت انفجارات الصواريخ مني؛ بل الخوف أيضاً من إصابتي بجرح خطير أو إصابة أحد أقربائي بعاهة مستديمة.

نخاف من انقطاع الاتصالات

مع انقطاع الاتصالات أتوجس من عدم استطاعتي مهاتفة أخوتي المشتتين في النصيرات ودير البلح للاطمئنان عليهم، أسأل نفسي: ماذا لو فقدت الاتصال بهم حتى نهاية الحرب؟ ماذا لو ظل مصيرهم مجهولاً كهؤلاء الضحايا تحت الأنقاض؟

نخاف من فقدان الخيمة

هل ستصمد هذه الخيمة في وجه الريح والمطر؟ هل ستقي العائلة الجديدة من البرد؟ إنها الخيمة العاشرة التي نقيمها لأقاربنا على هذه القطعة من الأرض في منطقة الزوايدة بعد نزوحنا من شمال القطاع. لقد أجبرنا على ترك منازلنا، وها نحن نقف وجهاً لوجه أمام مخاوفنا من التشرد.

أكثر من مئة وخمسين شخصاً يقيمون في العراء مع دورة مياه واحدة وعراك على كل شيء. نتناسى قليلاً بؤس إقامتنا المؤقتة فنصطدم بمخاوف تلبية احتياجاتنا الأساسية إثر نفاذ الغذاء والوقود وارتفاع أسعارهم، نسهى عن هذا وذاك فتهجم علينا مخاوفنا من المجهول بعد أن تأكد معظمنا من تدمير منازلهم ومصادر عيشهم في مدينة غزة.

نخاف من قول آرائنا

تسعون يوماً ونحن نكابد لتوفير قوت يومنا ومائنا وكهربائنا؛ نقاتل حرفياً في الأسواق ومحطات الوقود ومدارس الأونروا لننجو بأنفسنا. هل هذه معركتنا أم معركة حركة حماس؟ وكم يجب علينا أن نقاتل في معركة لم نخترها؟ وكيف لك أن تنتصر في حرب فرضت عليك فرضاً؟ هل أجرؤ على طرح هذه الأسئلة في مقالة أو على مواقع التواصل الاجتماعي أو في فضاء عام في غزة؟ وماذا عن إثارتها في هذا التوقيت وسط سقوط آلاف الجرحى والقتلى واحتدام المعركة البرية؟ وهل سأمتلك الشجاعة لوضعها على الطاولة إذا أفلحت في محاورة ذلك القائد العسكري الذي لا يسمع الآن إلا صوت المعركة؟ 

هل ستصمد هذه الخيمة في وجه الريح والمطر؟ هل ستقي العائلة من البرد؟ إنها الخيمة العاشرة التي نقيمها لأقاربنا على هذه القطعة من الأرض في منطقة الزوايدة بعد نزوحنا من شمال القطاع

وإذا تجاهلنا الخوف من الإعلان عن آرائنا حول الحرب وجدواها فلن نستطيع التغاضي عن الخوف من مصير المكان الذي نشأنا وعملنا وتزوجنا فيه، إذ نراه يتحول مع مرور الوقت إلى كومة من الركام. نسأل: هل سنعود إلى ديارنا؟ من سيحكمنا بعد الحرب؟ وكيف سيحكمنا؟ وهل من أمل يمكن التمسك به إزاء مستقبل غزة بعد ما شهدناه من مآس ودمار وقطيعة مع الوضع الذي كان سائداً قبل السابع من أكتوبر العام الماضي؟

نخاف من الخوف نفسه

ما من أفق آخر يلوح أمامنا سوى الخوف، لكن إذا أضحى الخوف واقعاً لا مهرب منه بينما يبدو المضي قدماً به وحده أمراً لا يطاق؛ فإن على المخرج من هذه الورطة أن نسلم بالخوف كمعطى ثابت، لكنه ليس المعطى الوحيد.

أين كنا نرى الخوف حاضراً دائماً مع الشعور في نفس الوقت بالتشويق والمتعة المضمرة؟ في الروايات؟ في السينما؟ وما المعطى الذي كان يجعل هذه الحالة ممكنة؟ لا شك أنه المغامرة، مع بطل يسعى لتحقيق هدف نراه مشروعاً. هل أهذي الآن؟ هل هذا ممكن في الواقع؟ 

هل هذه معركتنا أم معركة حركة حماس؟ وكم يجب علينا أن نقاتل في معركة لم نخترها؟ وكيف لك أن تنتصر في حرب فرضت عليك فرضاً؟ هل أجرؤ على طرح هذه الأسئلة؟

نخاف أن نصبح الحكاية

في عالم التخييل المغامرة تنطلق أساساً من الخوف، فهو المسار الوحيد لتحقيق مبتغى البطل، ولم تكن الفرص تلوح إلا من خلف المخاطر، لكن لماذا تكتسب المخاطر كل هذه الهالة من التقييد والتشويش عندما تحل في عالم الواقع؟ قد تكمن الإجابة في الواقع نفسه، إذ نصبح معه مدفوعين للتخلي عن دورنا كمتفرجين لاعتلاء خشبة المسرح بأنفسنا، عندها نرى المخاطر ماثلة أمامنا بوصفها مخاطرنا؛ منغمسة في تفاصيل يومنا ومتسللة إلى تطلعاتنا وشجوننا، فيما يمعن ذوبان الخيط بيننا وبين المغامرة في امتصاص طاقتنا، فنصبح أبعد ما نكون عن الشعور بالتشويق والمتعة. 

بالاستناد إلى نظرة فاحصة إلى الخلف يمكن الاستنتاج أن انفجار الحرب بشكل مفاجئ وتسارع تداعياتها جعل انتباهنا منصب فقط على الخوف من الإصابة أو الموت دون أن نجد وقتا للالتفات إلى قيمة ما نمتلكه من حياة وصحة على أنهما أعطيا لنا سلفاً بلا امتنان، والخوف من إصابة أحبتنا بمكروه دون بذل رحابة الصدر لاحتواءهم أكثر مما كنا نفعل قبل الحرب، والخوف من التشرد دون الانتباه إلى مكاسب الاقتراب من الغرباء واقتسام الموارد المحدودة معهم.

وككل أحد... نخاف من الحرب

عشنا ونعيش حرباً بالغة الكثافة؛ لم تبقِ مكاناً لإدراك قيمة اكتشاف إمكاناتنا في اجتراح البدائل لتأمين احتياجاتنا والاطمئنان على أحبتنا مقابل الخوف من نفاد السلع وانقطاع الاتصالات، ولا متسع لتبين فرص الانفتاح على الآخر عند التعبير عما نؤمن به مقابل الخوف من اللوم والملاحقة والتنكيل، حرب تحول بيننا وبين تقدير اللحظة الراهنة والتحرر من الارتباط بالممتلكات والاستقرار المزعوم مقابل الخوف من الماضي والمستقبل والانحباس فيهما، ولا تدعنا نشعر إلا بثقل سيقاننا وهي تنغرس في الطين بدلاً من التمسك بقبول الواقع الذي يحيل واحدنا إلى ريشة تتقاذفها النسمات آخذة بها إلى مستقرها دون أدنى مقاومة.

حجبت كثافة الحرب هذه الإشراقات التي تشد معاناتنا في الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي تشدها المخاوف إليه؛ جاعلة من كل يوم احتمالاً لمغامرة مشوقة. 

ماذا تفعل "سما" الآن؟ تقتل الوقت في رسم لوحة جديدة أم تنتظر انتهاء الحرب كي أصطحبها معي إلى إيطاليا كما وعدتها؟ ماذا لو ماتت وبقيت أنا حياً في هذه المقتلة؟ وماذا لو متت أنا وبقيت هي حية؟ 

أجلس في الليل واضعاً يدي على خدي، وأسمع دوي المدافع وأفكر: كم هي موحشة الشوارع الآن، وكم سأكون مثاراً للشبهات عندما أذهب لأماكن لم أزرها من قبل كي أصل أخيراً للرجل الذي سيحاورني، هل سيميزني رجال الأمن في الزقاق الغريبة؟ هل سيحققون معي ويكيلون إليّ الاتهامات أم سيصدقوني ويتركوني أجري حواري الخطر؟

يصمت ذهني وتهدأ ضربات قلبي قليلاً، ثم أسمع هاتفاً يقول: لقد حانت ساعة العمل خارج الجدران؛ في الطرقات وبين الناس، وسط صور حية متجسدة ومقولات من لحم ودم، بعيداً عن الرطانة والتنظير وأبراج المثقف العاجية، فأتمتم: إنه النصف المملوء من كوب الحرب وها أنذا، الصحافي كما يجب أن يكون.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

أكثر من مجرد أرقام

نظراً إلى الحروب والأزمات الاقتصادية والكوارث الطبيعية، شهد العقد الماضي تشريد ملايين الأشخاص في منطقتنا.

سواء كانوا نازحين داخلياً، أو اضطروا إلى عبور القارات بحثاً عن منزل جديد، فإن الأشخاص الذين تم تشريدهم غالباً ما يتم تمثيلهم على أنهم أرقام ثقيلة العبء في وسائل الإعلام.

نحن مهتمون بقصصهم الشخصية. نؤمن بأن وسائل الإعلام لديها واجب تسليط الضوء على الكرامة الإنسانية، لا التقليل منها.

Website by WhiteBeard